علي أبو الريشْ.. مُروءات لا تشيخْ!

إسماعيل نوري الربيعي



هذا رجل لا يتردد لحظة من الفتك بنفسه، سعياً لكتابة نص.. يا الله، وما الذي يدعوه إلى هذا؟ قل؛ الشغف الكلف، الهيام، الافتتان، الحب والغرام. (علي أبو الريش) متورط بالإبداع من رأسه حتى أخمص قدميه. يستحثّه الحبور في التكوين، والنشوة في الإبداع، واللذة في الإنشاء، والسعادة في خلق العوالم. كائن إبداعي لا تعوقه الصعوبات أو العوائق أو العقبات. لا تروعه المشكلات أو المآزق. (منذ أن غادرنا العفوية، ونحن ندفع الثمن الباهظ في سبيل الوصول إلى مرافيء الطمأنينة). أبو الريش لا يتردد لحظة عن إزاحة المتنبي، طالباً منه بكل تهذيب أن يفسح المجال أمامه، يستميحه العذر في الخلاص من إيقاع (المونولوغ الداخلي) الذي استبد بأبي الطيب. لينادي مستصرخاً من كل قلبه (على قلق كأن الريح تحتي)، متسحثاً الطمأنينة بكل موانئها وشطآنها ومراسيها. يالَ هذه الأهوال التي راحت تعرش على سدة الواقع بعد أن غدونا (نناقض، ونناهض، ونقايض) هاهو ذا يعمد إلى إدانة التيه، واستنكار الصعوبات، وتأثيم العقبات، والشكوى من الأزمات وتجريم التورط.
 

ببراعة السارد المحنّك لا يلبث أن يستقطر رمزية العفوية الكان في النفس البشرية، عبر رمز الوردة، بكل ما فيها من عطر فواح أكيد، ويغمسها في تبتل روحي، مستمطراً إياها في الخصيب من المدركات والتصورات. حيث الإحالة إلى رائحة الأرض، بوصفها اليقين الراسخ الذي يؤكد إنسانيتنا، وطريقة تعايشنا في الفضاء الذي نحيا فيه. رمزية العطر، حيث رائحة حضن الأم حيث الاستنشاق الأول للمجمل من العفوية الطافحة الغزيرة، رائحة هي الأزكى والأوفر عبيراً، الأوفى أريجاً، الأوفر شذا، الأطيب شميماً، الأجزل ريّاً، الأجدى طيباً، الأعوَدُ فَوعةً، ونشراً ونكهة وفَوحاً. عفوية نشمها بين الأرجاء التي تحيط بنا، نتنسمها في رائحة البيت القديم، نتنشقها حين نحتضن صديقاً قديماً، نستنشقها في ملاعب الصبا، السوق القديم، في طبخة كانت تعدّها لنا أمهاتنا. في رائحة عرق الكادحين والباذلين والعاملين.

يستحضر أبو الريش (رمزية الطير) بوصفه قريناً للعفوية، بكل مافيه من شموخ وسمو، وفيض غزير من الحرية. تطلع يقوم على الإفلات من براثن التحديد والتنميط، والإخضاع والتحجير، تحرر يقوم على الانعتاق من القيود ونبذ الرتابة، والانسلاخ عن أسر الأغلال والقبض والاحتجاز. حتى غدا إنسان الراهن رهينة، يرسف بسلاسل لا تنقطع من التابوهات والمحرمات والوصايا. عفوية غابت وسط لهاث الناس نحو تحقيق أحلامها، حتى صار الناس عبيداً لتك الأحلام التي لا يمكن أن تتحقق، أحلام هي في الواقع أوهام، تصنّعها الآلة الإعلانية الجهنمية، التي استبدت بأدق تفاصيل حياتنا، ورحنا نعيش ماراثون الحصول على السلعة، لنفقد هبة التحليق، ونشر قلوع أجنحتنا في الفضاء الشاسع الرحيب. لم نتردد لحظة واحدة، عن الإطاحة بالشغف الذي فينا، والتوجه المجانيّ نحو إغلال أنفسنا بالقيود، والقبول مستبشرين بركام السلع التي بتنا نحرص أن نقايضها بعفويتنا المستباحة.. وإنها لعمري لصفقة خاسرة.

ها نحن نعيش أحوال الرهان على التوهم، والاتفاق على الاختلاق، والركون إلى الريبة، والانغماس بالسهو، والانسجام مع الغفلة. حتى غدت حياتنا سيل من الافتراء والتلفيق والتوهم. وصارت المظان والمصادر التي تحرك حياتنا، تقوم على الشك والظنّ والنسيان والغفلة. أفلتنا من يدنا وبطريقة نادرة (رمزية الشجرة)، حيث الجذور التي تحيلنا إلى مروءاتنا ونخوتنا وحميتّنا. لهونا (بالتشات) في هواتفنا المحمولة الذكية، وسهونا عن الإيك في أغصان أريحيتنا ودماثتنا. وأصبحنا لاهثين بأبنية الإسمنت الشاهقة، غير مكترثين أو عابئين بأشجارنا الراسخة الجذور. يالَ عفويتنا المستباحة على دكة أوهام التراكض والتداعي والتزاحم. جُذورنا نستميحُك العذر، فقد ضيعنا حبلنا السري على يد ممرضة لا تجيد سوى الرطانة، وفقدنا مشيمتنا في ردهة بيضاء أكثر من اللزوم عند مستشفى بارد، بُولغ في تعقيمه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها