رفضُ الموت.. الكيفية الأوحد لتأسيس الأخلاق

ترجمة: يحيى بوافي

حاورته: كاثرين بورتفين Catherine Portevin
 



شكَّل الكائن الحي1 le vivant الانشغال الأكبر لفريدريك وورمز Frédéric Worms، ففي كتابه الأخير الذي بعنوان: "من أجل نزعة إنسانية حيوية" يربط هذا الفيلسوف، الذي يشغل كرسياً ضمن اللجنة الاستشارية الوطنية للإتيقا، مفهوم الكائن الحي بالمشكلات الفلسفية الكبرى لعصرنا، بدءاً من مشكل نهاية الحياة، ووصولاً إلى التهديدات التي تُلقي بثقلها على الديموقراطية، ممَّا يجعل هذا المشروع مشروعاً بالِغَ الأهمية بالنسبة لأزمتنا الموسومة بالهشاشة.



⊙ صعب ألا نطرح مثل هذا السؤال السِّيري، أو البيُوغرافي على فيلسوف الحياة: فما الذي ميَّز حياتك وأفضى بك إلى اتخاذ الحياة موضوعاً للتفكير؟

أعتقد أن فهم الأسئلة المرتبطة بالحياة لا يمكن أن يتم إلا انطلاقاً من حياتنا الخاصة؛ لأنه لا يمكننا معرفة "الحياة" خارج الأحياء، كما أن الحياة هي أولا وقبل كل شيء "حياة" محدَّدة وبعينها، إنها "حيواتنا". واليوم أظنني لم أخْتر الفلسفة سوى لأجل بلوغ هذا الموضوع. لكن بلوغي إيَّاه لم يكن إلا عبر الرجوع إلى الوراء، لقد شعرتُ بأنني أشتغل على أسئلة دون أن أعرف ما تكونه تلك الأسئلة بالتحديد؛ ذلك أن اهتمامي بالفلسفة ظل منطويّاً على ما حرَّكني من ميول تجاه الأدب والشعر، وحتى العلم أيضاً. فتوجيهي المدرسي أول مرة كان نحو العلوم، غير أن حادثة حصلت في حياتي، هي: فشلي في اختبار الرياضيات في البكالوريا، حالت دون ولوجي إلى الأقسام التحضيرية العلمية. ولأنني كنت متقدماً بسنتين وحصَّلت نقاطاً جيدةً في الآداب والفلسفة، فقد تمَّ اقتراحُ توجيهي إلى الأقسام التحضيرية الأدبية من طرف ثانوية لويس لوغرون "Le lycée Louis-le-Grand". وبهذا الشكل ولجْتُ المدرسة العليا. وقد كنت في تلك الحقبة على جهل تام بأنها تُعدُّ وتهَيِّئ للتدريس، ولنوع من العلاقة القائمة على الكلام، والتي ستصير ذات طابع حيوي بالنسبة لي؛ لأنني أشعر في أعماقي أنني أستاذ بحق! لذلك أقول بأن الصدفة التي هي جزء من الحي، هي التي غيَّرت حياتي.

⊙ هل ستقول بذات الكيفية أن لقاءَكَ بعمل برجسون ونزعته الحيوية، والذي صرت متخصِّصاً فيه كان محضَ صدفة؟

الواقع أنني شرعت بالصدفة في قراءة برجسون بموجِب المُقرَّر الخاص بسلك التبرير في الفلسفة، لكن سرعان ما عثرتُ على ما يهمّني ويَعْنيني في فلسفته؛ فقد كانت نزعته الحيوية بمثابة "طابو"، ومحرّمٌ إبَّان تلك المرحلة بالنظر لمواقفه السياسية؛ إذ امتنع عن الانخراط في قضية درايفوس، كما كان طيلة الحرب العالمية الثانية صاحب نزعة فوق وطنية "ultranationaliste". أما إجابته على مشكل الحرب، فقد قدمها بكيفية مدهشة سنة 1932 في كتابه "منبعا الأخلاق والدين les deux sources de la morale et de la religion "، فالحياة بالنسبة له ليست هي "الدفعة الحيوية" فحسب، بل هي الصراع بين معنيين للحياة هما: الإبداع والحاجة، وبالتالي مواجهة بين المنفتح والمنغلق.
غير أن هذا التصحيح النقدي للنزعة الحيوية قد جاء متأخراً جدّاً. وإلى جانب ذلك مثل برجسون Bergson بالنسبة لي، مَنْفذاً إلى تاريخ فرنسا برمته، وإلى فلسفة القرن العشرين، وإلى الجمهورية والعلاقات بين اليهودية والمسيحية. وقد بذلت وقتاً طويلاً لفهمه وإعادة قراءته وفقاً لأسئلتي الخاصة وتبعاً لها. ومع ذلك كان حضور سؤال الحيوي مُؤَكَّداً فيها بكامل تعقيده؛ فقد رُزقت بفتاة لكنني عشْتُ حداداً داخل أسرتي، وفقدت شعري إثر الإصابة بمرض سيكوماتي (نفسي جسدي) يسمى داء الثعلبة، وهو ما قادني على نحو بطيء جدّاً صوب التحليل النفسي، فصار في حوزتي بمَعيَّة كل من فرويد وبرجسون، كل ما يلزمني لأحيا، فكان أن استعدت معنى حياتي، وبذلك تكون الفلسفة قد أتاحت لي في نهاية المطاف أن أتحَمَّل باقتدار معاناة بعض الأحداث البيوغرافية أو السيرية، وأن أفهمها بوصفها "مشكلات حيوية problèmes vitaux"، بمعنى أنها مشكلات بإمكانها تحْطِيمُنا، غير أن الحياة يمكنها أن تَسْتأْنف دورتها من جديد. لقد أتاح لي فرويد فهم الصدمة العصبية، كما أتاح لي بِرجسون معاودة إطلاق الآلة الحيوية، وبالنسبة لي لا يسير أحد الأمرين دون الآخر.

⊙ وهل صار فرويد يطلع بحكم ذلك، ضمن نظرتكم للحياة، بدور تلطيف الميتافزيقا الإيجابية لبيرجسون؟

بكل تأكيد؛ لأن التفكير في الحياة بالنسبة لي لا يمكن أن يكون مطبوعاً بسلبية العلاقات الإنسانية، وبالتأرجح، ومن هنا يتعيَّن علينا الانطلاق؛ لأننا في الغالب الأعم نعيش تجربة الحيوي "l’expérience du vital"، سواء تلك التي نتذكرها أو تلك التي نعيش غمارها، بمناسبة حداد أو مرض، أو حادثة أو جرح أو فقْد... وكل ما نعتبره ضداً للحياة، لهذا السبب يكون لنا ميل إلى أن نتهرَّبَ من مواجهة هذا الموضوع. إما ببترنا لحياتنا مِمَّا هو حي، [وقطع صلتها به]، (عبر نفينا وإلغائنا للواقع البيولوجي الخاص بوضعنا البشري، وبالتالي نَفيُنا للموت)، وإما بالعمل على اختزالها وَردِّها إلى خاصية واحدة من خواص الحي (في مواجهة الفقْد على سبيل المثال، يكون لي إحساس بأن حياتي كلها قد اختفت، وتلاشت كما لو كانت مجرد زبد)، وهو ما يؤدي في الفلسفة إلى مأزقين: إما تقديس الحياة بوصفها مبدأ، عبر نسياننا للموت، أو من خلال احتقار وازدراء الحي بوصفه مبدأ، وعدم أخذِ الحياة بكامل الجدية. وبالتالي يكون لنا من جانب أصحاب النزعة الحيوية غيْرُ النقديين، ومن جانب آخر أصحاب النزعة العدمية الذين لا يرون أي معنى يُذكر لحيواتنا.
 

 في كتابكم الأخير، تتبنَّون تعريف الطبيب (اكسافييه بيشا Xavier Bichat 1771-1802) للحياة، الذي يقول فيه: "الحياة مجموع القوى التي تقاوم الموت"، جاعلين منه تعريفكم الخاص، فأي مكانة تحتلها الموت في فكركم؟

أنطلقُ من معاينة بسيطة هي أن الحياة ليست ماهيةً، كما أنها ليست حالة، بل هي عملية مواصلة واستمرارية مهددة بالتوقف والانقطاع. أما تعريفي لها فهو تعريف واقعي؛ بمعنى أن فعل الحياة يعني مواصلة الحياة. ففي اللحظة الحالية نحن أحياء، لكن يمكن لذلك أن يتوقف. نحن أحياء تحت تهديد الموت، لهذا السبب تجدني أتمسك بتعريف الطبيب بيشا؛ فليس في إمكاننا وصف الحياة دون تضاد مع الموت. وأضيف بأن هذه الواقعة لا يتعين تجاوزها، بل ما يتوجب النهوض به -بالأحرى- هو العمل على تعميقها، باعتبارها تقاطباً جوهرياً وأساسياً.

⊙ ماذا تقصد بالتَّقاطب؟

أعني به أن ما أُعْطِي لنا هو التوتر القائم بين الحياة والموت، على غرار ما هو حاصل بين قطبي الدارة الكهربائية. فوضعنا أو شرطُنا هو أن "نكون كائنات حية فانية"، والفلاسفة الذين أرادوا تجاوز علاقة التقاطب -كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لأفلاطون، أو شوبنهاور مع شدَّة الاختلاف القائم بينهما!- يعتقدون بوجود ماهية للحياة. بينما آخرون يستبد بهم استحواذ الموت. والحال أن الموت هو على الدَّوام موت للحي، أما الحياة فلا تموت. وأنا مدين بمفهوم التقاطب هذا لـ"جورج كنغلهيم2 GEORGES Canguilhem"، والذي يحيل إليه كتابي الأخير بقوة؛ فالحياة بالنسبة له نضال وصراع ضد "ما له قيمة سلبية"، وهو الصراع الذي يواجه مع أخطار مختلفة، ويعتمد أدوات تختلف باختلاف الكائنات الحية. ويمكن النظر إلى كلِّ من كتابِهِ "السوي والمرضي le normal et le pathologique"، وانخراطه في صفوف المقاومة، على أنَّهُما رفض لما هو سلبي، لكنه لا يتكلم إلا قليلاً عن الموت، وعن الأشكال والصور التي اتخذها سنة 1943، بيد أن حذَره تجاه النزعة الحيوية، واحتراسه منها مَردُّه إلى وعيه بما قام به النازيون من استعمال وتوظيف وحشي لها، أمَّا من جهتي، فأنا أنادي بنزعة حيوية نقدية.

⊙ ما يعارض النزعة الحيوية هو نقد الفيلسوف لفيناس لها؛ لأن الدفاع عن الحياة، بالنسبة له، يمكن أن ينقلب بكامل السهولة إلى قانون الأقوى، والدفاع عن المصلحة الخاصة، ما رأيكم؟

إن خطر الاختلالات والانحرافات الحَرْبية لموقف النزعة الحيوية خَطرُ محدق وكبير، فقد قامت النَّازية على فكرة الحرب؛ لأنها نظرت إليها بوصفها مبدأ حياة. صحيح أنه من اللازم النظر إلى الهدْم على نحو جدِّي بوصفِه واقعة توجد، مثلُها مثل فكرة الخلْق في قلب الكائن الحي؛ بحيث يجعلنا الاستمرار على قيد الحياة والمحافظة على بقائنا على استعداد للدوْسِ على الآخرين في حالة وجود خطر حيوي (رد الفعل: الفائق في رسوخ نزعته الحيوية، يبقى منطوياً دائماً على خطر أن يقُود إلى ذلك في ظل وضعيات الاستعجال). لكن الخطر الحيوي الأسوأ بالتحديد، والأول على مستوى الواقع بالنسبة للكائنات الإنسانية هي الحرب! بل وحتى الحرب الداخلية، والنزعة الحيوية التي تريد لنفسها أن تكون تامة الدقة، هي تلك التي تبتدئ من هنا. لكن، إذا اعتبرنا أن الحياة هي الحرب، فإن العكس هو الذي سيكون حاصلاً، بحيث ستكون المحاولة كبيرةً عندئذ للبحث عن مبدأ أخلاقي خارج الحياةِ وليس داخلَها. وهو ما قام به لفيناس بوضعه لهذا المبدأ في الغير، الذي يشير إليه ويعَيِّنُه بالوجه. لكن هذا الوجه هو مبدأ متعالٍ بالنسبة له، وليس وجهاً لجسد حي وفانٍ. أمَّا أنا فأُفَضِّل الذهاب إلى أقصى حد للحي، حتى في الجانب السلبي. ورفض الموت بمختلف أشكاله وصوره -وهذا أمر جوهري- هو الكيفية الوحيدة لتأسيس الأخلاق!

⊙ هل هي صورة لرفض العنف؟

إن لفظ العنف هو لفظ عام جدّاً. وقبل رفض العنف أضع رفض الانتهاك، أو الاغتصاب الذي يحطم الحياة الإنسانية من الداخل، بل إنه يهدم حتى العلاقات الحيوية بيننا. وكل كائن إنساني يختَبِرُه بذات الكيفية التي يلاقي بها الموت. إن اللَّحظة الوحيدة التي يصير فيها الكائن الحي الإنساني أخلاقياً، هي عندما يهدِّدُه أولئك الذين يجب أن يبذلوا له الحب والرعاية بتحطيمه وتخريبه، أو عندما تكون له هو رغبة في تحطيمهم، كأن يرغب أب بقتل أطفاله لارتفاع صراخهم ليلاً ويقاوم ذلك! وهذه السِّلبية الحميمية هي ما أسميه بـ"الاستباحة أو الاغتصاب"، بدلاً من تسميتها بـ"العنف"، لهذا السبب تجدني أضع على الصعيد الأخلاقي، تحريم "قتل الآباء parricide"، و"قتل الإخوةFratricide "، قبل تحريم القتل بصفة عامة، الذي يُمَثِّلُ بحثاً متأخراً في التاريخ الإنساني عن الأخلاق التي لم يتم نيلها بشكل كامل أبداً.

⊙ كمؤرخ لفلسفة القرن العشرين، سبق لكم تشخيصُ "لحظة الحي moment du vivant"، التي وَجَّهت حياة الفكر منذ ثلاثين سنة، والتي تحدِّدُونَها في كتابكم الأخير انطلاقاً من ثلاثة محاور: الإيكولجيا، التعلُّق والعناية، ثم الدماغ.

أربط كل محور من هذه المحار بثلاثة أعمال كبرى، تمَّ نشْرُها أو إعادة اكتشافها خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. كتاب مبدأ المسؤولية لهانس جوناس (le principe de responsabilité, de Hans jonas)، وانتقاد التقنية والتقدم في انعكاساتهما وآثارهما على الطبيعة. وقد طوَّر كتاب "التعلق والفقد attachement et perte "، باعتباره أهم كتاب لـ"جون بويلبي John Bowlby"، الأطروحات التي ابتدأت تعبِّر منذ الخمسينيات من القرن العشرين عن الجانب البيولوجي من الحب: الرضيع له حاجة بيولوجية، وليس حاجة ثقافية لتكون له علاقة مع كائن مفرد. وفي الأخير كتاب "الإنسان العصبي l’homme neuronal لبيير شونجو Pierre Changeux" الذي نُشِرَ سنة 1983، مثيراً نقاشاً حول إرجاع الفرد واختزاله إلى دماغه. إن الأعمال الثلاثة المذكورة وضعت في مُجملِها الإنسان داخل الحي، والحي في قلب فهم الإنساني والعالم. وأضيف إلى هذه الأعمال تأمل مشيل فوكو بخصوص "البيوسياسةbiopolitique "، الذي كان معاصراً لهذه التغيرات العلمية.

⊙ هل تكون لحظة الحي بمثابة عودة إلى الطبيعة، وبالتالي عودة إلى البيولوجيا؟

بالنظر إلى تكويني الذي أدين به إلى العلوم الإنسانية، تردَّدتُ بشكل تلقائي في الاعتقاد بأنني "أنا هو دِماغي، وبأنني لست كائن لغة ودلالات بل مجموع جزيْئات"، لكن الواقع أنني كنت أبلغ من العمر 23 عاماً عندما، حضرت أول مؤتمر كبير بفرنسا حول العلوم المعرفية سنة 1987، بـ"Cerisy la- salle". فكان أن غُصْتُ بشكل كُلِّي في عمق هذه الثورة العلمية، ومع أنها كانت تتم في صمت، كان لي إحساس بأن "الأمر يحصل هنا". واليوم خرجنا من النقاش المانوي حول الحتمية البيولوجية. وقد قام شونحو وعلماء أعصاب آخرون بالحركة المعاكسة، التي لم تختزل الإنسان إلى العصبي فقط، بل عملت على فتح العصبي على الإنسان. ومن جهتي أتحدث حتى عن نزعة إنسانية عصبية مُمكنة، لكن عند توافر شروط بعينها، عندها يمكننا ويجب علينا استعادة كل ما هو إنساني انطلاقاً من البيولوجي، بدل أن نفقده مثلما ذهب بنا الاعتقاد منذ عشرين سنة، وإذاً؛ ربما يكون ذلك عودةً إلى الطبيعة، لكنها عودة بداخل تناقض داخلي للكائن الإنساني. كيف يمكن على سبيل المثال المصالحة بين مواجهة المرض والحرب والفقر من جهة، والآثار السلبية والضارة لتقنياتنا على الكائن الحي من جهة أخرى؟ لن نخرج من هذا التناقض عن طريق الهروب من وضعنا أو شرطنا الحيوي (كما تشتغل على ذلك النزعة ما بعد الإنسانية transhumanisme)، ولا من خلال اختزاله وردِّه (كأن يتم على سبيل المثال اختزاله إلى الجينوم الخاص بنا).

⊙ أَلِهذا السبب تناضلون لأجل نزعة إنسانية جديدة؟ إنه لمَوقِف باعث على الدهشة، بالنسبة لصاحب نزعة حيوية يعتبر نفسه نقدياً؟!

تلك هي النقطة المفصلية لفِكْري برمته، لكن المرة الأولى التي أنجزتها فيها، وحققتها كانت في كتابي الأخير، بحيث كُنت دائم البحث عن هذه العلاقة بين الحي والإنساني، دون أن أكون على بَيِّنةٍ وإحاطة بذلك، وهذه العلاقة هي التي تُمثِّل مفتاح النفاذ إلى أحدهما كما إلى الآخر. إلى جانب أنها تمثل، بنظري، القلب من كل شيء اليوم، حتى من الزاوية السياسية. فحالة الطوارئ العالمية المُلِحَّة للمناخ ولانقراض الأنواع، بما فيها النوع الإنساني، هو ما يهيمن على لحظة الحيmoment du vivant . لكن حميمية الشخص الإنساني قد تأثرت بدورها؛ فالإنجاب، ووضع نهاية للحياة، ومرضُ الزهايمر، كلها تمثل أسئلة لحقبتنا تطرح نفسها بكامل القوة. إجمالاً نحن على علم بكيفية حميمية بأننا كائنات حيَّة بشكل تام ومن كل الجهات، بيد أننا من الناحية البيولوجية والنوعية كائنات هشَّة؛ بحيث يمكن أن يقضي علينا التلوثُ، ولكن أمراضَ الانتكاس العصبي يمكن أن تُحطّمنا أيضاً. إن هشاشة ما هو حيوي تبقى عامة إلى درجة تطال معها حتى ما هو اجتماعي. والنزعة الإنسانية التي أدافع عنها لا تدل البتَّة على إعادة توطيد وجود الكائن الإنساني بوَصْفه سيداً للطبيعة ومالكاً لها، بل تفيدُ الاعتراف بأن الإنسان هو وحده من يقدرُ على خلق وابتكار مؤسسات تتيح حماية هذه الهشاشة التي تطبع الحيوي.

⊙ ما الذي تقصدونه بـ"المؤسسة" تحديداً؟

إنها إبداع الكائنات الحيَّة الإنسانية لقاعدة مشتركة في مواجهة تجربة سلبية. فقد صنعت الكائنات الإنسانية الفؤوس والعجلات واللغة، مثلما صنعت المؤسسات أيضاً لأجل التخفيف من الأخطار الحيوية. على سبيل المثال نلعب بكرة، لكن إنْ أردنا تفادي الاقتتال في غمار التدافع والتنافس حولها، عمدنا إلى رسم ميدان للعب، ونصب شباك، ثم تعيين حَكم؛ فالمؤسسات تَخلق مشاكل بقدر ما تجد لها حلاً؛ لأن الكائن الحي يظل على الدوام موزَّعاً بين أكثر من قُطب polarisé، وهو ما يستلزم، دون توقف، قوى مضادة.

⊙ كمثال على المؤسسة نجدُ اللجنة الاستشارية الوطنية للإيثيقا بالنسبة لعلوم الحياة والصحة، والتي تتمتعون بعضويتها منذ سنة 2013، وأنتم تقولون إن البيوتيقا موجَّهة أساساً إلى تجنب الحرب الأهلية. فما الذي تعنونه بذلك؟

إن البيوتيقا ليست إتيقا بالمعنى الذي تزعم فيه، وتدعي لنفسها قيادة وتوجيه السلوك الإنساني بصورة عامة (مثلما أنها لا تحكم، ولا تفصل في المشكلات الميتافزيقية للحياة والموت)، بل هي مؤسسة لأجل تفادي الصراعات المنبثقة من علوم الكائن الحي. ولا بد بالدرجة الأولى من اعتبار التناقضات التي تبقى داخلية بالنسبة للطب؛ على سبيل المثال الدواء الذي يكون لاستعماله بعض الآثار الجانبية يستلزم إتيقا قائمة على المخاطر/المنافع. وهذا ليس بعدُ من البيوتيقا؛ لأن هذه الأخيرة إنما تبتدئُ بحصول التناقض بين إتيقا الطب – على سبيل المثال تقديم العلاج- وإتيقات أو أخلاقيات أخرى من قبيل احترام الحرية مثلاً. ومثل هذا الصراع يحْصُل كل يوم. وصورته أو شكله الرهيب هو المتمثل في التجريب الذي قام به الأطباء النازيون على الضحايا، دون موافقتهم طبعاً، والذي تمت محاكمته أمام محكمة نورمبرغ Nuremberg، والذي يشكل أصلاً من بين أصول البيوتيقا.

وهناك أصل آخر نجده على الخصوص في فرنسا، هو المتعلِّقُ بصراع القيم. ولجنة الإتيقا شهدت ميلادها بمناسبة بعض الاكتشافات العلمية (الاستنساخ، الإخصاب في المختبر...)، التي مسَّت الأحداث الكبرى للحياة الإنسانية (الجنسانية، التوالد، الولادة، نهاية الحياة، الموت...)، عاملة بذلك على وضع أخلاقيات لم تكن كلُّها على اتفاق حول المعنى الذي يتعين مَنحُه لهذه الأحداث الكبرى، وهو ما لم يكن ليُشكِّلَ حرباً للخير على الشر، بل حرباً بين مختلف التصورات الخاصة بالخير، ومن هذه الزاوية تكون "الحرب الأهلية la guerre civile"la guerre civile"الحرب الأهليةلى الشر، بل حربا بين مختلف التصورات الخاصة بالخير." هي "حرب الآلهة" كما قال آلان، وبالتالي فوظيفة البيوتيقا هي العمل على تهدئة الصراعات، ليس بين الطب والأخلاق فحسب، بل بين الأخلاق في تعدُّديتها داخل مجتمع بعينه.

⊙ كيف أسهم عملُك داخل لجنة الإتيقا في تغذية فلسفتكم حول الكائن الحي؟

إن ما تعلَّمتُهُ بشكل كبير هو أن جميع المشكلات الفلسفية، هي مشكلات تم الدَّفع والتعجيل بها من قبل علوم الكائن الحي "les sciences du vivant". فعلى سبيل المثال، مفهوم الموت الدماغي قد صار من الآن فصاعداً هو الموت الذي يتمسك به القانون وينُصُّ عليه؛ بمعنى أننا نعلن عن أن شخصاً قد مات، أو ما يزال على قيد الحياة تبعاً للحالة التي يكون عليها دماغُه، حتى وإن تواصل نبض قلبه. وما كان في إمكاني أن أفهم حالة فانسون لامبير Vincent Lambert لو لم يكن لي نقاش مع عالم الأعصاب ليونيل ناكاش Lionel Naccache، حول المفهوم العصبي للوعي.

⊙ فانسون لامبير الذي كان في غيبوبة مستمرة لا تقبل الرِّجعة منذ خمس سنوات على إثر حادثة سير بالسيارة منذ 2008، وقد تم الإعلان عن وفاته في 11 يوليوز الأخير، بعد ما يقارب مدة عشر سنوات استغرقتها المعركة القضائية، فهل هذه حرب أهلية من منظوركم؟

إن ما ينضاف إلى وضعية الحياة أو الموت هو الصراع بين الأقارب. والأمر لا يتعلق في العمق بالحكم على الأسباب التي ينطلق منها هؤلاء أو أولئك، بل التَّسَاؤُل لماذا هناك صراع من الأساس. فعندما نكون بمواجهة معضلات أو مآزق حياتية وحيوية جد مأساوية، السؤال الذي يُطْرَحُ ليس هو تحديد وتعيين من يمنحه القانون الحق في اتخاذ القرار أو ينزعه منه فحسب، بل من سيتخذ القرار. ومن جهتي أدافعُ إلى جانب لجنة الإتيقا عن قانون كالييس ليونيتي Claeys –Léonetti لسنة 2016 حول نهاية الحياة، لكن من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن عيبه يتمثل في: "الشخص محل الثقةla personne de confiance". والحالة التي يكون فيها المريض، والتي تجعلُه في وضع لا يسمح له بالتعبير عن إرادته والافصاح عنها، يتوقع القانون أن يكون أمْرُ قرار إيقاف العلاجات من اختصاص الطبيب، وأعتقد شخصياً أن القانون كان بإمكانه أن يفصل ويحسم بخصوص هذه النقطة. أولاً: بتأكيده على وجوب توفُّر شخص يكون محل ثقة؛ لكي يتخذ القرار، وثانياً: من خلال قول من يكون هذا الشخص في الحالة التي يكون فيها المريض عاجزاً على تعيينه بنفسه؛ على سبيل المثال هل هو الزوج أم الأقارب... لا أعلم من سيكون موضوع اختيار، غير أن النقاش كان من اللازم الحسمُ فيه قبل أن يصير الصراع أمراً واقعاً.

لا شك في أن أسرة لامبير كانت ممزَّقة بشكل صميمي أمام وضعيته التراجيدية (وكيف لا تكون كذلك؟)، لكن العنف قد تم تجنُّبه؛ فداخل وضعيات "نهاية الحياة"، نجد تخوُّفَيْن لا يمكن تحمُّلُهُما: الموت نفسه، ولكن أيضاً التخوف من عدم قدرة المرء على أن يتخذ القرار بنفسه، والتوجيهات الاستباقية هي التي بإمكانها مواجهة هذا الأخير. غير أن التوجيه الاستباقي الملطِّف والمسكِّن، يبدو لي أكثر من مجرد تعبير المرء عن إرادته مسبقاً، وبشكل مُجرَّد؛ لِيَحصل على الخصوص في تعيين المرء للشخص الذي يكون محل ثقته، ولسان حاله يقول: إذا ما حدث لي أمر أريدُ أن يكون هذا الشخص هو من يتولى اتخاذ القرار لأجلي.

⊙ بالنسبة لكم، ما الذي يجعل الحياة لا تطاق، من المنظور الفلسفي؟

إنه مفهوم مركزي جدّاً، ويمكننا في هذا السياق الاستشهاد بتأمل أدورنو حول "الأسوأ من الموتle pire que la mort "، ذلك أن الحياة الإنسانية لها العديد من المستويات والدرجات، التي لا يمكن أن يتم إيجازها إطلاقاً في مجرد اشتغال العضوية، كما أن للموت بدوره العديد من المستويات أو الدرجات. فالتعذيب الأخلاقي أو الجسدي يمكن أن يكون أفظع وأسوا من الموت؛ لأن ما في الإنسان هو أكثر من مجرد أنه يحيا. لكن كيف السبيل والحالة هذه، إلى تعيين وتحديد مقاييس الذي يجعل الحياة لا تطاق l’invivable، تكون متمتعة بالصلاحية لدى الجميع؟ هناك درجات للألم والمعاناة، خصوصاً في المرض المزمن أو العضال، وعند "نهاية الحياة"، ولكن أيضاً قدرات الشخص على أن يكون واعياً بذلك، وهي قدرات حيوية. فهل تلاشي واختفاء هذه القدرات بشكل كامل يجعلنا أمام ما هو أسْوأ من الموت؟ وبالنسبة لمن يكون الأمر على هذه الشاكِلَة؟

لا أعمل إلا على طرح معالم سؤال يبقى من المهم جداً التفكير فيه. أضف إلى ذلك أنَّ ما هو أسوأ أخلاقياً يبقى بدوره حيوياً مثلُه مثل الأسوأ فيزيقياً، ومع ذلك لا ينبغي ترك هذا الأمر نهْباً للنزعة النسبية المطلقة للذوات الفردية. وإلا فإن حزناً ناجماً عن الحب يمكن أن يتم عيشه باعتباره "أسوأ من الموت"، كما يمكن أن يتم عيش أي فشل كان على أنه كذلك؛ كأن يقول لسان حال أحدهم: أن أموت خير لي من أن أفشل في مباراة مدرسة الأساتذة العليا، وأمر من هذا القبيل يمكنه أن يؤدي إلى أشكال مرضية حيوية على درجة كبيرة من الخطورة، قد تُفْضي إلى الانتحار، مما يدعو إلى لزوم توافر مقياس للحي أو الحيوي.

⊙ في العمق هل أنت فيلسوف بذات القدر الذي كان بإمكانك أن تكون طبيباً؟

نعم، قليلاً. لكن؛ لا أبحث أبداً عن معرفة ما سأفعل مكان الأطباء، بل ما أقوم به هو أنني أحقق لقاءً مع أسئلتهم اعتماداً على أدوات أو وسائل أخرى؛ فأمام الأطباء ينتابني الوجَل والخوف؛ لأنهم يخوضون معركة الحياة والموت بشكل مباشر، بينما أنا لا أعارِكُ سوى المشكلات الفلسفية.


الهوامش: 1. إن الكائن الحي، لا يُدْرِكه فريدريك وورمز باعتباره ما يتَّصف بالحياة، أي بعبارة أرسطو كائن من الكائنات التي "تمتلك في ذاتها، ومن حيث هي كائنات مبدأ حركتها"، ثم اتصافه بالمعنى الآخر للحياة الذي يجعلها مرادفة للسيرة والسردية الذاتية، بل ما يركز عليه هذا الفيلسوف بدرجة أكبر في هذا المفهوم، هو بُعْده الإشكالي في الحقبة المعاصرة، بحيث طرح نفسه باعتباره مشكلة، بانتقاله من المستوى المحلي إلى الكوني، واختراقه لكل مجالات المعرفة وميادين الفعل، بدءاً من وضع أُسس الفكر في الدماغ، وصولاً إلى المحافظة على الحياة في الكون، مروراً بعلاقة الإنسان بالحيوان، ثم الموقع الذي يتعين أن يكون لكل من الرعاية والسلطة على مستوى العلاقات بين الأحياء... كل ذلك يجعل من "الحي" مشكلة نسيجها توترات ليست خارجية بالنسبة للحي، هي تلك التي تقوِّمُ العلاقات بين الحياة والموت، بين الإنسان والحيوان، بين الرعاية والسلطة... مما يستدعي جدَّة وتنوُّعاً على مستوى المقاربات التي تكوِّنُ في النهاية ما يسميه فريدريك وورم بـ"لحظة الحي" [المترجم]. 2. فيلسوف وطبيب (1904-1995).
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها