"ريش" وكوميديا الفقر الأزلي

أزمة عنق الزجاجة.. ورجل يتحول إلى دجاجة

د. هاني حجاج



عُرض فيلم (ريش) في مسابقة أسبوع النقاد الدولية في دورتها الستين، المواكبة للدورة الرابعة والسبعين لمهرجان كان السينمائي. مخرج (ريش) هو عمر زهيري، أول مصري يشارك في المسابقة، وهذا هو فيلمه الروائي الأول، شارك في كتابة السيناريو له مع أحمد عامر، وكان قد قدم سابقاً فيلمه القصير (ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375)، في مسابقة سيتي فوندا سيون لمدارس السينما، الملحقة بمسابقة الأفلام القصيرة لمهرجان كان عام 2014.



إنها أسرة مصرية تحت خط الفقر تقرر الاحتفال بعيد ميلاد أحد أطفالها، وضمن فقرات الحفل المتواضع ساحر صعلوك يقدم حيلة تجعل الأب يختفي، ويتحول إلى دجاجة! هذه وضعية طريفة في مسلسل (سيمبسون) الكارتوني؛ لكنها تحدث هنا بجدية ولا تعني المرح، بل هي كارثة حقيقة للأسرة التي يتحول عائلها ومديرها إلى داجن! في بداية فيلم (الأصليين) لأحمد مراد ومروان حامد، يتجول بطل الفيلم بين الدجاج المجمد في السوبر ماركت، كتمهيد لأن يعرف فيما بعد أنه مراقب ويعيش كالدواجن في حظيرة كبيرة، أسوارها هي حدود البلد وربما العالم، لكن المسألة هنا مختلفة نوعاً: الأب يتحول إلى دجاجة حقيقة، مع ملاحظة أن الوضع قبل الحادث الفريد لم يكن يحتمل أكثر سوءاً، فالحال المادي متداع، الأسرة تتظاهر بأنها من بقايا الطبقة المتوسطة؛ لأن الأب يعد بحمام سباحة وصالة ألعاب؛ لكن الحقيقة أنهم يأكلون الفتات، والزوجة لا تجرؤ على تنبيه زوجها الأحمق المتغافل، الذي يجلب للبيت مزهرية جميلة لا تكفي لتزيين الخربة التي يعيشون فيها! الأب نفسه نكتة من قبل أن يتحول إلى دجاجة، بل لعل التحول أنسب لدماغه، فهو يفرض على زوجته وأبنائه سماع حكاياته الفارغة الكاذبة عن سنين الكفاح، وكيف كان يشرب اللبن مباشرة من ضرع البقرة في طفولته، هذا بائس يعيش في الأوهام يستحق أن يصر الساحر على الإبقاء عليه كدجاجة بدعوى ألا يتدخل أحد في عمله! بالطبع هذا العبث لا يجوز على المصالح الحكومية التي يُعتبر الأب بالنسبة لها (شخص اختفى)، وهذا من حسن الحظ يمنح الأم صلاحية أن تسعى لصرف معاشه، وهنا نبدأ في الشعور بأن الفيلم فعلياً يتعرض في جانب كبير منه، ربما هو الأكثر، لمشكلة مواجهة المرأة للمجتمع في بلد كمصر، حيث لا بد وأن يتحكم فيها الرجال أو يطمعون سواء من الزوج الذي صار دجاجة، أو في بيتها الفقير، أو في أروقة الهيئات الحكومية لصرف المعاش، وحتى المجال الذي تعمل فيه خادمة.

"عندما نتحدث عن الفقر في السينما، فعادة ما نشير إلى الأفلام التي تظهر موضوعات الفقر وعواقبه في مناحيه الإيجابية والسلبية. تبدو هذه الأفلام كحجة أساسية يشار إليها صراحة. منذ البدايات ظلّ الفقر الرفيق الملازم للإنسانية، فالفقر هو الحاجة أو الصعوبة في الحصول على بعض السلع والخدمات، ولكن ليس هذا فقط، بل حينما نتحدث عن الفقر، يمكننا أن نتحدث على سبيل المثال عن حالات واضحة من الظلم والعجز. فالفقر هو الشر الذي يمكن أن تجده في كل البلدان، ولدى كل الأعمار والعصور؛ لأنه يظهر مثل الولادة مثلاً: الأمهات اللواتي لا يستطعن ولادة أطفالهن في حالة جيدة، أو إطعامهن في السنوات الأولى من حياتهم". [عبد الله السراوة، الفقر في السينما العالمية، جريدة البناء المغربية، 20 أغسطس 2021]. ظهرت رؤية الفقراء والفقر منذ بدايات السينما، ونتذكر على سبيل المثال فيلم الأم عن قصة مكسيم جوركي، وكذا في عددٍ من أفلام شارلي شابلن التي تظهر الخراب والعجز، مثل فيلم "الصبي"، أو "شارلي المتشرد"، و"حياة الكلب". كما أنه ينتمي إلى هذه النوعية فيلم "المنسيون"، والفيلم الوثائقي "أرض بلا خبز" للمخرج الإسباني لويس بونويل، الذي يصور البؤس في منطقة "هورديس" الإسبانية في بداية الثلاثينات من القرن الماضي.

تسلط هذه الأفلام المزيد من الضوء بوعي أفضل على مسألة الفقر. بعد ذلك سعى عدد من المخرجين إلى استعمال الفقر أيضاً كحجة أو موضوعات أساسية في أفلامهم. مع مرور الوقت، أتت أفلام جديدة لم تبرز فقط واقع هذا الشر "الفقر"؛ إنما حوّلته إلى قاعدة للشغب والاحتجاج ضد حالات ووضعيات كانت تعتبر غير عادلة ومنصفة بشكل عام. وقد ساعدت السينما ذات البعد الاجتماعي والمطلبي على فضح حالات الفقر والوضعيات السوسيوثقافية الهشة التي تسببت فيه، وفي بعض الأحيان تحديثه بطريقة أو بأخرى للحظات سابقة من حياة معاشة في وضعية فقيرة. بعض الأفلام المقترحة من هذه الثيمة أخذت ذاك البعد الاجتماعي والمطلبي، لتثير الانتباه إلى أفلام جيدة تبرز العواقب الوخيمة للفقر، وهي تعمم شراً على نطاق واسع، وأكثر من شر يجتمع كما هو الفقر.

كل شيئ في الحياة مزيف، سواء قطعة الديكور التي يعتقد الزوج أنها ستجعل البيت أكثر أناقة، لكن البيت بالكامل يحتاج إلى غزالة، أو حفل عيد الميلاد الذي لا يناسب أسرة فقيرة لا تملك ترف هذا الكلام الأقرب لدعابة سمجة، أو المبسم الذهبي المزيف في سجائر رفيقه ومديره. وبينما كانت أفلام المقاولات الرخيصة في الثمانينيات حافلة بديكور ساذج، وحفلات سخيفة بها بلالين كثيرة، وكرة ملونة تتدلى من السقف، فكل هذه المظاهر هنا مقصودة كدليل على العبث والتعاسة، بل إن الألوان السائدة على مشاهد الفيلم هي نفسها الألوان الرمادية الكئيبة التي صنعت دراما الكوارث مثل (تشيرنوبل)، وأجواء الفيلم رغم عدم تحديد فترة زمنية توحي بأيام بداية الأزمات الاقتصادية الطاحنة وفساد المجتمع.

الفيلم في مبناه أقرب لفيلم "بلاسيدو" إخراج لويس جارسيا بيرلانجا أوائل الستينيات، في عشية عيد الميلاد نظم مصنع لإنتاج العربات حملة تضامن تحت شعار (استضف متشرداً لمأدبة عشائك)، قبل إنجاز هذه المهمة توظف المؤسسة عاملاً اسمه بلاسيدو ألونسو للقيام بهذه المهمة. فيلم بلاسيدو مثل (ريش) يطرح موضوعاً اجتماعياً في قالب الكوميديا السوداء. يكشف الفيلم بعمق عن زيف نماذج بورجوازية، ولباقتها المصطنعة في عهد انهيار الطبقات المتوسطة، وفخفخة الأثاث التافه وموضة الروكوكو الركيكة. في قلب هذا الزيف البورجوازي لن يكون بطل الفيلم سوى وسيط بين الطبقتين، لكن نظرة المخرج في الفيلمين تبدو رحيمة ومتعاطفة شيئاً ما مع الفقراء، مثل المرأة التي فقدت زوجها وأصبحت محاطة من قبل أشخاص أنانيين، في بلاسيدو وريش. "صورت السينما الفقير بمختلف صوره وأبعاده الاجتماعية والسياسية وتركيباته النفسية، فصورته في هيئة لص وقاطع طريق، ورسمت له صورة العاشق الصبور الذي يشتغل ويكد، ويجتهد لإصلاح أحواله المادية وتحسين وضعه الاجتماعي، وصوّرته كذلك يقظاً ومنتبهاً ومهذباً على عكس الصورة الأولى النمطية حيث تلتصق صورته بالأذى والشرّ للآخرين". [المرجع السابق].

غالباً ما يكون الفقراء في السينما على شكل لصوص، وينتمون إلى عصابات ومافيات تفتك وتقتل من دون رحمة ولا خشية، أو مرتزقة مستأجرين، وتصوّرهم في شكل هيئات تدعو إلى الاشمئزاز والنفور منهم، خصوصاً في السينما الأميركية. إلا أن هذه الصورة النمطية عن الفقير في السينما يمكن أن نجد لها صورة مغايرة في سينما أميركا اللاتينية، والمصرية والهندية، حيث يظهر الفقير بطلاً لا يملك أي شيء، ومستعداً للتضحية بكل ما يملك من أجل إسعاد الآخرين.
 

بطلة فيلم (ريش) هي سيدة عادية لا تشتغل في السينما اسمها (دميانه)، جلبها المخرج من صعيد مصر، ومعها الطفلين أبو سيفين نبيل وفادي مينا. الإنتاج مشترك بين مصر واليونان وهولندا، تنفيذ الإنتاج للفرنسيين جولييت لوبوتر وبيير مناهيم من خلال شركة Still Movin، بالمشاركة مع Lagoonie Film Production للمنتجة شاهيناز العقاد، وفيلم كلينك والمنتج محمد حفظي، ودرك جان وارينك وكوجي نيليسين Kepler Film، جيورجوس كرنفاس وكونستانتينوس كنتفركيس (Heretic) وفيرونا ماير، وتتولى توزيعه في العالم العربي شركة Film Clinic Indie Distribution، وعرض الفيلم ضمن سبعة أفلام في مسابقة أسبوع النقاد في الدورة 74 لمهرجان كان السينمائي بفرنسا، ليصبح أول فيلم مصري يفوز بهذه الجائزة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها