بين البعد اللغوي .. والبعد الاجتماعي!

هل الازدواجية اللغوية خطر على هويتنا؟!

بوشرة روزي

تعد المحافظة على اللغة –ومنها اللغة العربية- قضية مهمة في العديد من الدول، حتى إنّ أُمماً في درجات عالية من التقدم لم تستغن عن تعهد لغتها بالتنمية المتواصلة، المتمثلة بزيادة ثروتها من ألفاظ الحضارة والمصطلحات والعبارات المجازية المستحدثة، بل أكثر من ذلك بتطوير وتحسين قواعد الكتابة فيها، ومحاربة كل القضايا التي يمكن أن تنتقص من قدرها، كطغيان العامية أو الدارجة ومحاولة بسط نفوذها على الفصحى، وهو الخطر الذي تصدى له العلماء في بحوثهم ودراساتهم أثناء تناولهم قضية ما يعرف بـ"الازدواجية اللغوية".

والازدواجية اللغوية تعني عند الكثير من المهتمين والباحثين وجود مستويين للغة الواحدة؛ أحدهما مستوى اللغة الفصيحة التي تستخدم في المناسبات الرسمية والكتابة الأدبية والتعليم، والآخر مستوى اللغة العامية، أو اللهجات الدارجة، التي تستعمل في الحياة اليومية.

وقد يطلق على كلمة الازدواجية اللغوية مصطلح "ديكلوسيا" (Diglossia)، وهو مصطلح استعمل لأول مرة من قبل المستشرق الفرنسي ويليام مارسي (William Marçais) سنة1930 في دراسة تخص الازدواجية العربية، وعرفه على أنه تنافس بين لغة أدبية مكتوبة ولغة عامية شائعة، ثم تناول هذا المصطلح فيما بعد شارل فرجوسن (Charles A. Ferguson) في مقال شهير له سنة 1959؛ ليدل به على شكلين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين، إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة (العامية)، ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية (الفصحى).

واللغات بحكم التبادل التجاري أو السياسي لم تكن أبداً منعزلةً، فهي تتقاطع ويكون مكان تقاطعها إما الفرد وإما الجماعة، والعالم الإسلامي الذي يضم أقواماً ذوي ألسنة مختلفة عاش أكثر من غيره هذا التجاور اللغوي، فتأثرت العربية بلغات الشعوب التي أسلمت، كما تأثرت لهجات هذه الشعوب ولغاتها بالعربية، ومع مرور الوقت، وخاصة في عصر النهضة اطلع العرب على اللغات الأخرى التي كانت وعاءً للتكنولوجيا والعلم الحديث، فأدركوا أهمية تعلم هذه اللغات، فنشأت نخبة تعلمتها وقامت بالترجمة وإثراء المعجم بإدخال مصطلحات جديدة موجهة نحو التعليم ونحو الجمهور العريض. كما سايرت هذه النهضة وساندتها، وسائل الإعلام المبنية على الطباعة، والتي مكنت من إنشاء الجرائد والمجلات والكتب، مما أدى إلى تأليف المعاجم الحديثة من جهة، وولوج الأدباء فنوناً أدبيةً جديدة كالرواية والمسرح خالقين على مستوى الإبداع لغة جديدة تساير الحضارة الحديثة.

والازدواجية اللغوية أنواع متعددة؛ منها الازدواجية المبكرة، وتخص الشخص الذي اكتسب اللغتين من خلال العائلة أو المحيط وذلك قبل سن التمدرس، ومنها أيضاً الازدواجية المتعاقبة، وهي عندما يكتسب الطفل لغة قبل أخرى، ويخص هذا أطفال المغتربين أو الذين انتقلوا من بلد لآخر، وهي الأكثر وروداً إذ العامية تكتسب قبل الفصحى، كما أنها تخص اللغة الوطنية التي تلقن قبل اللغات الأجنبية، ومنها كذلك الازدواجية المثالية، وهي التي تخص الشخص الذي له كفاءة عالية ومتساوية للغتين وتسمى مثالية لأنها نادرة، وهناك الازدواجية غير المتكافئة، وهي التي تكون فيها إحدى اللغتين ذات مستوى أدنى من الأخرى، ثم أخيراً هناك الازدواجية الخاملة، وتخص الشخص الذي يفهم فقط لغة دون أخرى.

والشائع من بين الأصناف الثلاثة الأخيرة هو الصنف الثاني (الازدواجية غير المتكافئة)، وذلك لأن الازدواجية الخاملة قد لا يعدها البعض ازدواجية، أما الصنف الأول (الازدواجية المثالية) فهو إن أمعنا النظر فيه أندر مما نتصور؛ وذلك أن الكفاءة موزعة حسب مستويات اللغة إلى كفاءة صوتية تتمثل في النطق السليم، وكفاءة معجمية مرتبطة بثراء اللغة، وكفاءة نحوية مجسدة في الاستعمال الجيد للتراكيب ومراعاة حركات الإعراب، وكفاءة بلاغية هدفها الفصاحة التي من بين سماتها الربط الجيد بين المعاني والألفاظ وجماليات الشكل.

وقضية الازدواجية اللغوية في اللغة العربية، ومحاولة بسط العامية نفوذها على الفصحى تصدى له العلماء بكل قوة وحزم، حيث ألفوا المعاجم اللغوية التي حصرت ألفاظ العربية كاملة، وحافظت عليها من التغير والاندثار، كما وضعوا الكتب أو المعاجم التعليمية، أو المعيارية التي راقبت استعمال اللغة، وأشارت إلى الأخطاء التي يقع فيها مستخدمو اللغة، ودلت على صوابها، ككتاب لحن العامة للكسائي، وإصلاح المنطق لابن السكيت، ودرة الغواص في أوهام الخواص للحريري، ولحن العوام للزبيدي وغيرها، ولا يزال هذا النوع من التأليف مستمراً حتى عصرنا الحاضر. وهنا لا بد أن نشير إلى أن العامية لم تكتف بمهاجمة النحو فقط، بل استمر زحفها لينال كل جوانب الفصحى، فبدأت تعمل من أجل انحراف التراكيب اللغوية الفصيحة، هذا الانحراف الذي ربما يكون نهاية المطاف بالنسبة للغة الفصحى؛ لأن الانحراف في التراكيب اللغوية والأساليب الكتابية يعني بداية ظهور لغة جديدة.

إن الازدواجية اللغوية في اللغة العربية وتناميها خطر يهدد مجتمعاتنا؛ فهي رمز للتخلف الفكري والحضاري، وعائق لكل تطور اقتصادي، خطر يعيق كل محاولات النهوض بالتعليم والتربية، إلى جانب كونها تحول دون قيام وسائل الإعلام وأجهزة الاتصال بدورها الحقيقي، فالازدواجية اللغوية في الأخير عنوان للصراع الاجتماعي الذي يقضي على كل تماسك بين أفراد المجتمع، ويؤدي في النهاية إلى تفتيت مكوناته لفئات متصارعة، تعمل كل فئة لمصلحتها الخاصة وتصارع الفئات الأخرى للقضاء عليها، مما يترتب عليه إفشال كل محاولة للإصلاح في أي جانب من جوانب الحياة، والحيلولة دون أي تطور أو تقدم لصالح المجتمع، فالأمة الواعية هي المنسجمة طبقاتها في بوتقة واحدة، وهي التي تدور طبقاتها في فلك واحد يكون وليد ذهنية واحدة، وعقلية واحدة، وعبقرية واحدة، وروح واحدة، فإذا كان لكل طبقة لغة انعدم الانسجام، وقامت الشقوق في صرح الأمة.

وإزاء هذا الخطر الداهم وجب على مفكرينا ومثقفينا أولاً، وأصحاب القرار في وطننا العربي ثانياً، أن يدافعوا عن اللغة العربية الفصحى بكل الوسائل حفاظاً على هويتنا وقوميتنا ووحدتنا، وأن يعملوا على إحياء قناعات أبناء الأمة بأهمية اللغة العربية الفصيحة وبمقدرتها على التعبير عن كل متطلبات العصر، وقدرتها على استيعاب مصطلحات العلوم والثقافة والفنون، وأن يعملوا على إقناعهم بأن اللغة العربية الفصحى هي ذاتنا، وهي كياننا، وهي الرباط المقدس الوثيق الذي يربط بين أبناء الأمة، وهي وطننا الروحي الذي تكمن فيه عزتنا ومجدنا، والذي يجب الدفاع عنه والمحافظة على بقائه في أحسن الصور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها