مقارنةٌ.. بين نُورُ الدِّين مَحْمُودٌ وصلاحُ الدِّين الأيُّوبيّ

ترجمة: د. علاء مصري النهر

ينظر مُؤرِّخو العصور الوسطى المُسْلِمون إلى كُلٍّ من نُور الدِّين وصلاح الدِّين على أنَّهما نموذجان مِثالِيَّان يُحتذَى بهما1، وقد عُقِدتْ -حتَّى في عصر صلاح الدِّين نفسِه- مُقارَنَةٌ بينه وبين سَلَفِه نُور الدِّين ذائِع الصِّيت. فعِمَادُ الدِّين الأَصْفَهَانِيُّ يرى أنَّ كُلّاً من نُور الدِّين وصلاح الدِّين كانا أَهَلًا للتقدير، وأنَّ صلاحَ الدِّين هو الوريثُ الحقيقيُّ لنور الدِّين. مع ذلك، يُعَدُّ صلاحُ الدِّين -في رأيه- أعظمَ الاثنين: فـ"قدِ اقْتَدَى به ]أي بنُور الدِّين[ في جميعِ ما اتَّصَفَ به... فتلقَّنَ منه مَبَادِئَ الخَيْرَاتِ، ثُمَّ جاوَزَ بها في أيَّامِه الغاياتِ"2.

وفي خِضَمِّ الكتابة التاريخيَّة إبَّان العصر الأيُّوبي نجد أبا شامة (ت. 665هـ/1258م) يَحِنُّ إلى إعادة تحقيق الوحدة الإسلاميَّة وإحياء فرض الجِهَاد؛ فيُوسِم عمله التاريخيَّ بـ"كتاب الرَّوْضَتَيْنِ"، ويُعَدُّ هذا العنوانُ الخياليُّ إشارةً إلى دَوْلَتَي نُور الدِّين وصلاح الدِّين. ولمَّا يُقيِّمُ هذين الرَّجُلَيْنِ العظيمين، يعلن أيضًا أنَّ "صلاحَ الدِّين أكثرُ جِهَادًا"3. ولكلمة رَوْضَة كذلك –لاسِيَّما في هذا الجوِّ الدِّينيِّ المُفعَم جِدًّا- دلالاتٌ فردوسيَّةٌ، وهذه ما قد أُلمِعَ إليها –وعن قصدٍ- هنا. ويُؤكِّد أبو شامة أفضليةَ صلاحِ الدِّين من نُور الدِّين بالتَّشْدِيد على أنَّ صلاحَ الدِّين حكم بِلادًا أكثرَ، وأهمُّ من ذلك كُلِّه أنَّه هو مَنْ فَتَحَ الأرْض المُقدَّسة4.

ترى الدراساتُ الحديثةُ أنَّه من المحتمل أنَّ كاتِبَ سِيرَةِ صلاحِ الدِّين الآخَرَ المُعاصِرَ –ابنَ شَدَّاد– رُبَّما كتب سِيرَتَه عن صلاح الدِّين استجابةً لعمل ابن الأثير المُعنوَن بـالتاريخ الباهِر في الدَّوْلَة الأتابِكِيَّة بالمَوْصِل، فنصفُه مُكرَّسٌ لذكر شَمَائِل نُور الدِّين؛ فنُورُ الدِّين يُقدَّمُ في هذا العمل على أنَّه حاكِمٌ مثاليٌّ، ومُجاهِدٌ، وزاهِدٌ، وتَقِيٌّ، وعادِلٌ. ويرى هولت (Holt) أنَّ ابنَ شدَّاد –بدوره– عندما كَتَبَ سِيرَةَ صلاح الدِّين لم يَقُمْ بذلك فقط من أجْل إرْضاء أسياده الأيُّوبيين –أُسْرَة صلاح الدِّين– بل أيضاً من أجْل التَّفوُّق على إنْجازات ابن الأثير. علاوة على ذلك، أحبَّ أنْ يُشرْعِنَ استيلاءَ سيِّده على بلاد أُسْرَة نُور الدِّين واستمرار الحُكْم الأيُّوبِيِّ بعد موت صلاح الدِّين في سنة 589هـ/1193م5.

بغضِّ النظر عن الجانب التَّنافُسِيِّ في تأليف سِيرَتَي نُور الدِّين وصلاح الدِّين، الذي حلَّله هولت بدقَّةٍ، يظلُّ -وبما لا يدع مجالًا للشكِّ- كِلا هذين الزعيمين قائِدًا عسكريًّا بلا أحقيَّةٍ إسلاميَّةٍ في الحُكْم؛ فقد وصلا إلى السُّلْطَة عبر قوتهما العسكريَّة، ومن ثَمَّ لم يتوافَقْ حُكْمُ أيٍّ منهما مع متطلبات الشريعة، فشعر كُلٌّ منهما بالحاجة إلى الشرعية من الخليفة من أجْل سيطرتهما على بلادٍ خاضِعَةٍ لحُكْم أُمَراء مُسْلِمين آخَرِين. فضلًا عن ذلك، من الجليِّ الواضِح أنَّ كُتَّابَ سِيرَتِهما المُتنافِسِين يبذلون جُهُودًا عظيمةً لتصوير سيِّديهما بأنَّهما قد أدَّيا فرضَ الجِهَاد على أَكْمَل وجهٍ، وجسَّدا فَضَائِلَ المُجاهِدِ المثاليِّ، حتَّى عندما تشير الشَّوَاهِدُ بوضوحٍ إلى جَوَانِبَ مختلفةٍ تمامًا.

عند التَّعامُل مع المصادر الإسلاميَّة –بوجهٍ عامٍّ- من الصعب التَّحدُّث بثقةٍ عن دوافِع الأبْطال في التَّصدِّي للحملات الصَّلِيبيَّة، فكثيرًا ما كانت هذه المَصَادِرُ تُكتَبُ بعد الحوادِث التي تصفها، ومن ثَمَّ تُظهِرُ تعصُّبًا وتحيُّزًا واضِحَيْنِ. صحيح أنَّ نُورَ الدِّين هو الذي يُمدَح بانتظامٍ في المصادر الإسلامية، حتَّى أكثر من صلاح الدِّين. وحيث إنَّ رتشاردزَ (Richards) يشيرُ إلى أنَّ الطُّمُوحَ –سواء الشخصيّ أو الأُسَرِيّ– يمكِنُ أنْ يتكيَّفَ مع أيَّة غايَةٍ أخلاقيَّةٍ أو دِينيَّةٍ6. بالتأكيد، ومِمَّا يجدر ذِكْرُه –ليس في حالة صلاح الدِّين– أنَّ نُورَ الدِّين لم تكنْ له مَوَائِز واضِحَةٌ لدى المُصوِّرَيْنِ المُعاصِرَيْنِ من أجْل صوغ مسيرته بالطريقة التي رغبا أنْ يُقدِّماها. فابنُ الأثير - الذي كتب بعد جيلَيْنِ أو أكثر لزُمرَة بَلاط ورثة نُور الدِّين- هو الكاتِبُ الذي دَوْرُه يُشْبِهُ كثيرًا كاتِبَ السِّيرَةِ المَدَّاحَ لنورِ الدِّين. مع ذلك، يكون في بعض النواحي في وضعٍ حرجٍ؛ بسببٍ من الفاصِل الزمنيِّ بينه وبين موضوعه.

إنَّ كُتَّابَ سِيرَة صلاح الدِّين –بحسب وجهة نظرهم، وبالاستناد إلى بلاغتهم– يُظهِرون سيِّدَهم –في أعينهم على أقلِّ تقديرٍ– كان قادِرًا على إثارة الطاعة التامَّة بين مستشاريه وجنوده؛ فالكثيرُ منهم وهبوا له حياتَهم، ولرواياتهم عن شمائله الشخصية المُلهِمَة وعن فروسيته وكرمه صدًى في التواريخ الصَّلِيبيَّة الغربية التي تقع خارِج نطاق هذا الكِتَاب. فهم معًا شكَّلوا الأساسَ لأُسْطُورَة صلاح الدِّين في أوروبا أواخر العصور الوسطى، والتي استدعاها المُسْلِمون مُؤخَّرًا في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ لكونها تخصُّ أحدَ أبْطالهم. اعترف الصَّلِيبيون أعْداء صلاحِ الدِّين في حياته بأفضيلة أخلاقه على أقْرانه المُعاصِرِين، سواء من المُسْلِمين أو الصليبيين؛ فبقيتْ صورتُه -حتَّى في خِضَمِّ التعصُّب ضد المُسْلِمين بأوروبا في العصور الوسطى– لا تشوبها شائبةً، بل رُبَّما خيالية، في الوقت الذي كانت فيه نظرةُ أوروبا نحو الإسلام مزيجًا مُحزِنًا من الجهل والعداء.

أمَّا فيما يتعلَّق بنُور الدِّين فقد حُرِمَ من الجائِزَة الكبرى المُتمثِّلَة في فتْح بَيْت المَقْدِس، فبدُونِها تبقى إنْجازاتُه أقلَّ دراماتيكية من تلك التي قام بها صلاحُ الدين، لكنَّها كانت عبر مسيرة نُور الدِّين الذي وضع أُسُسَ برنامجٍ جهاديِّ مُتكامِلٍ؛ فصلاحُ الدِّين لم يكنْ ليحقِّقَ نجاحاتِه إنْ لم يُمهِّدْ له نُورُ الدِّين الطريقَ.

إنَّ التَّهْدِيدَ الذي شكَّله الصَّلِيبيون والتَّحدِّي الأيديولوجيَّ الذي مثلوه، جعلا مُسْلِمِي القرن الثاني عشر الميلاديِّ قادِرِين تدريجيًّا على إيقاظ فكرة الجِهَاد من حالة السُّبَات التي كان يَغُطُّ فيها، ومن ثَمَّ السماح له بالاضطلاع بالدَّوْر الكامِل الذي قد نصَّ عليه فُقَهاءُ الشريعة الإسلامية في كُتُبِهم. كانت نقطة التحوُّل الحقيقي هي أعْمال نُور الدِّين وصلاح الدِّين. ولا يُمكِن فصلُ أحدهما عن الآخَر؛ فهما يُشكِّلان حلقةَ وصلٍ في هذا الشأن. ففي أثناء حكمهما، ظلَّتْ بلادُ الشَّام وكثيرٌ من البلاد المحيطة بها خاضِعَةً لحُكْمِ رَجُلٍ قويٍّ زُهَاء خمسين عامًا. مكَّن هذا النصفُ قرنٍ الحاسِمُ المُسْلِمين من التَّمتُّع بشعور عالٍ جِدًّا من التلاحُم والوحدة، ومن استرداد بيت المَقْدِس من الفِرِنْج الذين من المُلاحَظ أنَّهم افتقدوا لمثل هذا التماسُك في القيادة.

من الواضِح أنَّ القادَةَ العسكريين المُسْلِمين وحاشيتَهم قد تعلَّموا إبَّان هذه الفترة الحرجة كيف يستخدمون سلسلةً كامِلَةً من أدوات الدعاية؛ من أجْل العمل على إعادة الوحدة الإسلامية، والجهد الإسلامي المشترك ضد الفِرِنْج. في هذه العقود غدا بَيْتُ المَقْدِس نقطة الاهتمام الكبرى في جهود المُسْلِمين؛ فأُبْرِزَت هُوِيَّتَه الإسلاميَّةَ وحَظِيَ بتقدير الجميع. وبعد فتْح بَيْتَ المَقْدِس، رُبَّما يمكن تفهُّمُ أنَّ تعهُّدَ صلاحِ الدِّين العاطفيِّ بالجِهَاد قد تداعى. يحثُّ ابنُ زَكِيٍّ7 المُؤمِنِين على استمرارِ أداء فرض الجِهَاد، واسترداد بقيَّة الأرْض المُقدَّسة: "والجِهَادَ الجِهَادَ؛ فهو من أَفْضَل عِبَاداتِكم، وأَشْرَف عاداتِكم"8. بَيْدَ أنَّه ليس هناك أيُّ مكانٍ مُماثِلٍ لإثارة العواطف التي يُولِّدها الجِهَادُ قدَّم نفسَه لصلاح الدِّين بعد بَيْت المَقْدِس.


هوامش


Carole Hillenbrand, The Crusades: Islamic Perspectives, Edinburgh University Press, 1999, pp. 193-195
1) Cf. H. Daiber, 'Die Kreuzzüge im Licht islamischer Theologie', in A. Zimmermann and I. Craemer-Ruegensberg, Orientalische Kultur und europäisches Mittelalter, Berlin and New York, 1985, 77-85
2) عِمَاد الدِّين، سَنَا، 52-56.
3) أبو شامة، (نشرة سلسلة مُؤرِّخي الحروب الصليبيَّة الشرقيين RHC)، ج4، ص: 12.
4) أبو شامة، (نشرة سلسلة RHC)، ج4، ص: 12.
5) Holt, 'The Sultan as ideal ruler', 128
6) E12: Salah al-Din
7) هو القاضي الفقيه أبو المَعالِي مُحيي الدِّين محمد بن أبي الحَسَن علي بن محمد القُرَشِيُّ الدِّمشقِيُّ الشَّافِعِيُّ، المعروف بابن زَكِي الدِّين (555-598هـ/1160-1201م). له ترجمة في (التكملة للمنذري 1: 429-430؛ الروضتين لأبي شامة 3: 170-171؛ والمُذيَّل على الروضتين 1: 123-124؛ وَفَيَات الأعيان لابن خَلِّكان 4: 229-236؛ سير أعْلام النبلاء 21: 358-360؛ وتاريخ الإسلام للذهبي 12: 1155-1157؛ طبقات الشافعية للسبكي 7: 157-159). (المترجم)
8) ابن خَلِّكان، (نشرة de Slane)، ج2، ص: 639.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها