الجنس الأدبي بين الصفاء والتهجين

د.محمد رمصيص

أثارت قضية تداخل الأجناس الأدبية على امتداد التاريخ الإبداعي أسئلة مركبة من قبيل: هل ثمة جنس أدبي أصيل وآخر هجين، أم أن مفهوم الأصالة والهجانة مفهومان عائمان لا يمتلكان قوة إبرامية على المستوى النظري والنقدي؟ وهل المخرج المسرحي مثلاً محصن تماماً من تسرب تأثيرات مخزونه القرائي في الرواية والشعر والسينما؟ وبماذا يتحدد الجنس الأدبي، هل بما فيه من وسائط تبالغية أم بما في غيره من الأجناس الأدبية؟ وعلى ماذا تتأس سلطة الجنس الأدبي، هل على قوة الأثر أم على خلفية احترامه لضوابط الجنس الأدبي؟


 في الواقع دراسة خصوصية الجنس الأدبي بمنأى عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى تبدو شبه مستحيلة؛ لأن الفصل بينها لا يلبث يردنا لفعل اشتباكها؛ إذ إننا قلما نظفر بدراما صافية بالمطلق، أو ملهاة نقية تماماً؛ أمر ينطبق على الكتابة وينسحب على الحياة التي يتماس فيها الحزن بالفرح، ويتقاطع فيها البكاء بالضحك..

 تاريخياً نتج عن سؤال حدود الأجناس الأدبية ثلاثة مواقف متباينة:
أ) موقف أرسطو في "فن الشعر" الذي انتهى فيه إلى مقولة نقاء الجنس الأدبي المطلق.
ب) موقف ثان لكل من كروتشه الإيطالي في مطلع القرن (20) من خلال كتابه "المجمل في فلسفة الفن"، المنتهي إلى التداخل الجزئي بين الأجناس الأدبية، ودليله في ذلك الشعر المنثور، وخروج المسرح نفسه في العصر الإغريقي من معطف الشعر (ملحمي، درامي، غنائي).. موقف سبقه إليه هيغل في "فن الشعر"، حيث اعتبر الفن عموماً شيء مضى وانقضى لأنه لم يوفق في التعبير عن المطلق. وهو ذات الموقف تقريباً الذي استقر عليه موريس بلانشو في كتابه "le livre à venir " الذي خلص فيه إلى أن الأدب سائر نحو حذفه.. علماً أن هذا الباحث كان مهوساً بالممكن التحقق أكثر مما هو متحقق، ولذلك ظل يبحث عن أفق غائم لمآل الأدب دون التوقف في تحقيقه. وفي ذات السياق سار رولان بارت من خلال مرجعه "درس في السيميولوجيا"، حيث تجاوز التوصيف التقليدي للأجناس الأدبية باعتماد مفهومي الكتابة والنص.. والكتابة هنا بخلفيتها المتمردة والعاصفة بما تكرس من تصنيف.. الكتابة عند رولان بارت لا تنتج إلا النص الذي لا يصنف؛ لأنه يتموقع أساساً خارج التراتبية.
ج) موقف ثالث لجيرار جنيت في "مدخل لجامع النص" حيث انتهى إلى الخلاصة التالية: ليس هناك سوى جامع النص باعتباره مصباً تلتقي فيه أنفاس الأجناس الأدبية المجاورة. إذن؛ بين الصفاء المطلق للجنس الأدبي، والتداخل النسبي هناك الاشتباك العاصف للكل بالكل.

ولكي نقترب من هذا التأطير النظري سنحاول ملامسة تأثير المسرح في السينما، باعتباره كان سباقاً في الميدان.

في نشأة وامتداد المسرح والسينما

تعود نشأة المسرح إلى عشرات القرون خلت، بخلاف السينما التي أكملت قرنها الأول وعقدين من الزمن.. أسبقية في التكون منحت المسرح صفة أب الفنون، وحداثة في الولادة تعطي السينما صفة البنت الضالة التي حاولت غير ما مرة قتل الأب رمزياً، لكنها تجهل أنها بقتله تنتج يتمها الخاص.. وعموماً الحاجة للمسرح ستبقى ما بقي الإنسان والفن. وإذا كان المسرح على امتداد تاريخه الفني صارع من أجل البقاء، وذلك بتغيير شكله وأدواته، كانتقاله من شكله الدائري الذي كان يوحي بالحميمية إلى شكل حرف (u) قصد الانفتاح على كم وافر من الجمهور؛ فإن السينما بدورها وعت بسرعة أنها إن قلدت المسرح ستبقى نسخة منه، وبسبب ذلك لجأت لشاشات ثلاثية الأبعاد.

وثمة طموح إلى سينما يكون بمقدور المشاهد أن يشتم رائحة الصور المعروضة عليه. وإذا كان للمسرح من تفوق لحظة ولادة السينما باشتماله على الصوت؛ فان السينما سرعان ما زاوجت بين الصورة والصوت، أمر أضفى الكثير من الواقعية على منتوجها. وفي إطار الصراع بين الجنسين الأدبيين كان لا بد لكل منهما أن يقترح قيمة مضافة ليحافظ على جمهوره بل ويقويه.. وهو ما قام به المسرح بإسقاط الجدار الرابع قصد كسر الإيهام بواقعية ما يحكي مع "برتوليد بريخت" تفادياً للاندماج باعتباره فعلاً تنويمياً سلبياً. "فبريخت" على خلفية اشتغاله على نظرية "المسرح الملحمي"، راهن على المتلقي الفاعل والمراقب، بل والمالك للقدرة على الفعل واتخاذ القرار، وهو ذات الأفق الذي سار فيه "أنطوان أرطو" من خلال اشتغاله على "مسرح القسوة"، حيث طالب بعلاقة حميمة بين الممثل والمتلقي قصد إشراك الجمهور بعمق وحرارة حول ما يقع على الركح..

في التداني والتنائي بين الأجناس الأدبية

كي نكون منصفين لا بد من القول إن السينما أخذت من المسرح وأعطته؛ إذ بتحويلها لأعمال شكسبير وتوفيق الحكيم مثلاً أعطت مساراً آخر للقراءة والتلقي والانتشار. فقط يلزمنا تحديد نوعية التحويل أولاً.. إذ إن التحويل ليس إيجابياً في المطلق. فهناك تحويل النص الدرامي إلى السينما دون رؤية إخراجية يجعلك ترى "الفلم" وكأنك تقرأ النص المكتوب. أمر يسيء للنص المسرحي ويسيء للسينما كذلك. وهناك حالة يكون فيها "الفيلم" أضعف من النص.. كما أن هناك حالة ثالثة تلتقي فيها قوة الإخراج بقوة الكتابة الدرامية، كتقديم المخرج الياباني القدير أكيرا كيروساوا "للأبله" عن رواية دستوفسكي بنفس الاسم، وتقديم المخرج الإيطالي برناردو برتولتشي لفيلم "الشريك"عن رواية بنفس الاسم لدستوفسكي كذلك.

وعلى هامش هذا التفاوت بين النص والإخراج ثمة ظاهرة تستدعي وقفة تأمل: لماذا ثمة مخرجين مسرحين وسينمائيين يتشبثون بالكتابة لأنفسهم؟ هل لأن تحويل الكلمة إلى صورة سينمائية أو إلى مشهد مسرحي يلزمه خطاب مخصوص وخلفية إخراجية خاصة قد لا تتوفر للكاتب، أم أن الطاقة التعبيرية للصورة والمشهد يلزمهما كتابة في غاية الدقة قصد حبس أنفاس المتلقين؟ أفكر في أعمال جون لوك كودار وآيزنشتاين، وفلليني وبازوليني... ظاهرة تفسر لماذا ثمة نصوص كتبت للسينما مباشرة ولم تصدر في كتب لأنها مجرد خرائط لإنتاج فيلم معين. وعموماً المسرح والسينما كسائر الفنون يظل طموحها العام هو تجسيد الحلم وتشخيص غير المحسوس، وبسبب هذا تتطلب كتابة خاصة.. دون أن يعني هذا عدم استفادة المسرح من الشعر مثلاً والسينما والرواية.. أستحضر هنا حضور أعمال نجيب محفوظ وحنا مينا، ويوسف إدريس، وإبراهيم أصلان في السينما..

بالنتيجة يمكن القول: إن علاقة المسرح بالسينما هي علاقة فائدة متبادلة، وإن كانت هوليوود كعاصمة للسينما قد أفادت كثيراً بجلب نجوم المسرح، يكفي ذكر أسماء من قبيل: مارلون بروند، وجيمس ستوارت، وجوليا روبرتس الذين تمرسوا أساساً في البداية بالمسرح.
 

استنتاج تركيبي

نخلص إلى أن علاقة المسرح بالسينما علاقة تفاعل وإفادة متبادلة، يكفي حضور الوعي بتمايز الحقلين عن بعضهما البعض للانتقال من وإلى السينما دون خسائر تذكر. علماً أن ما يجمع السينما بالمسرح أكثر مما يفرق بينهما.. فكلاهما فن مركب يعتمد في اللحظة الواحدة عدة رسائل، من خلال توسلهما الحركة والإنارة والديكور والإيماء والكلام وما شابه ذلك.

لكل هذا تبدو الاستفادة من الجنس الأدبي السابق شرط وجود بالنسبة للجنس الأدبي اللاحق.. أمر عاشه المسرح نفسه لحظة تغذيه على الشعر تماماً، كما استفادت السينما من المسرح والرواية.. مع وجوب التشديد على خصوصية كل جنس على حدة دون أن يعني ذلك الانغلاق على الذات. في هذا الأفق أفهم مشاعر العداء التي صدرت عن المسرح فترة ولادة السينما، وهي ذات المشاعر التي أنتجتها السينما تجاه التلفزيون حيث قاطعته لسنوات، لكنها عادت وصاحبته بعد أن كرس نفسه كواقع، وأضحت أكثر المستفيدات منه في ترويج منتجاتها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها