قراءة ثانية لكلاسيكيات القصة الروسية القصيرة

د. عبد الرحمان إكيدر


ما سر عظمة القصص الروسية الكلاسيكية؟ وكيف يمكن قراءة هذه النصوص التي تعود إلى القرن التاسع عشر قراءة متجددة تسلط الضوء على واقعنا المضطرب؟ وكيف يمكن لهذه النصوص أن تمد الكُتاب بقواعد الكتابة الإبداعية وأن تخصب تجربتهم؟ تشكل هذه الأسئلة وغيرها محور الكتاب الجديد "سباحة في بركة تحت زخات المطر" A Swim in a Pond in the Rain للروائي الأمريكي الشهير جورج ساوندرز George Saunders مؤلف القصص القصيرة، والحائز على جائزة البوكر سنة 2017 عن روايته "Lincoln in the Bardo". ينبثق الكتاب الجديد من مقرره الدراسي الطويل حول روائع كلاسيكيات القصة الروسية القصيرة في القرن التاسع عشر.


 

على مدى السنوات العشرين الماضية، كرّس جورج ساوندرز جهده لتدريس الكتابة الإبداعية في جامعة سيراكيوز Syracuse لفائدة طلبة الماجستير في الفنون الجميلة، وما رافق ذلك من دورات تكوينية وورشات إبداعية. وقد جمع خلاصة تجربته في هذا المجال في كتابه الموسوم "السباحة في بركة تحت زخات المطر"، الذي يعتبر قراءة ثانية لكلاسيكيات القصة الروسية القصيرة، كما يكشف عن عمق تجربة في تدريس هذا الفن. يصطحب المؤلف القارئ في رحلة للغوص بين صفحات سبع قصص لكبار المبدعين الروس مثل تشيخوف Chekhov، تولستوي Tolstoy، تورجينيفTurgenev وغوغول Gogol، مصحوبة بتحليل مثير ومنير.

يقدم لنا ساوندرز في هذا العمل بعضًا مما اكتشفه هو وطلابه معاً على مر السنين، كاشفاً من خلال هذا التحليل الأدبي سر عظمة هذه القصص، وما يجعلنا منبهرين بها دائماً، وما يمكن أن تخبرنا به عن أنفسنا وعالمنا اليوم. يكتب المؤلف في مقدمة كتابه: "سنقوم بإدخال سبعة نماذج مصاغة بدقة من العالم، مصممة لغرض محدد، ربما لا يؤيده عصرنا بالكامل، لكن هؤلاء الكتاب قُبلوا ضمنيًا كهدف للفن - أي، لطرح الأسئلة الكبيرة، أسئلة مثل، كيف يفترض بنا أن نعيش هنا؟ ما الذي يجب علينا تحقيقه؟ ما الذي يجب أن نقدره؟ ما الحقيقة، وكيف يمكننا التعرف عليها"؟ يتعامل ساوندرز مع القصص بشكل تقني ولكن بطريقة يسهل الوصول إليها، ويشرح من خلالها كيفية عمل السرد؛ وسبب بقائنا منغمسين في القصة، مشيراً في هذا الصدد إلى الفضائل الأساسية التي يجب على كل كاتب قصة أن يعززها، ومذكراً أن عملية الكتابة هي حرفة تقنية، ولكنها أيضًا طريقة لتدريب الذات على رؤية العالم بانفتاح وفضول جديدين. يقول ساوندرز: "أنا لست ناقدًا أو مؤرخاً أو أدبياً أو خبيرًا في الأدب الروسي، أو أي شيء من هذا القبيل، لقد كان محور حياتي الفنية هو محاولة تعلم كتابة قصص مؤثرة عاطفياً يشعر القارئ من خلالها بأنه مضطر لإنهائها، إن الهدف من هذا الكتاب هو التشخيص بشكل أساسي: إذا جذبتنا قصة، وأبقتنا متلهفين لقراءتها حتى النهاية، وجعلتنا نشعر بالاحترام، فكيف إذن فعلت بنا كل ذلك"؟

يعتبر المؤلف أن المقالات المكونة للكتاب تتجاوز التحليل النقدي الأدبي المتداول عند النقاد والأكاديميين، إن الغاية التي يسعى إليها تكمن في مساءلة النص الأدبي ومعرفة المبررات التي دفعت كاتب القصة إلى اعتماد ترتيب معين للأحداث أو توخي أسلوب دون آخر أو حوار دون سرد، أو رؤية سردية معينة ... إنه يغوص في أقانيمها الثلاثة (البداية – الوسط - النهاية)، محاولاً معرفة طريقة حبكها وإبداعها وتخيل سبب ظهورها بالطريقة التي تمت بها. فهو يحاول أن يتتبع نوايا المؤلف - والنوايا المفقودة، والحدوس المضمرة، والارتدادات الغريزية عما هو عادي أو واضح - عن كثب وبشكل وثيق، في كل خطوة، وخلال كل جملة. يشير المؤلف إلى أنه مقتنع بأن هذا النوع من القراءة يعد أحد أفضل الأنواع وأخصبها.

يحلل ساوندرز قصص أنطون تشيخوف الذي يعتبره واحداً من كبار المبدعين الذي خلّف لنا إرثاً أدبياً خالداً من القصص، التي أحدثت انقلاباً حقيقياً في القصة القصيرة. وليس غريباً، لهذا السبب، أن يظل تشيخوف معاصراً حتى اليوم، سيما وأنه يرسم لوحة إنسانية عريضة لشتى النماذج البشرية من مختلف درجات السلم الاجتماعي، بلغة تعبيرية ورمزية من مستوى عالٍ. ينطلق ساوندرز في تحليله لقصة "في العربة" 1897 محاوراً النص ومقاطعاً إياه بعدد من الأسئلة كما هي عادته في تفكيك النصوص؛ يقول: "ما الذي يثير فضول القارئ في هذه القصة؟ إلى أين تتجه أحداثها برأيك؟ لماذا ذهب تشيخوف بهذه الطريقة دون غيرها"؟

يركز مؤلف القصة على شخصية ماريا المعلمة التي تعمل في مدرسة منعزلة، والتي تشق طريقها يومياً من منزلها في المدينة إلى مقر عملها في القرية على متن عربة، يكشف لنا المؤلف عن شعورها المتسم بالكآبة كما لو أنها كانت تعيش في هذه المناطق لفترة طويلة جداً، وبدا لها أنها تعرف كل حجر، وكل شجرة. هنا كان ماضيها وحاضرها، ولم يكن بإمكانها أن تتخيل أي مستقبل آخر غير المدرسة، ومسار الذهاب والإياب... يتدخل ساوندرز ليطرح تكهنات حول ما سيؤول إليه الوضع، شأنه في ذلك شأن أي قارئ، يقول: "لقد أشارت القصة إلى أن ماريا غير سعيدة ولا يمكنها تخيل أي حياة أخرى لنفسها. نقرأ ذلك ويخالجنا شعور بأن القصة تعِد بالكثير وأنها ستفصح عن قول شيء آخر... حسنًا، هذا يدفعنا، بل يشوقنا، لمتابعة باقي الأحداث ومعرفة ما سيحصل. ربما قد يحدث شيء ما ينقذ ماريا من مستقبلها المعتم، قد تكون علاقة غرامية، مثلاً؟ يظهر أحد ملاك الأراضي الجذابين والأثرياء إلى جانبها في العربة، لكن لا شيء تفعله؛ مالك الأرض عديم الفائدة وغير فعّال بعض الشيء، وعلى أي حال فماريا منشغلة بمشاكلها مع بواب المدرسة، الذي يتعامل بوقاحة معها ويضرب الأولاد".

يقرأ ساوندرز القصة سطراً سطراً، ويتابع كل صفحة بملاحظاته، متعجباً من كل تأثير، وملتقطاً كل علامة من علامات الترقيم لفحصها، وفي بعض الحالات يستكشف ترجمات مختلفة لنفس القصة. ويكتب توصيفاً "(لـفيزياء الشكل): الكفاءة، والسرعة، والخصوصية، وقبل كل شيء، التصعيد. هذا كل ما في الأمر، في الحقيقة: تنبني القصة على نظام تصعيد مستمر"، ويشرح لنا أن "القطعة النثرية تكتسب مكانتها في القصة لدرجة أنها تساهم في إحساسنا بأن القصة (لا تزال) تتصاعد". يركز ساوندرز على نقاط الاشتباك العصبي، وينظر إلى كل القرارات الدقيقة والهادفة التي تنتج كل جملة، أو فقرة، بطريقة شخصية ومقنعة. إنه يقدم واحدة من أكثر الصور دقة وجمالاً لما يشبه أن تكون داخل ذهن الكاتب نفسه، ليشير إلى أن الكتابة الجيدة تعمل في علاقة معقدة مع توقعات القارئ، وترفعها وتقودها، ثم تتجاهلها أو تتجاوزها. يقول في هذا الإطار: "ليس بوسعنا القول بأن ذلك يعد خيبة أمل؛ إذ لا يمكن للقصة أن تفعل شيئًا مع ماريا، فهذا سيكون خداعًا. سنسأل، ما الغرض منه، إذن؟ يجب على الكاتب أن يجد نقطة جيدة بين قرار سعيد بشكل غير معقول ورفض قاسٍ للرضا. عليه أن يكتشف ما هي الحركة الموجودة، وما هي الحرية المتاحة، كل ذلك في سياق الظروف الخاصة للقصة".

ينتقل ساوندرز بعد ذلك لتحليل قصص ليو تولستوي، ففي ذروة قصته "الإقطاعي والفلاح" 1895، التي يسرد فيها ضياع التاجر الثري فاسيلي أندريفيتش Vasili Andreevich في رحلة شهدت ظروفاً مناخية قاسية. حيث يكون هذا التاجر رفقة الفلاح نيكيتا Nikita وهو أحد العاملين لديه، وكان هدف الرحلة شراء غابة من أحد الإقطاعيين، يكون فاسيلي عجولاً وعديم الصبر، ويتمنى أن يصل إلى مقصده قبل الآخرين ممن ينافسونه في شراء هذه الغابة، وفجأة يجد الإقطاعي والفلاح نفسيهما وسط عاصفة ثلجية ليلية عنيفة. وعلى الرغم من ذلك، وبسبب جشع التاجر يصر على مواصلة الرحلة، ليضلا معاً طريقهما، يقرر التاجر بعد ذلك ترك نيكيتا الذي يصارع الموت بمفرده بعد انخفاض درجة حرارة جسمه؛ إذ لم يكن يرتدي ما يكفي من الملابس الدافئة. بيْدَ أن جهود التاجر باءت مجدداً بالفشل ليستسلم للعياء وينتهي به المطاف إلى جانب نيكيتا. ويتخيل حقيقة وفاته لأول مرة، ويرى سيقانًا طويلة من الشيح "تُقذف بشدة من تحت الجليد". وبسبب هذا تنتاب فاسيلي موجة روحانية أخلاقية، تُنهي أنفاسه الأخيرة. وهنا يشير تولستوي مجدداً إلى أحد المعاني والدروس الشهيرة التي يتناولها دائماً في أعماله؛ وهي أن السعادة الحقيقية تكمن في أن تعيش من أجل الآخرين.

يذهب ساوندرز إلى إن الكتابة عند تولستوي لا تزال ثابتة في صدقها الوصفي، وشكلها الإعجازي. وهذا في رأي كاتب القصة أيضاً: فهو لا يفكر فقط في كيفية سرد الأحداث بشكل أكثر فعالية. بل إنه يبرز جهده في تلك اللحظة من الكتابة، وفي خضم كل "اختيار متكرر" (وهذا هو ما يجعل القصة تعمل)، تخضع القصة لرؤية معينة للعالم، والتي لا تزال ثابتة بالنسبة له حتى وهو يجاهد لتحقيقها إلى حيز الوجود. غالبًا ما ينصب تركيز ساوندرز على الديناميكية الأمامية للقصص، في "نمطها الضيق والمتصاعد"، وفي "نظام عالٍ من التنظيم، حيث تكون السببية أكثر وضوحًا وتعمدًا". إن الكتابة الجيدة هي "النتيجة التراكمية لكل هذا الاختيار المتكرر على مستوى الخط، تلك الآلاف من القرارات الصغيرة والتفاصيل الدقيقة"، وهذا ما يجعل القصة تعمل على النحو الذي بين أيدينا. يحث ساوندرز على ذلك معتبراً أن واحدة من متع هذا الكتاب هي الشعور بأن تفكير القارئ يتحرك للخلف وللأمام، يحلل ويُشرّح ليقيم داخل القصة ويكتشف قوتها.

من المؤكد أن قراءة مثل هذه الأعمال القصصية من جديد تثير فينا الفضول والاهتمام، وتزيد من شغفنا لهذه النصوص الخالدة. لقد عمل ساوندرز على أن يقدم لنا خلاصة تجربته في قراءته لهذه النصوص وتحليلها، مؤكداً أن هذه الأعمال سوف تتغلغل في أي تجربة كاتب محتمل، وستسهم في تخصيب أعماله في نهاية المطاف، فهي تمده بقواعد الكتابة الإبداعية الممتعة. كما أن مقالات الكتاب السبعة مخصصة أيضاً لأي شخص مهتم بكيفية عمل الخيال، ولماذا أصبح أكثر صلة من أي وقت مضى بالواقع وفي هذه الأوقات المضطربة. وهذا ما جعل مجلة "فانيتي فير" Vanity Fair تصف الكتاب بأنه "سخي ومرح وعميق إلى حد مذهل"، وهذا ما تؤكده أيضاً صحيفة "ديلي تلغراف" The Daily Telegraph حين اعتبرت أن قراءة هذا الكتاب "ممتعة إلى أقصى حد". "السباحة في بركة تحت زخات المطر" كشف عميق ليس فقط لكيفية عمل الكتابة الرائعة، ولكن لكيفية عمل العقل نفسه أثناء القراءة، وكيف تجعل قراءة القصص وكتابتها التواصل الحقيقي ممكنًا.

 

(الصورة الرئيسية للمقال لـ: Illustration by: Adam Rappe, Columbia College Chicago)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها