الحربُ العادلة؟!

مقولة أضرمت نار الحروب الصليبية لثلاثة قرون؟

أم السعد مكي

يظهر القديس (أوغستين Augustine) رجل دين يرنو للسلم، بعد أن اتخذ من (المسيحية) منهاجاً وشريعة، غير أن الاتهام الموجه له من لدن مؤرخين غربيين، ينبئ بخلاف ذلك، فهو من أضرم فتيل الحروب الصليبية بين الغرب الأوروبي والشرق العربي الإسلامي، لمدة ثلاثة قرون من العصور الوسطى، عاثت فيها أقدام المسيحيين الكاثوليك (الفرنجة) فساداً، وسيوفهم سفكاً لدماء المسلمين، بسبب ما قاله في القرن الخامس الميلادي بأن: "الحرب الدفاعية هي حرب عادلة"، مقولة أحياها البابا (أربان الثاني) في القرن الحادي عشر بعد أن نفخ فيها روح (القداسة)، فتحولت إلى ناموس كاثوليكي محفوظ لليوم.





القديس أوغستين من (ملك صغير) إلى صانع حروب

تشير مصادر متعددة اعتمدت (الرافد) عليها إلى أن (أوريليوس أغسطينوس هيبونيسيس) ذو الأصول الفينيقيه القرطاجية1، ولد في مملكة نوميديا وهي مقاطعة رومانية، وعاش في الفترة (354-430) بين مسقط رأسه (تاجاست) سوق أهراس2، حتى وفاته بمدينة (هيبون) عنابة3 بالجزائر، وحتى اليوم ما زالت هناك كنيسة تحمل اسمه بمدخل المدينة. ويعده المؤرخون (أعظم آباء) الكنيسة الكاثوليكيه، تماماً كما يعتبره الكاثوليك ثاني أهم شخصية أثرت في الفكر المسيحي بعد القديس بطرس. نازعته تيارات فكرية ودينية متعددة ومتناقضة، خاصة بعد تخليه عن المسيحية ديانة والدته (مونيكا)4 الأمازيغية واتبع الديانة المانوية، قبل أن يعود للمسيحية، بعد لقائه بأمبروسيوس أسقف ميلانو، الذي أحدث ثورة في أفكاره وحياته لاحقاً، فضلاً عن اطلاعه على سيرة القديس (انطونيوس) امتدت رحلة الـ(ملك الصغير) وهو دلالة اسمه، بين نوميديا قرطاح وميلانو للدراسة، وأكسبته خبرة ونضجاً كبيرين، ويستند الباحثون في تاريخ (أوغستين) لكونه شخصية مركزية في المسيحية وتاريخ الفكر الغربي على حد السواء، إلى رأي المؤرخ "توماس كاهيل"، الذي عده: "أول شخص من العصور الوسطى، وآخر شخص من العصر الكلاسيكي"، ويسجلون تأثر فكره اللاهوتي والفلسفي بالرواقية، والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة (فكر أفلوطينوس)، كذلك أحدثت عودته إلى (هيبون) تغيراً في حياته حيث أصبح واعظاً، قبل أن يعين أسقفاً  مساعداً حتى وفاته في الخامسة والسبعين من عمره، لتشكل هذه المحطات أهم أسس منهج لخصه في مؤلفاته: (الاعترافات) و(مدينة الله). 

 فكرة "الحرب العادلة" لأوغستين

يستخلص من بعض القراءات بأن القديس (أوغستين) بعد نحو ستة قرون من وفاته، ما زال يشكل رافداً للكنيسة الكاثوليكية، وتتخذ من فكره منهاجاً، فأوروبا الغربية التي ترزح تحت وطأة الهموم والجوع تبحث عن منافذ جديدة لتسوق (البشر) نحوها خوفاً من حرب أهلية وشيكة، فنبش أساقفتها التاريخ القديم عن مبرر شرعي وديني لخوض حملة نحو الشرق العربي الإسلامي، الذي شكل بالنسبة لهم الخلاص من أوضاعهم المتردية، فاهتدوا إلى فكرة (الحرب العادلة)، التي وردت في كتابه (مدينة الله)، والتي تناقض الأفكار السلمية التي أكدها الكتاب المقدس التي ظلت الكنيسة الشرقية تعترف بها؛ ليكون بذلك أوغستين قد قدم لهم دليلاً على حربهم المقبولة والمباركة من وجهة نظر التعاليم المسيحية.
هذه الفكرة لم يكن قائدهم (أوغستين) ليغفل عن تحديد أطرها، حيث سبق وأن قدم تعريفاً واضحاً للحالة التي تصبح الحرب فيها (عادلة) لخصها في شروط ثلاثة، بسطها لاحقاً علماء اللاهوت الأوروبي، منها: وجود سبب عادل، وهو في هذه الحال عدواناً، أو عملاً ضاراً أتاه الآخرون، وأن يرتكز قرار الحرب على سلطة شرعية (سلطة علمانية)، وفي هذه الحالة تكون الكنيسة قد انتزعت لنفسها حق إعلان الحرب المقدسة، والشرط الثالث هو سلامة قصد المشارك في الحرب، بحيث تكون الحرب الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق هدف عادل، مشيراً إلى استبعاد السلام من بين الأسباب العادلة للحرب، باعتبار كل طرف يشن الحرب لسلام يتوافق مع مصالحه، وهو ما وافق هوى الكنيسة.

أوروبا الغربية: تغير بوصلة التاريخ من حرب أهلية إلى حملة صليبية

عرفت أوروبا الغربية زيادة على الجوع، ونقص الأموال والثمرات حالة من التنازع الداخلي بين مختلف القوى على السلطة وعلى مصادر الثروة، وهي مؤشرات لحرب أهلية وشيكة، ساعد الجو العام الذي اتسم به عصر الظلام على انتشار الخرافة والأساطير، وبروز أفكار تنبؤ بنهاية العالم بعد الألف الأولى من معاناة المسيح على الصليب، كما رافق ذلك حدوث ظواهر فلكية وطبيعية في مناطق متفرقة، أكدت للناس صدق نبوءة نهاية العالم، منها ثورة بركان (فيزوف) في إيطاليا التي اعتبرت نذير قرب القيامة، ومجاعة رهيبة استمرت لخمس سنوات.

هذا الوضع جعل التأويلات الغيبية الأكثر طغياناً على الحياة، وصدق الناس ذلك وفسروه بربطه بعلامة قرب نهاية العالم، في وقت كانوا يتوقون للخلاص من ذنوبهم وخطاياهم، وأن يرفع سخط الطبيعة عنهم، ووجدوا في الحج لبيت المقدس مبتغاهم، فالجذب العاطفي نحو الأرض التي شهدت قصة المسيح يشد الناس بشكل متصاعد، حسب الباحث قاسم، وهم يريدون في كل ذلك أن: «يقتفوا آثار خطوات المسيح وحوارييه"، يقول القديس باولينوس عن سبب الحج إلى فلسطين هو: «الرغبة في رؤية الأماكن التي تجسد فيها المسيح ولمسها".

استغل البابا (أربان الثاني) ذلك، وأسبغ عليه لمسة دينية، جعل خطبه ممزوجة بالحديث عن الوعيد والجزاء، في وقت كان يدبر مع جموع الأساقفة لفكرة غزو الشرق العربي الإسلامي، فكان لزاماً عليه أن يبرر هذه الخطوة ويقنع الناس، بل ويجعلهم يسابقون لتنفيذها، وحتى يعطي سبباً عادلاً للدفع بالناس لقبول فكرته في المقام الأول، ثم دفعهم للمشاركة فيها بالأنفس والمال ثانياً، فقد تحدث عن مفردات تحمل معان: القداسة، الصليب، الحاج، الحج، الحملة الصليبية، الحملة المقدسة، وعن الغفران، المكافأة، وهو ما تحدث عنه (أوغستين) من قبل، واستغله البابا بحديثه عن منح المشاركين في الحملة المقدسة الغفران الصليبي، الذي تطور إلى صكوك الغفران، في ذلك يقول البابا في خطبته: «إنني أخاطب الحاضرين وأعلن لأولئك الغائبين، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل الذاهبين إلى هناك إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية، سواء في مسيرتهم على الأرض أو أثناء عبورهم البحر أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب".

يرى باحثون أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية كانت "دافعاً أساسياً ذكى طموح الفقراء ممن وجدوا ضالتهم في عبارات البابا، والتي وصلتهم محملة بكثير من المبالغة بسبب وسائل الاتصال التي اعتمدت على النقل الشفاهي آنذاك، وطغت عليها نغمة أخروية، فقد ربطوا أحوالهم المتردية باعتقادهم بقرب نهاية العالم التي ستنقلهم إلى أورشليم السماء، ولم يكن في وسعهم أن يفـرقـوا بين أورشليم الحقيقة في فلسطين وأورشليم التي تخيلوها في السماء في أبهى الصور وأحلاها"؛ ولأنهم عاشوا في إحباط وبؤس، رأوا في الدعوة الصليبية فرصة هائلة اختلط فيها الطمع الدنيوي بالرغبة في الخلاص، فكيف لا يلتفون حول الحملة وقادتها وهم موقنون أن: "السيف الذي يحمله الصليبي مبارك من الكنيسة، باعتباره جندياً في جيش المسيح".

أربان الثاني من حديقة كليرمون: اقتفوا أثر المسيح والحواريين

تحدث المؤلف قاسم عبده قاسم، في كتابه (ماهية الحروب الصليبية) عن التحضيرات الحثيثة التي قام بها مجمع (كليرمون) الواقع بالجنوب الفرنسي، يتقدمهم في ذلك البابا (أربان الثاني) منذ اليوم الثامن عشر وحتى السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1095، لتحضير خطبة احتفالية بمناسبة انتهاء الأعمال التي ناقشها المجمع، وهذا للدعوة إلى (حملة مقدسة) تحت راية الصليب، وهذا يوحي بأن الجمع قد أجمعوا أمرهم على السير نحو الشرق العربي ولا شيء سيثبط عزيمتهم، فتحولت لاحقاً هذه الدعوة إلى أكبر حركة في تاريخ الغرب الأوروبي في العصور الوسطى، وكان هدفها فلسطين وتحديداً القدس.

وصف البابا للجماهير التي عجت بها الحديقة المخصصة للاجتماع بكليرمون، الحملة المسلحة المقدسة، بأنها تتم "باسم الرب بوصفه نائباً عنه في الأرض"، وبقوله: "... ومن ثم فإنني لست أنا، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح.."، وهذه دعوة صريحة لأن يقتفي المسيح الكاثوليك أثر المسيح والحواريين، باعتبارهم أحق من غيرهم به، كما برر مخططه بناء على أهداف الحرب بتحرير الكنيسة الشرقية من ربقة المسلمين، وتخليص الأرض المقدسة من سيطرتهم، وهي الأرض التي وصفها الكتاب المقدس للمسحيين بأنها: "الأرض التي ستفيض باللبن­ والعسل"، وهي "ميراث المسيح".

تمادى البابا (أربان الثاني) في تقديم المغريات لسكان أوروبا الغربية، وهو ما جعل خطبته تنتقل بسرعة رهيبة بين أنحاء القارة، وزادها اتقاداً هذه المرة بحديثه عن منح (الغفران) للمشاركين في الحملة، وهذا ما جعل الحملة حسب الباحث قاسم تلقى استجابة واسعة من الجماهير قبل القادة، وأكثر من ذلك أنهم سبقوهم إلى بيت المقدس بأشهر، ذلك أن البابا طرح أمام أبناء الغرب الكاثوليكي مشروعاً طال انتظارهم إياه، فقد كانت الدعوة إلى القيام بالحملة الصليبية "تناسب العصر تماماً"، فتحولت صيحة البابا إلى استعارة جماعية: (الرب يريدها) وهذا يتوافق مع تعبير الحرب العادلة، التي قامت لنجدة الكنيسة، ومحاربة المسلمين الذين يهددون القسطنطينية.
توافقت بذلك توجهات البابا مع ما ورد في مقولة القديس (أوغستين) وهي الفكرة التي استثمرها البابا في الحرب ضد المسلمين، حيث إن فكرة الحرب المقدسة كانت تجسد ضرورة استخدام القوة لحماية شعب المسيح من الأعداء، باعتبار هذا سبباً (عادلا) في الحرب، وهو ما جعل الحملة الصليبية الأولى تتميز بحمل إشارة الصليب، وهو دليل قدسيتها، كما دعم سببه العادل بمساعي الكاثوليك لمساعدة البيزنطيين ضد المسلمين في الشرق، وبذلك تكون الحرب تمت على أساس مبرر ديني ثم عسكري، حيث إن هذا المبرر الجديد (العسكري) له ما يبرره أيضاً في التطورات التي شهدتها الحروب الصليبية على مراحل، حيث أسفرت عن إقامة مملكة ببيت المقدس وعدة إمارات تابعة للصليبيين بالمنطقة العربية، ما جعل الأرض التي شهدت قصة المسيح وصارت بأيدي المسيحيين بحاجة إلى قوات عسكرية للدفاع عنها.

هكذا كان شرط (السبب العادل) للدفاع عن بقايا الوجود الصليبي في فلسطين، سبباً مباشراً لإعلان الحملة (المقدسة) تماماً كما وضعه أوغستين، كما أن البابوية توسعت في استخدام هذا «السبب العادل» لتبرير حملاتها ضد كل أعدائها في أوروبا نفسها، وفي الخارج ما أدى إلى ردود فعل سلبية كثيرة، كما لم تغفل الكنيسة عن عنصر غاية في الأهمية حاولت استغلاله لصالحها، وهو تزايد الحجاج إلى بيت المقدس، حيث قال الأستاذ قاسم: "لم تكن فكرة الحملة الصليبية لتطرأ على بال أحد، لو لم تكن رحلات الحج الكاثوليكية قد استمرت منذ فترة باكـرة وحتى أواخر القرن الحادي عشر، فكان لا بد من أن يؤدي بالضرورة إلى فكرة أن الأرض التي شهدت قصة المسيح وفيها ضريحه أن تكون تحت سيطرة أتباعه، رافضة بقاءها لدى المسلمين الكفار"، مما أدى إلى بروز أهمية القيام بحملة حج مسلحة لتحقيق الهدف، وتبلور ذلك في الفكرة الحاسمة (عسكرة الحج) مع إضفاء طابع القداسة عليها، واعتبر الصليبي حاجاً من طراز خاص يتمتع بامتياز حمل السلاح، فأوهمت الناس بجعل أمر التوجه إلى القدس أمراً إلهياً.

التصديق القانوني على نظرية (الحرب العادلة): انتصار لفكرة أوغستين ومخطط أربان

استندت الكنيسة في تبرير عدالة الحرب إلى (التصريح الرسمي) للقديس أوغستين، الذي قال إن: "الفرد (المسيحي) يحق له الخدمة في الجيش، وخدمة الله أيضاً"، وهو ما يشكل رابطاً مقدساً بين الشقين في سبيل خدمة المسيحية، بما يعني عنده دائماً أن: "الشخص يجوز له أن يكون مسيحياً وجندياً رومانياً في آن واحد، وأن يقتل نيابة عن سلطات الدولة"، كما اعتبر الباحثون أوغستين يمتلك من الدهاء الكثير وتأكد بمقولته: "يجب أن يكون السلام غايتك؛ ويجب أَلا تُشن الحرب إلا كضرورة، ولا تُشن إلا ليُحرِّر بها الله الناس من هذه الضرورة ويحفظهم في سلام؛ لأننا لا نسعى إلى سلام من أجل إشعال الحرب، ولكن شنّ حرب من أجل إمكانية التوصل إلى سلام، لذلك يجب أن تثمنوا روح صانعي السلام حتى في شنِ الحروب، ولكي تعيدوا الذين تهاجموهم إلى فوائد السلام بواسطة قهرهم حربياً".

ظهر أثر تعاليم أوغستين لتبرير انخراط المسيحيين في الحروب الصليبية (المقدسة) عبر فكرته (الحرب العادلة)، وقدم الأساقفة ما يكفي لجعلها (عادلة) حقاً بالسعي لتحرير القدس، فأثر ذلك على الحياة السياسية والدينية للناس بتعدد ألوانها، ليس في ذلك الوقت فحسب، بل ولقرون متلاحقة، يقول الباحث: على مدار "خمسة عشر جيلاً من أبناء الغرب الأوروبي، كانت الحروب الصليبية تشكل جزءاً حياً وحيوياً من عالمهم، إذ إن مئات الألوف منهم قد شاركوا بأنفسهم في حملة أو أكثر، كما أن آلافاً عديدة من أبناء الغرب الأوروبي ساهموا بأموالهم في تمويل حملة أو أكثر، ومن ناحية أخرى كانت أحداث الحروب الصليبية تشغل بال الكثيرين ممن لم يشاركوا بالنفس أو بالمال".
كما أن شعارات الحملة البراقة، وما نسجته من أساطير، وألف حولها من أغان، جعلها تعيش بمعان متداخلة ومندمجة، فهي رمزية للشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى، يقول باحثون، بأن: "الأغنيات، والحكايات تخلت عن الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي، والتفسير الشعبي لتلك الظاهرة، التي كانت تمثل في حينها حلماً من أحلام الفقراء"، واستقرت في الوجدان الشعبي الأوروبي حقيقة واحدة بأن: «الحملة الصليبية، لا بد من أن تكون بالضرورة حملة خَيرة، نبيلة القصد والهدف، منزهة الغرض"، وهذا ما جاء على لسان (أوغستين) نفسه.

من ناحية أخرى يظهر أثره أكثر وضوحاً بكونه أدرج سياسة الحرب العادلة الخاصة بالإمبراطورية الرومانية في اللاهوت المسيحي، وابتدع مفهوماً مسيحياً عن الحرب العادلة، رغم أنه وضع بعض التحديدات التي تجيز الحرب، إلا أنه فتح الباب أمام بعض المسيحيين للاشتراك في بعض أنواع الحروب، وقد نما هذا الانفتاح بشكل أوسع أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبحلول القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أصبحت نظرية الحرب العادلة مصدق عليها قانونياً من خلال كتابات (جراتيا)، وقوة لاهوت الراهب القسيس والفيلسوف واللاهوتي الإيطالي (توما الأكويني) في القرن الثالث عشر، وفي المنشور البابوي العام لسنة 1899، فجعل البابا ليون الثالث عشر فلسفة توما الأكويني الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية التي تتبناها الكثير من الكنائس حالياً، حيث نسّق توما الأكويني تعاليم أوغسطين و"التوصية الإلهية" للبابا أوربانوس، التي أشعلت الحروب الصليبية، لتعلن بذلك انتصار فكرة سانت أوغستين، ونجاح مخطط البابا (أربان الثاني).

ثلاثة قرون من الدماء والدمار

كشفت الحروب الصليبية عن هشاشة بيت الخلافة العربية، ورغم محاولات (الأيوبي) للحفاظ على مكسب استعادة بيت المقدس، وديمومة بركة (العباسيين) لكن الأطماع والوهن المتوارث في جعل شوكة العرب تنكسر مرة أخرى، فضلا عن التشريد الإنساني، والتشتت الفكري، واختلاط أجناس من مشارب مختلفة بالبيئة العربية، تظل لليوم تعيش في صمت وتحيك ما تشاء من مخططات، خاصة بعد أن عرفوا خبايا العرب ولغتهم، فثلاثة قرون من الدماء والدمار كانت كافية لتفعل كل شيء، لتمحي مدنا، وتسحق أرواحا، لكنها لم تستطع مطلقاً "رأب الصدع بين أبناء البيت الواحد"!
الغريب في كل ذلك، هو أن العالم العربي الإسلامي لا يكاد ينجو من حرب، ويستفيق من ضرباتها الموجعة والمفزعة، حتى يقع في براثن استعمار غربي، وتارة (حماية) مكبلة من خلافة تزعم ارتباطها به بصلة رحم، وتارات أخرى (وصاية)، وربما مستقبلا (حجر) على من فقد الأهلية السياسية في إدارة شؤون بيته، وفي التاريخ دليل على ذلك فأطماع أوروبا التوسعية الاستيطانية التي بدأت مع عصور الظلام، كانت سبباً مباشراً في ظهور استعمار العصر الحديث، وكانت "تجربة" سابقة وممهدة للاستعمار، حتى ولو اتشحت برداء (قداسة) المسيح، وحملت الصليب لنصرة القدس، فهي تظل مع كل ذلك حلقة ضمن صراع أزلي بين الغرب والشرق.

خلاصة القول، أن نافخ الروح في فكرة أوغستين الموحية بعدالة الحروب الصليبية، قد أقنع أتباعه وأوروبا لعدة قرون وحتى اليوم بأن محاربة المسلمين والخارجين عن الكنيسة الكاثوليكية يحق استخدام العنف والقهر ضدهم، وهو أمر يتوافق وتعاليم المسحية التي وضعت (الشرط) القائل بأن تكون الحرب ضرورة ولا منجى منها، وبوجود أعداء يشكلون خطراً على المسيحية، ما يفترض حرباً (استبقاية) سماها أوغستين (دفاعية) حجتهم في ذلك استيلاء العرب المسلمين على الأراضي المقدسة، التي تعود ملكيتها للمسيح والرومان وهي ميراث الكاثوليك؛ ولأن الباب (أربان الثاني) ذكيّ جداً فقد وعد المسيحيين بنيل الغفران، بالبحث عن سبيل للتطهير من الخطايا بالمشاركة في الحرب قبل أن يسدل الستار على نهاية العالم، وعودة المسيح.


هوامش
1. قرطاجة مدينة العلم التي بناها وشيدها الرومان في أفريقيا.
2. سوق أهراس: وهي مدينة جزائرية شرقية تقع قرب هيبون، واشتهرت بتسميتها التي تحيل إلى توفرها على (الأسود)، كما أن أوغستين وتاكفاريناس القائد العسكري أكسباها شهرة في التاريخ القديم.
3. عنابة: تقع ولاية عنابة شرق الجزائر، وتتوفر على كنيسة تحمل اسم القديس (أوغستين)، التي تعد أبرز معلم معماري لهيبون (عنابة القديمة)، وهي ذاكرة القديس الذي كان أسقفاً لها، وتمثل من منظور الراهن أحد رموز الحوار الإسلامي- المسيحي.
4. لُقب أوغستين بابن الدموع، نسبة لدموع والدته التي ذرفتها طيلة عشرين سنة حتى يرجع للمسيحية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها