الرُّموز والدِّلالات الخَفِية في فيلم "المُخْتَارُون"

عبد الهادي شعلان



إذا دافع شخص عن حياتك، وأنقذ روحك من القَتْل، ثم قَتَلَ من كان يريد أن يقتلك، ترى ماذا ستفعل مع هذا المُنْقِذ؟ هل يمكنك أن تستمع لكلام ابنتك حين تخبرك أنها تشعر أن هذا الرجل خائن، وأنها تكاد تقول إنه يُدَبِّر أمراً؟ هل ستصدِّق ابنتك وتعتقد أن مُنْقِذ حياتك من الموت هو من يريد إيذاءك والخلاص منك؟ أنت تعرف أنه كاد يموت من أجلك، فكيف يمكنك أن تتصوَّر أن الخائن يُضَحِي بنفسه وينقذ فريسته من أجل السيطرة الكاملة على مقدرات من أَنْقَذَه؟ كيف يمكنك أن تخالف مشاعر قلبك وتظن أن من أنقذك هو خائن؟ هذا يمكن أن تراه إذا شاهدت فِيلْم: "المختارون" إخْرَاج: علي مصطفى، شارك فيه: سامر إسماعيل، منال عوض، محمد اﻹبراهيمي، حبيب غلوم، ربى بلال، نبيل كوني.



حدث في المستقبل

في البداية تم سرد الأحداث من خلفية الشَّاشَة عن طريق راوٍ يروي الأحداث، سنكتشف في النهاية أن الراوي هو عيسى، وأنه داخل أحداث الفِيلْم بالفعل، وأنه أتى من المستقبل ليروي ما عاينه وعاشه من أحداث، وكأنَّ الفِيلْم يؤكد أن هذه أحداث وقعت بالفعل في المستقبل.

يطالعنا الفِيلْم من المشهد الأول بحَافِلة كبيرة تسير فوق كوبري لامع ونظيف، وكأن الكوبري موضوع في قلب السَّحَاب، لقد أخْفَى صُنَّاع الفِيلْم المساحة الَّتِي تحت الكوبري؛ حَتَّى بدا كأنَّه مُلْتَصِق بالسحاب، ومتداخل فيه، وكأنه كوبري عَالِق، لا يفصله شيء عن السَّمَاء، رأينا الحافلة وهي تسير ملتصقة بالسَّمَاء، والسَّمَاء تتابع تحركها.

الحافلة رُبَّما تعني الزمن، أو التاريخ، أو مسار البشرية عبر تطورها، هناك دلالات كثيرة يمكن أن تخضع لها تأويل وجود الحافلة في هذا المشهد المتعمَّد، فقد كان من الممكن أن تسير الحافلة في أي طريق، وتؤدي الغَرَض الَّذِي قامت به، واتضح أن الرجل الغريب غير العادي، والَّذِي رَكِب الحافلة قال لشعيب جملة جعلت المُشَاهِد في حالة ترقُّب، قال الرجل: "احذر أصحاب الرايات السوداء، فهم قوم لا يعرفون العهد ولا الميثاق".

أخبرنا الرجل قبل أن ينزل من الحافلة ويسلك طريقه الَّذِي ليس له نهاية؛ أن الأحداث قادمة على التعامل مع قوم تسري الخيانة في دمائهم، فلا عهد لهم ولا ميثاق، فشدَّ المُشَاهِد لمتابعة أصحاب الرايات السوداء، والسواد يشير للظلام، والليل، والموت، والخديعة، والخفاء، فالإشارة للرايات السوداء يوحي بالخوف والحذر، ويبعث في النفس رِيبَة، ثم يزاد الغموض حين يروي السَّارد أنَّنا سندخل لعالم تم تلويث المياه فيه، وأن نقطة واحدة كافية لتدمير مناعة الجسم، وأن هناك طائفةً إنسانيَّة تتمسَّك بإيمانها بإنسانيتها هي الَّتِي يُرَاد السيطرة عليها من أصحاب الرايات السوداء، لقد هَيَّأنا صُنَّاع الفِيلْم للصراع قبل الدخول فيه.

رموز تحتاج لتفسير

يطرح الفِيلْم مجموعة من الرموز الَّتِي من الممكن أن يكون لها دلالات متعدِّدة المعاني والمَقَاصد، فإذا نظرنا للأسماء الَّتِي تم اختيارها للأبطال والمشاركين في العمل سنجدهم قد تم إطلاق عليهم أسماء: آدم، شعيب، داوود، إدريس، موسى، مريم، عيسى، ولِمَا لهذه الأسماء من دلالة تاريخية ودينية وبما يُضْفي بعض الإسقاطات والتصورات على هذه الأسماء، وبما يضفي على الموضوع الخيالي صبغة تجميع عصور شتى في بقعة واحدة، كما أن مهاجمة موسى للجميع وما يحمله من مبادئ سيطرة القوة وانتصاره للأقوى له دلالة أيضاً، ولا نستطيع أن نظن أنه قد تم اختيار هذه الأسماء بهذا التجمُّع الواضح في الفِيلْم بعبثيَّة ودون قصد يراد به معنى.

لا يمكننا أن ننسى أن الموقع الَّذِي تم فيه التصوير هو مكان خاص بالطائرات، مكان من خلاله يمكن أن يجعل الطائرة المَعْطُوبة تطير، اختيار المكان كان متعمَّداً؛ للرغبة في الإيحاء بالطيران من هذا العالم الفاسد.

نلاحظ أن عملية تفجير مكان الماء الصافي الوحيد كان من قبل موسى، ورغبته في القضاء على الحياة النقيَّة، حَتَّى يبقى في النهاية طائفة واحدة في الحياة له دلالته، لقد وضع الجميع في موقف العطش، كان يبحث عن المُخْتَار بين من قال عنهم خائبين.

أيضاً وجود العلامة الَّتِي تشبه الرُّمح الثُّلاثي أو الشَّمْعِدَان الثُّلاثي على رقبة المميزين لها دلالتها، كما أن وجود شخصيَّة جَمَال الَّذِي كان يحاول أن يكون وصياً على الجميع، وظهرت رغبته في التدخل في سلطة الأمور؛ لأنه يرى في نفسه الكفاءة والقدرة على القيادة، كان يريد التحكُّم في الموقف والسيطرة على الجميع، وأطلق الرصاص على عيسى ليكون هو القائد، لكن المسدس كان فارغاً، وبان أن زعامة جَمَال فارغة كالمسدس الَّذِي في يده، فقط وجود الاسم واختياره المتعمَّد له دلالته، وتحتاج للتعمُّق والتفسير.

كما نلاحظ في نهاية الفِيلْم المتميزة أنه قد حدث موقف دلالي آخر، فقد ضحَّت مريم بنفسها وروحها من أجل عيسى، لقد فضَّلت أن تنقذ روحه مقابل روحها هي؛ كي يستمر هو في مقاومة أصحاب الرايات السوداء، والحفاظ على طهارة العالم.

هذه الرموز والإشارات تحتاج لتفسيرات ودلالات تخضع لثقافة المتلقي وقدرته الخاصَّة على إدراج هذه الرموز وفق معايره الَّتِي يقيس عليها الرموز، فرُبَّما يختلف التأويل من شخص لآخر، ولا نحتاج لمُصَادَرة تأويل خاص، أو فرض تأويل خاص.

الخيانة لا تظهر مباشرة

أسلوب الخيانة الَّذِي اتخذه موسى للخداع كان يعتمد على ثقة الآخر، لقد استغل عاطفة شعيب حين قتل رجلاً من أجل حماية شعيب، وبالتالي اكتسب موسى ثقة شعيب ودخل قلبه، وعندما تمكَّن موسى من معرفة كل شيء عن المكان الَّذِي يعيشون فيه قَتَلَ شعيب بوحشيَّة، وبان أنه كان يخطِّط لذلك من قَبْل، مع أن مريم ابنة شعيب كانت تستشعر الخيانة في نظرات عينيه، ولقد أجاد الممثِّل سامر إسماعيل في دور موسى، فبانت على ملامحه تعبيرات الخيانة الكامنة تحت الجلد، كان يبدو خائناً من الداخل، ينبغي أن تدقِّق في ردود أفعاله حتى ترى الخيانة، أيضاً كان عيسى يثق ببراءة في موسى، ولم يُرَجِّح رأي مريم في خيانة موسى، فقد سعى موسى لكي يكتسب الثِّقة واطمئنان الآخرين له، حَتَّى إن المشاهد يكاد يقع في الحيرة، فلسانه يشي بالثقة، وإيماءاته تجعل الخيانة تظهر للمدقِّق.

في الموقف المفصلي بين موسى وشعيب، حين أراد أن يأخذ شعيب السكِّين من موسى، ظهر أن علاقة موسى بالسكِّين علاقة حميميَّة، وقال إنها قلبه، وظن المُشَاهِد أن علاقة موسى بالسكِّين علاقة حِمَاية من موقف قديم، ثم اتضح أنها علاقة خيانة، كانت السكِّين رمزاً للدموية، والرغبة في السَّفْك والقَتْل.

حدوث معظم أحداث الفِيلْم في الليل مَنَحَ المُشَاهِد مزيداً من الحساسية تجاه الخيانة الَّتِي لا تنبت إلا في الليل والظلمة، ومَال لون الشَّاشَة في معظم الأوقات للحُزن، وكانت الإضاءة متناسبة تماماً مع حالة الفِيلْم الَّتِي لا تتطلَّب وضوح النهار بتجلياته المُبْهِجة، فالليل كان مَكْمَن أصحاب الرايات السوداء.

رأينا أن موسى حلَّ ضيفاً على شعيب وتحوَّل الضيف لمحتل ومخرِّب، حَتَّى إن الفِيلْم صار يدور حول موسى على الرغم من عدم وجوده في صدارة المشهد، فهو من يُحرِّك الأحداث في الخليفة، يصنع الفِخَاخ، ويفجِّر مكان تخزين الماء، ويصطاد من رحبوا به ويقتلهم ويحرقهم.
 

الإنسان هو المبتغى

كان لا بد في النهاية من صراع مزدوج، وقد أحسن صُنَّاع الفِيلْم في مشهد الصراع النهائي بين موسى وعيسى. لقد وضع موسى حياة مريم على المَحَك، ربطها بجنزير حديدي على طرف جناح طائرة، وحين أراد أن ينقذها عيسى، اكتشف أنه لو تحرَّك لخنقتها السلاسل الحديدية، كان المشهد معبِّراً في الإيحاء بأن موسى يستغل مريم لاصطياد عيسى، وفي اللحظات الأخيرة تُضَحِّي مريم بنفسها من أجل أن يستمر عيسى، ومن أجل أن تستمر الإنسانيَّة، ويقول الفِيلْم كلمته حين يخرج عيسي متوجهاً ناحية الشمس في الأفق، بأن البداية قادمة مهما حدث، وأنه لا مكان للخيانة والخونة على ظهر الحياة، الحياة لا يستحقها سوى من يحمل في قلبه روح إنسان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها