الرواية وأسئلة ما بعد الحداثة

إبراهيم الكراوي


تهدف هذه القراءة إلى الكشف عن جماليات الخطاب الروائي، وتمثلات أسئلة ما بعد الحداثة انطلاقاً من رواية ''البيريتا'' لكمال الرياحي.



1. بنية النص الموازي بوصفها إضاءة للتوتر بين الدال والمدلول

تنطلق الرواية من محاولة التمرد على الشكل الروائي الذي يتمثل داخل الخطاب وتدمير منطقه الداخلي، بغية اكتشاف وإعادة تركيب الواقعي المفعم بالمفارقة، كما يتجلى من خلال رمزية بنية تكرار النوية الدلالية ''البيريتا''، وما ترتب عليه من فعل اعتقال عبثي. فالعلامة العنوان ''البيريتا'' كناية ترتبط بنسق السلطة الذي لا يعرف سوى الدم والقتل، والاضطهاد، كما يمثل ذلك الوسيط الرمزي شخصية ''علي كلاب'' العلامة المولدة لجدلية المركز والهامش.

وهذا معناه أن الكتابة ما بعد الحداثية حاولت الخروج من نفق الحداثة الذي يتموقع، داخل إطار الثابت والمعنى المتضمن داخل العلامة إلى انفتاح النص على محتمل المعنى، ونقيضه دون أن يدل ذلك على عدمية تنفي الوجود والكينونة؛ بقدر ما يدل على إبدال المعنى المركزي بالهامش وانفتاح حدود النص. فالعنوان لا يدخل في علاقة نسقية مع المتن إلا باعتباره إضاءة خافتة للعتمة التي تغمر سراديب البنية العميقة.

تتكرر عبارة العنوان ''البيريتا يكسب'' مرتين داخل المتن، لتحيل على فشل برنامج سردي يرتبط بهاجس بناء مجتمع حداثي، واكتساب قيمة إنسانية وجودية، تتمثل في الحرية والتحرر والحداثة. وكأن ''البيريتا'' عنوان لفشل مرحلة بكل ملابساتها بغض النظر عن الجغرافية التي أينعت فيها، كما نستشف من خلال تباين هويات الشخصيات. فيُعتقل الكاتب الصحفي يوسف غربال، وتتعرض بيا/المرأة المناضلة للتنكيل والاغتصاب، وينتهي حلم الكتابة عند ديف بالانتحار. وهو الحلم الحامل لرمزية وجودية، وتموت الشاعرة ماري كارين ويقذف الوطني الصادق الملاكم المنصوري بتهمة الخيانة والاغتصاب.

يتولد عن المسار الروائي لفعل الاعتقال مسارات سردية تكشف واقع الخيانة وعبث الواقع ومفارقاته الصادمة. ولذا، لن نعثر في الخطاب سوى على المفارقات الزمنية وتدميرا لبنية المنطق التسلسلي لبناء الخطاب، ومحاولة العبث بسردية الواقع من خلال تفكيك الخطاب ونفي مركزية اللغة، مما يدفعنا إلى الحديث عن سرديات تفكيكية، بحيث تندمج الصيغة والمفارقات الزمنية والثنائيات التي يشتغل على إنتاجها الترابط بين الدال والمدلول، مع الأفق التفكيكي، لتجاوز المثالية المحتملة والعدمية التي يمكن أن تستلب روح النص وأنساقه الثقافية.

2. رمزية بنية التكرار وتشكيل الأفق الروائي

يفتتح الراوي الحكي على إيقاع التوتر الذي يخبر بفعل الاعتقال، كما تبين من خلال خطاب البداية. وهو الفعل الذي تكرر بصيغ مختلفة كاشفاً سياقات وأنساقاً مضمرة، تنتقل بنا من زمن القصة إلى زمن الخطاب.

ويمكن القول إن بنية التكرار بوصفها مظهراً خطابياً تحضر بدلالة رمزية، تحيل على زمن القصة المتمثل في لحظة اغتيال شكري بلعيد، وبداية التمرد الاجتماعي على السلطة الجائرة في سياق ما عرف بثورة الربيع العربي.

غير أن هذا السياق المرجعي يتراجع داخل النص ليفسح المجال لولادة مسارات سردية متباينة ومتناقضة. وهو ما يفسر حضور الراوي المطلق الذي يخترق هويات شخوص وسيكولوجيات متباينة، تتوزع بين رجل السلطة، ورجال الثورة مفككاً الواقع، بنفس القدرة التي يفكك بها بنيات الخطاب، ليعيد بناء العالم والكشف عن أسئلته القلقة.

إن بنية تكرار الملفوظ السردي تنسج روائية الرواية، وتساهم في نمو الحكي، من خلال توليد مسارات حكائية رمزية، واشتغال الميتا حكي كما كشفت شخصية الجلاد الضابط ليوميات السجين. فحضور خطاب اليوميات جاء موازياً لخطاب التخييل بحيث يتداعى الواقع، ليضعنا الراوي ضمن ما سماه جاك ديريدا الانتشار، فلا مجال لأي مرجع محدد يضعنا ضمن مرآة اليومي. وشفرة الزمن تأتي سابقة على سرد اليومي في النص الروائي، لتبدأ رمزية اللانهاية التي يرسمها كتاب ما بعد الحداثة (330.300.280.400)، وتمر عبر مسارات الشهور (16 ماي الساعة 23.50) ولتضعنا في خطاب اللانهاية الذي يرفض التحديد والتمركز حول الثابت (الوقت فجرا)، «فهو شكل من أشكال الإمكان من خلال لعبة استبدال العلامات»1.

يتطور الحكي لتتأسس روائية الرواية، انطلاقاً من تمثل التكرار بصيغ مختلفة، يصاحبها نمو الشخصية كما يكشف توزيع هذا الملفوظ ما بين خطابي البداية والنهاية؛ وما يمكن أن أسميه خطاب مركز الانتشار باعتباره يؤمن العبور من البداية والنهاية، كما يؤمن بالخصوص تنظيم اشتغال الوظيفة الروائية المهيمنة التي تنكشف بوصفها تمظهراً خطابياً يقوم بإرساء الخصائص النوعية، للتقابل بين البداية والنهاية عبر انفجار التخييل. فمحكي الاعتقال يوازيه محكيات رمزية تتوزع بين العشق واليومي والرحلي، كما يكشف عن ذلك علاقة المتصل والمنفصل بين ثلاث خطابات مركزية: البداية، والوسط، والنهاية.

هكذا يضعنا خطاب البداية في قلب الدوال التي تشتغل على تخصيب الخطاب، من خلال النويات الدلالية وسينوغرافيا مسرح الرواية: البيريتا، السيجارة على شفاه الضابط، العصا السوداء بالنسبة لشخصية الضابط، البيريتا، محاولا تمثل المتصل والمنفصل في علاته بمكونات خطابية أخرى. فارتباط علي كلاب بموضوع رغبة يتمثل في اغتيال يوسف بوصفه رمزاً للحرية؛ هو إرواء عطشه من الدم والموت والتنكيل، يوازيه انفصال الذات الموضوع يوسف غربال/ بيا/ديف عن العالم وفقدانهم لقيمة إنسانية وجودية، تتجلى في الحرية في سياق مشبع بالثورة، وهاجس التمرد على اضطهاد السلطة.

3. شعرية الخارج والداخل

يظهر أن نمو هذه المسارات السردية داخل الخطاب، يختلف عن الرواية التقليدية والحداثية انطلاقاً من كونه ينشغل بتدمير البنية، والتمرد على المنطق الزمني ونفي الثابت والمركزي؛ فضلاً عن تدمير الحدود التي ترسم معالم الجنس.

تبحث الرواية إذن؛ عن معنى للفوضى الذي يؤثث فضاء الراهن، من خلال تمثل لانهائية العالم، ولا معنى الوجود في ظل اغتيال الحرية. وهو ما نستشفه من خلال هويات الشخصيات التي تتوزع بين شخصيات تنتمي إلى دول عربية مختلفة، يجمع بينها هاجس القضية العربية، وأسئلة الراهن الحداثي (التونسي، الفلسطيني، المغربي، الجزائري، المصري).

هكذا تشتغل الرواية على تمثيل فضاء الرحم النصي: تونس/ السلطة والثورة (الكولونيل جبار علي كلاب الملازمين)، عاكسة هرمية السلطة بوصفها تنسج علائق بنية التوتر والانتهازية، وفئة الشخصيات يوسف غربال ملاك مريم كارين، الملاكم الوطني المنصوري؛ بالإضافة إلى شخصية مدير الواشنطوني الشخصية الفلسطينية والطفل الجزائري، على الحدود الذي ينتهي به المطاف بموت تراجيدي على يد علي كلاب، وشخصية كاتب ديفيد التي تقتحم مسرح الأحداث وتتعالق مع الأنساق الرمزية للخطاب الروائي، كاشفة ما يمكن أن أسميه الميتاتناص الرمزي.. فهي كلها شخوص تبرر التناقض والتعارض على صعيد الخطاب الروائي بين اليومي الواقعي، والمتخيل مما يقودنا إلى الحديث عن مفهوم تخييل اليوميات.

إن رواية ''البيريتا يكسب دائماً'' تحاول أن تضعنا ضمن لا حدود الفضاء من خلال هذه الأحداث التي تخترق الحدود، وتحفر في المتصل والمنفصل داخل الخطاب، ومن خلال العلاقة بين ثنائيات السلطة والسجين، الحرية والاضطهاد؛ مما يقود إلى تمثل بنية الخارج والداخل بوصفها تمثيلاً لروائية النص وغوص في عالمه الداخلي. وهو ما ظهر جلياً من خلال الانتقال من المخفر/الداخل إلى الخارج/ الشارع حيث يتشكل حلم الثورة، ومن خلال بنية التوتر على الحدود بين الجزائر وتونس بعد الواقعة بين علي كلاب الطفل، والتي تنتهي بموت تراجيدي للطفل، يكشف بشاعة السلطة وفي نفس الوقت يعيد المسار السردي كشف مركز آخر، ونفي المركز الحكائي الثابت المتمثل في لحظة الاعتقال.

وبذلك؛ تنتقل بنا الشخوص بين الداخل من خلال التبئير الداخلي نفسه، كما يتجلى من خلال شخصيتي علي كلاب ويوسف غربال والخارج، بكل مرجعياته المرتبطة بالأنساق الاجتماعية والسياسية والثقافية. فالفضاء يعكس بنية التوتر من هذا المنظور المغلق المخفر/ الداخل/ المنزل/ الوطن والمنفتح/ الخارجي/ الشارع فضاء الثورة واللامحدود فضاء البحث عن الحرية.

يجسد كل من الداخل والخارج بينة رمزية ترتبط بالزمن الذي يمكن أن يتوزع بين زمن القصة الداخلي والزمن الخارجي اللاّنهائي، يوازي زمن الخطاب؛ وهو ما يخلق أسئلة قلقة ترتبط بالحداثة وموقع الذات العربية.. فيضعنا نسق الداخل داخل سيكولوجية شخوص تعيش على إيقاع التوتر مع الواقع.

إن ما يميز بنية الداخل والخارج هو استعصاء وضع حدود لكل طرف منهما أو حتى بينهما، كما أن الحدود واهية أو افتراضية بين الشكل المحتوى مما يكشف لانهائية العمل الأدبي. فلا حدود بين اليومي/ الواقعي والمتخيل، بين الذات والعالم، كما أن الحدود واهية بين خطابي كل من البداية والنهاية من جهة، ومن جهة أخرى وبينهما وبين خطاب المركز، ومن ثم تتحول الكتابة إلى سؤال للتفكير في الزمن بين الأمس والآن.

4. الكتابة وأسئلة ما بعد الحداثة

يظل هاجس رواية ''البيريتا يكسب دائماً'' هو الحفر في الميتاحكي وجماليات الخطاب، من خلال التمرد على الأشكال الروائية الجاهزة.

إن الكتابة تتمظهر بوصفها وعياً بالكتابة ذاتها، وبوصفها بحثاً عن الكينونة، وفي نفس الآن إعادة ابتكار هذه الكينونة. فلن يجد يوسف غربال هذه الكينونة سوى في الكتابة السردية بوصفها ملجأ للحرية ولتحقيق الرغبة في الحرية، والمستلبة من طرف علي كلاب رمز السلطة والاضطهاد.

ولعلّ العلاقة بين الكتابة والكينونة تتمظهر من خلال التشاكل بين الكتابة ذاتها والحرية من، وبينهما وبين محتمل الواقع. فيتراجع الواقع بوصفه مرجعاً أيديولوجياً منغلقاً إلى تمثله بوصفه سؤالاً يتمثل.

وبذلك تحضر الكتابة بوصفها وعياً جمالياً ومحتملاً للواقع المستحيل الذي يسم كتاب ما بعد الحداثة "اللغات المختلفة تشفر الواقع بطرق مختلفة، بحيث يمكن أن نرى الواقع يتولد بطرق مختلفة بواسطة لغات"2. فليس هناك واقع واحد وأحادي، بل نتحدث عن واقعيات تتعالق مع المتخيل.

يتحول السارد إلى الحكي بضمير المخاطب من أجل كسر أفق التلقي الذي بدأ في خطاب البداية بالإيهام بواقعية السرد، وتجسيد هذه التعددية على صعيد تمثيل الواقع. فتنعدم الحدود بين خطابات الأجناس (اليوميات، السيناريو، المسرحة)، وبين هويات الشخوص "تونسي، فلسطيني، جزائري، مصري، أمريكي"، رغم أنها تشترك في نفس الهاجس المرتبط بأسئلة الحداثة والثورة.

فلا حدود بين الأجناس وداخل المحتوى الروائي. ومن ثم، يتراجع المرجع، ليشتغل فعل الكتابة على إرجاء المعنى بمجرد ما يتشكل لتتولد انطلاقاً من علامة ''المسدس'' التي يتحدد معناها حسب فردناند دوسوسير بوصفها اختلافاً عن علامات أخرى3. فاليوميات وسيلة وآلية من أجل ابتكار العالم، ومساءلة حدود الذات واستعادة الحياة ومقاومة سلطة الموت، كما تنكشف من خلال شخصية علي كلاب رمز السلطة. ويثير النص باستمرار وجهات نظر متغيرة لدى القارئ، ومن خلال هذه الوجهات النظر يبدأ اللاتماثل... ويظهر أن كل عمل أدبي لا يكتمل أبداً4:
"لا أدري ماذا ستقولون عني الآن. لكن، هذا الواقع. أشياء كثيرة قلتها هنا لم تكن صادقة. أشياء كثيرة فلتة من هذه الكاتبة..."5.

إن الميتاحكي كشف عن تخييل اليومي، واشتغل على تضعيف الدوال وانفتاح النص. فظهر أن آليات النص الروائي تشتغل على إنتاج المعاني المحتملة، لا تدور في الفراغ، بل هناك نزوع إلى الانطلاق من الواحد من أجل خلق المتعدد، وملامسة بينة الاختلاف والتشاكل. ولذا تتمثل الثورة بوصفها موضوعاً إنسانياً، وفي نفس الآن شكلاً سردياً ينسج جماليات الحكي ويتشاكل مع الكتابة. وهذا ما يكشف تنوع ضمائر الحكي وأساليبه، من الأسلوب غير المباشر إلى غير المباشر الحر، كما نُعاين في سياق التبئير الداخلي على شخصية علي كلاب.

يتجلى فعل قراءة علي كلاب ليوميات يوسف غربال وكأنه بمثابة تصادم لوجهات نظر متناقضة. فالسارد المهيمن داخل الحكي يعكس هذه السلطة الأيديولوجية التي تسعى إلى الهيمنة على المشاعر، والأفراد بوصفها هويات متباينة تخترق أحادية المعنى. ومن ثم، تأسس الخطاب الروائي على التشاكل بين الكتابة والثورة التي تؤثث الواقع الراهن. فاللغة مسكونة بهاجس تكسير ونفي مركزيتها وكل تجلياتها الثابتة. فينقل لنا التعدد اللغوي عبثية الوجود، واستحالة الإمساك بالحياة من خلال التفكير باللغة ذاتها التي تحاول تكسير كل الحدود الممكنة.

إن التقابل ينبني على بنية رمزية التوازي بوصفها كاشفة للمفارقة والتناقضات، داخل الواقع، كما نُعاين من خلال شخصية الملاكم ''المنصوري'' الوطنية، شخصية ''بيا'' المقاومة، وكما نلحظ من خلال الانتقال من الفعل إلى تمثيل الفعل؛ أي من لحظة الاعتقال المشحونة برمزية شخصية علي كلاب التي تحيل على السلطة الجائرة، وشخصية الصحافي المعتقل يوسف غربال، الوطني الذي يتهم بالتخابر مع جهات أجنبية، وباغتصاب المرأة التي ضبطت متلبسة مع خليلها... فالرواي يدمر الخطاب سواء عبر التناص ''مع رواية ديفيد واستر من أجل تأسيس خطاب بهوية وأصالة ترتبط بسياق محدد، أو من خلال الاشتغال على إرجاء المعنى، وفي نفس الآن نفي المركز وإعادة بناء مسار الحكي السردي وفق رمزية.
 

تركيب واستنتاج

إن رواية ''البيريتا يكسب دائماً'' تمثيل صارخ لأسئلة العصر، كما تتجسد من خلال تيار ما بعد الحداثة في نزوعه نحو التمرد على المركز. غير أننا لا نعدم تقاطعات على صعيد الخطاب الروائي بين تمثل أسئلة الحداثة وما بعد الحداثة. فالرواية تتمثل أسئلة المرحلة انطلاقاً من إعادة تركيب وابتكار الواقع، كما يتجلّى من خلال تعالق التخييلي والواقعي.

 


الهوامش
1 - Jacques Derrida. L’écriture et la différence. Edition : seuil.paris.1967.P :411.
2 - مارك كوري. نظرية السرد ما بعد الحداثي. ترجمة :السيد إمام. ط 2. دار شهريار البصرة.2020. ص: 47. 
3 - De Saussure Ferdinand. Cour de linguistique générale.Ed : Payot. Paris .1972.p :97
4 - فولفغانغ إيزر. فعل القراءة.نظرية جمالية التجاوب في الأدب. ترجمة: حميد حمداني. جيلالي الكدية.منشورات المناهل. فآس. 1985. ص : 99. 
5. كمال الرياحي. المرجع نفسه. ص: 133.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها