الإسباني المنسي

مانويل كوميث مورينو كونثالث

حسني مليطات

نشر الكاتب الإسباني مانويل موراليس في صحيفة البايسس "ElPías"، الإسبانية في الثلاثين من شهر ماي لعام 2012م، مقالة بعنوان: "مانويل كوميث مورينو، الرسام الكبير المنسي في القرن التاسع عشر"، متحدثاً في مقالته عن أن الرسام كونثالث أصبح من المنسيين فور انتهاءه من مهنة الرسم عند بلوغه 75 عاماً، مستعرضاً من خلال مقالته الحياة التي نشأ فيها مانويل مورينو، والكيفية التي أصبح فيها من كبار الرسامين الإسبان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومتحدثاً بعد ذلك عن أعماله الفنية، التي رسخت الوجود الإنساني في الفكر الإسباني المعاصر، من خلال استعراض بعض المحطات التاريخية المهمة من الوجود العربي في الأندلس، ووصف طبقات المجتمع بمختلف فئاتها، بالإضافة إلى الحس الديني الذي كان يلازمه نتيجة ثقافته الواسعة، لتكون لوحاته المتنوعة بصمة من بصمات الرقي الفني.


ولد مانويل كونثالث في مدينة غرناطة عام 1834م، اشتهر باهتماماته العملية اليومية، التي كان يمارسها في حياته، فهو رسام وعالم آثار، عمل مُدرساً في مدرستي الفنون الرسمية والفنون لجميلة في غرناطة، ليشغل بعد ذلك منصب رئيس مجلس إدارة قصر الحمراء وجنة العريف والكنيسة الملكية، وكان من اهتماماته أيضا إنشاء المتاحف ورعايتها في كل أرجاء غرناطة، حتى أُطلق عليه لقب "أبو المتاحف الأثرية والفنون الجميلة"، لتكون المهام التي قام بها مصدراً للتكوين الثقافي الذي استعان به في تشكيل عدد من لوحاته التي حظيت بشهرة واسعة.


الرسام الإسباني مانويل كونثالث - حوالي عام 1915


يمثل الجانبان الديني والتاريخي المركزية التأسيسية لإبداعه الفني الذي ظهر في عدد من لوحاته، التي لم يلتفت إليها الكثير من النقاد، على الرغم من أهميتها الفكرية والرمزية في تاريخ إسبانيا، وكان الظهور الأول لاهتمام مانويل بالرسومات ذات الطابع الديني، عندما أعاد نسخ لوحة "العذراء"، للرسام الإسباني بارتولومي موريو Bartolomé Murillo، ليتوافق ذلك مع رؤية الفيلسوف الفرنسي (رينيه جيرار)، الذي يقول: "إذا ما أراد الرسام اكتساب الشهرة بفنّه، فهو يسعى إلى محاكاة الأعمال الأصلية لأبرع المعلمين الذين يعرفهم"1، وتعد لوحة "San Juan de Dios liberando a los pobres del incendio del Hospital Real"، أو ما تسمى بالعربية "القديس يوحنا يخلص الفقراء من حريق المستشفى"، من اللوحات الرمزية، التي تشير إلى الأخلاقيات والقيم الإنسانية، وتتضمن اللوحة المشاهد المُعبّرة عن ذلك من خلال صورة القديس يوحنا نفسه، وهو يحمل رجلاً كبيراً في السن، وبجانبه شاب عشريني، وأمامه طفل صغير، يحدق بنظرات الخوف والقلق إلى ذلك العجوز، وخلفهما امرأة تواجه الدخان، تحاول أن تقاومه، ولعل "الرؤية" التي تغلب على شخصيات اللوحة، تتضمن بعض التأويلات التي تتوافق مع مفاهيم الصدمة والنجاة من موت محقق، الكل تائه في نظراته وسلوكياته، يبحثون عما بقي من أمل من أجل البقاء.
 


لوحة يوحنا القديس، يخلص الفقراء من حريق المستشفى


أما الجانب التاريخي فهو من وسائل الإدراك والتخيل، التي اتكأ عليها مانويل للتعبير عن بعض الفترات التاريخية التي عاشتها إسبانيا زمن الوجود الإسلامي فيها، ولعل للمهن التي عمل فيها مانويل نفسه في قصر الحمراء والمتاحف الأثرية في غرناطة، بالإضافة إلى قراءاته الواسعة حول تاريخ المسلمين في الأندلس، دور في تشكيل ظاهرة "التمثيل التاريخي"، للأحداث التاريخية المهمة من ذلك الزمن، وتعد لوحة "رحيل عائلة أبي عبد الله الصغير من الحمراء"، من أشهر لوحاته التاريخية، فقد رسمها عام 1880م عندما كان في منحة دراسية في روما، وهي من اللوحات المميزة الموجودة الآن في متحف الحمراء في غرناطة، وقد استعان بها بعض الدارسين لتوثيق دراساتهم حول التاريخ الأندلسي، بوضعها على مغلفات كتبهم، على اعتبار أنها لوحة إجمالية لما حدث في التاريخ الأخير من وجود المسلمين في إسبانيا.

تصنف لوحة "رحيل عائلة أبي عبد الله الصغير من الحمراء"، ضمن اللوحات التعبيرية، والملخصة لأحداث تاريخ انتهى بطرد الكثير من المسلمين من الأندلس، وتتضح معالم التعبير الفني والدلالي في اللوحة، في الألوان الجميلة التي تتضمنها، والدقة المتناهية في تجسيد الشخصيات الحاضرة فيها، فكل شخصية تحمل دلالة رمزية مهمة في تفسير الواقع الذي كان يعيشه المسلمون في ذلك الزمن، فالبكاء والوداع، هما المكونان الأساسيان في تجسيد أيقونة الإبداع الفني التخيلي في اللوحة، ليكون التعبير فيها "أفضل بكثير من الكلمات"2، التي تكتفي بالتكرار والنقل، دون مخاطبة الإحساس والعقل البشري، ولعل المطلع على جماليات اللوحة، يجد مظاهر "الإبداع" التخيلي المُعبّر عن أحداث ذلك التاريخ، من خلال التأمل العميق في وجوه الشخصيات المفسرة لواقعة الرحيل المؤلمة.


لوحة "رحيل عائلة أبي عبد الله الصغير"


ومن اللوحات التي ميّزت أعمال مانويل أيضا، لوحة "قراءة الرسالة" La lectura de la carta، التي اشتهرت في ملامستها للواقع الذي كانت تعيشه بعض الطبقات المتوسطة في إسبانيا في القرن التاسع عشر؛ فالفن -كما يقول الناقد الإسباني Gregorio Villaamil- "انعكاس لسلوكيات المجتمع الذي تطورت فيه، بسبب الطبقات الأكثر تحضراً". وتُظهر اللوحة أسرة غرناطية، تنتمي إلى الطبقة المتوسطة من المجتمع، تعيش في بيت تظهر عليه ملامح البساطة، وثياب تقليدية جميلة تتناسب والحالة الاقتصادية المتوسطة، التي تعيشها تلك الأسرة، إلا أن الظاهر في اللوحة الرجل الجالس على المقعد، ويقرأ الرسالة التي بعثها ابنهم المحارب، وكانت هيئة الرجل القارئ تشير إلى انتمائه إلى الطبقة الارستقراطية، فلباسه وطريقة جلسته وسائل تعبيرية عن ذلك.
 


لوحة قارئ الرسالة


 والجميل في هذه اللوحة، نظرة أفراد الأسرة إلى الرجل، لاسيما الأب والأم والأخت الكبرى، تلك النظرة المعبرة عن لهفتهم وشوقهم لمعرفة أخبار عن ابنهم المقاتل، إلا الأطفال الصغار، فقد كانوا مشغولين باللعب، وتفسر هذه اللوحة جوانب الحياة الواقعية التي تعيشها بعض الأسر من جهة، والتعبير عن الموروث الإسباني من جهة أخرى؛ ويظهر ذلك التعبير من خلال إعادة تمثيل الزي الشعبي الإسباني الرائج داخل المجتمعات الريفية في معظم قرى إسبانيا، لتكون هذه اللوحة الجميلة بألوانها ومظاهر تصويرها مثالا على اللوحات المفسرة لحياة المجتمع؛ لتحفظ بذلك إرثه وعاداته، وتوضح للمشاهد حالة أفراده.


الهوامش
1. رينيه جيرار: الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية، ت: رضوان ظاظا، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008م، ص: 21.
2. E.H.Combrich. Arte e Ilusión “estudio sobre la psicología de la representación pictórica, pág.3

 

الصور
https://commons.wikimedia.org ~ https://en.wikipedia.org ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها