رُؤى.. فـي المسرح التجريبـي

مسرح هيثم يحيى الخواجة نموذجاً

عبد الحكيم مرزوق


كتاب رؤى في المسرح التجريبي للدكتور غازي مختار طليمات -رحمه الله- يهدف فيما يهدف إلى الحديث عن التجريب في المسرح العربي، مختاراً مسرح د. هيثم يحيى الخواجة نموذجاً، ولعل اختياره للخواجة له مسوغاته، أذكر من هذه المسوغات قربه من تجربة الخواجة المسرحية من جهة؛ ولأن المسرحي هيثم يحيى الخواجة اعتمد التجريب أسلوباً في الإبداع المسرحي1. يقول القاص والناقد محمد محيي الدين مينو في مقدمة الكتاب:
"ولعلّ التجريب في المسرح أظهر من الشعر والرواية؛ لأنه تجريب جماعي، فكان ما اصطلح عليه بالمسرح التجريبي الذي رفض الأفكار الجاهزة، وانفتح على كل التجارب، وهدم أركان المسرح التقليدي، ومن روّاد المسرح التجريبي في عالمنا العربي سعد الله ونوس وفواز الساجر، والطيب الصديقي ومحفوظ عبد الرحمن، وربما كان د. هيثم يحيى الخواجة واحداً من أولئك المسرحيين المخضرمين"2.

لقد عمل الدكتور غازي مختار طليمات على قراءة بعض مسرحيات الخواجة في هذا الكتاب متتبعاً مظاهر التجريب، فوجد في ست مسرحيات من مسرحياته تجارِب مهمة ولافتة. والدكتور غازي طليمات من الذين كتبوا المسرح الشعري في الستينيات، وبقي يبدع في هذا الفن حتى انتقاله إلى رحمة الله تعالى في هذا العام.

"ولما كان هذا الكتاب يكشف عن ظاهرة التجريب في تجربة من التجارب المسرحية العربية، فلا شك في أنه أيضاً يضع هذه الظاهرة في جانبها التطبيقي، وهو ما يكاد يفتقر إليه نقدنا العربي الحديث، ولا سيما في جانبه المسرحي، الذي يحتاج إلى مزيد من التنظير والتطبيق معاً، حتى لا نبقى عالة على النقد العربي ونظرياته"3.

ويرى الدكتور طليمات أن مسرحية (شهيق الحلم) لهيثم يحيى الخواجة، فيها إيثار التلميح على التوضيح والإثارة على التصريح، فقحطان وعدنان وجهان لعملة واحدة، ولكل واحد أفكاره بسبب منغصات الحياة وما يجري فيها.

"عدنان وقحطان في منزل يقتحمه شرطي فضولي يسأل عن قحطان ليصبحه إلى مركز الشرطة، فيدعي كلا الرجلين أنه قحطان، كما ادعى ابن المقفع أنه عبد الحميد الكاتب حينما جاء جند العباسيين لاعتقال عبد الحميد، ليفتدي صديقه، لكن قحطان يرفض تضحية صديقه، ويمضي مع الشرطي فإذا التهمة طول اللسان، وإذا العقاب السجن الانفرادي"4.

فالمسرحية تعتمد التلميح أساساً في طرح الأفكار، فينفتح بذلك المجال لكي يتفاعل المتلقي مع العرض ويطرح أسئلته، وكأن المؤلف بذلك يشرك المتلقي في مناقشة الفكرة المطروحة، ويجسر العلاقة بين ما يدور على الخشبة، وبين المتلقي الذي قد يقبل أو يرفض، أو يظل بين بين.

وباعتبار أن مسرحية شهيق الحلم لم تعتمد الأسلوب التقليدي في التأليف، وراحت المسرحية توغل في آفاق التفكير بلا ضوابط تقليدية، سعياً إلى المزيد من محاور الصراع، الذي هو عماد العمل المسرحي.

"ومسرحية شهيق الحلم زاخرة بالأضداد المتصارعة، التي تبث في أعطافها حيوية مثيرة"5.

هناك ثنائيات ضدية متناقضة بين الأثرة والإيثار، وبين النفعية والمثالية، وبين القديم والحديث، وبين التقدم والتخلف، وبين التكلس والانطلاق، وبين التقوقع والمعاصرة، وبين الوفاء والغدر... إنها صوة تعكس ما يحدث على أديم الأرض:
"ولما كانت مرحلة المخاض في الوطن العربي مستمرة؛ فإن المؤلف اكتفى بعرض أوجه الصراع وأبعاده الاجتماعية والسياسية والفكرية، ولم يختم عرض التناقضات بحل يمثل رأي المثقفين ولم يغلب نقيضاً على نقيض، ولو أنه فعل لما نجا من المثار ولما برئ من نقد أحد الطرفين لسبب واضح، وهو أن التناقض لن يتوقف عند حل، فلو انتصر جديد على قديم لنجم عن الجديد المنتصر تناقض آخر، لا يُدرى ما طرفاه"6.

ويشير الدكتور غازي مختار طليمات إلى قلة الشخوص في النص، وإلى الفصحى الميسرة التي تجانب الغريب، وتحلق أحياناً في سماء البيان ويستعين بالشعر للإغناء والتشويق:
يا أهـل الـعصـر وجـند الـعصـر
خــطـوات الــكــون تــؤرقـــني
وقـصـيــد مـن عــقــد كـالـجـمـر
ونــيـازك قـــادمــة تــبــلى
أحــزمــة مــن كـــون
وحــجــار مــن فــحــم
ألــويــة مــن نــار
ودمـــــاء من خمر

وفي مقاربته لمسرحية الشبكة يرى د. غازي أن هذه المسرحية دراما اجتماعية، تشرح الواقع الاجتماعي وترفض المتكلس منه، والجميل في هذه المسرحية أن المسرحي الخواجة أضاء على جانب من جوانب الصراع والخلاف، وجسد المرض الاجتماعي المزمن رافضاً مبدأ عبد الحي الذي غالى في سيطرته وأوامره، وفي دور السيد الذي هد كيان الأسرة وأساء إليها السيد، الذي يأمر فيطاع فزوجته صديقه ليست أكثر من ثوب خلق، وابنته عائشة دمية عليها أن تطيع الأوامر فقط.

"والدكتور خواجة سلك في معالجة هذا الموضوع مسلكاً طريفاً؛ إذ ناقل بين الخيال والواقع، وسخر للمسرحية ما أمده به النص الحديث من آلات الاتصال التي تستطيع أن تطوي الأمكنة المتباعدة، وتختصر الأزمنة المتطاولة"7.

والجميل في المسرحية إضافة إلى الأحداث المشوقة والصراع المتنامي، استخدام دلالات الشبكة المعنوي والاصطلاحي والرمزي، والاعتماد على التراث، فصالحة وخميس يحبان بعضهما عبر الشبكة، وتتحول صالحة إلى شهرزاده الأثيرة عبر حوار جميل شفاف.

"ولما كان الأب عبد الحي جاهلاً؛ فإن جهله زاده تعنتاً وتزمتاً، فلم يصغ إلى آراء زوجته المثقفة التي وسع العلم صدرها وأنطقها بالدفاع عن ابنتها، بل أصغى إلى احتجاج المجتمع، وكاد يصدع بما أمره به من تأديب ابنته بالقوة؛ ولأن العصا لمن عصى"8.

وباعتبار أن المسرحية تجريبية، ولا تنتمي إلى المدارس المسرحية المألوفة كالاتباعية أو الإبداعية؛ فإن قراءة المسرحية فقط لا تقدم الأبعاد التي هدف إليها الخواجة، ولا حل إلا بتجسيدها على الخشبة وتخليصها من سجن الورق.

"فالحكم عليها أو لها كالحكم على الجواد الحبيس قبل أن يطلق في المضمار بين الجياد والمهار، فيعرف بعد الجري لا قبله أهو السابق المجلي أم المسبوق السكيت؟"9.

لقد دمج المؤلف بين القديم والحديث، ووظف المخترعات الحديثة بأسلوب جميل تماهى مع الحدث، وإضافة إلى تحطيم وحدة الزمان من أجل الإيغال في أعماق التاريخ ليبعث الماضي حياً في الحاضر فربط بين حكاية العفريت والقمقم، كما وظف شخصية المجذوب، وقبس من ألف ليلة وليلة، وأسبغ جواً سحرياً على النص، فأقام التوازن المطلوب بين النقيضين المتصارعين.

"والنقد المسرحي -على إعجابه بهذه الوسائل الفنية قديمها وحديثها - يؤثر الاتكاء عليها بقدر، ويخشى من طغيانها على الجوهر. فالمسرح كلمة لا آلة، وفكرة لا صورة، وجوهره الحوار لا الشعوذة وأدواته العبارات المعقولة لا المفاجآت المدهشة، والهدف الأسمى الذي ندب نفسه لتحقيقه هو الغوص في نفس الإنسان لسير أغوارها وتحليل مشاعرها وأفكارها، لا التمتع بالأزياء والأضواء"10.

إن القارئ لكتاب الدكتور غازي مختار طليمات يلحظ حجم الجهد المقدم؛ لكي يقف على تفاصيل النص المسرحي ودلالاته ومرموزاته، ويتوصل إلى المغزى والهدف الأعلى فيه. وبناء على ذلك نراه يؤكد أن نص مسرحية الشبكة ليس نصاً عابراً؛ وإنما هو نص تجريبي باقتدار، ينخرط في الواقع الاجتماعي ويفتق ما فيه من سلبيات.

"وإذا كانت السينما تنزع إلى الإدهاش فالمسرح يزهد فيه، وينزع إلى المحاكاة، محاكاة الواقع، ومحاكاة المألوف والتزام الصدق، وانتباذ الغلو... إنه يحرص أشد الحرص على رصد الدوافع والنوازع، وعلى تفرجها وتحولها إلى سلوك وأحداث في نطاق المنطق، وضمن ما تواضع عليه البشر أمس واليوم"11.

إن مثل هذه المسرحيات التي تحمل هذه المضامين الإيجابية بأسلوب فني، لا بد وأن تلقى الاهتمام اللازم، ومن هذا المنطلق فإن المسرحي الدكتور غازي مختار طليمات تنبه إلى ذلك وأدرك قيمة هذه المسرحيات، فمسرحية الشبكة عرضت في أيام الشارقة المسرحية، ونالت جوائز عدة، كما استحوذت على تقدير الجمهور، ويمكن أن أختم ببعض ما جاء في كتاب طليمات القيم والهام بالقول:
"من أخص الخصائص في مسرح الدكتور هيثم يحيى الخواجة مواكبة العصر الحديث، وهذه الظاهرة البارزة لا تصنع من المواكبة بالسير مع الساقة المتساقة في آخر الركب، ولا تقف من قضاياه موقف المترصد المتصيد، ولا تكتفي بمراقبة سير الحياة فيه بغية إصلاح فاسد أو إقالة عاثر، أو إكمال نقص، وذلك على النحو الذي يطالعنا في المسرح الاجتماعي أو الإنساني عامة؛ وإنما تسير بمسرحه في الطليعة الرائدة، فإذا هو يسبق الواقع إلى المتوقع والحاضر إلى المستقبل، ثم يعالج من مشكلاته ما يوشك أن ينعقد"12.

لا بد أن يواكب النقد الفنون لكي تتطور وتتقدم، ولا ريب في أن المسرحي والشاعر الدكتور غازي مختار طليمات طيب الله ثراه أدرك ذلك بوعيه، فكتب مثل هذا الكتاب الذي أضاء على مسرح الدكتور هيثم يحيى الخواجة من جهة، وأغنى مكتبة المسرحي من جهة أخرى.



الهوامش: 1. رؤى في المسرح التجريبي، مسرح هيثم يحيى الخواجة نموذجاً، دار السيق، الإمارات الشارقة، 2018م. / 2. السابق نفسه، ص: 4. / 3. السابق نفسه، ص: 5. / 4. السابق نفسه، ص: 12. / 5. السابق نفسه، ص: 16. / 6. السابق نفسه، ص: 17. / 7. السابق نفسه، ص: 26. / 8. السابق نفسه، ص: 29. / 9. السابق نفسه، ص: 31. / 10. السابق نفسه، ص: 35. / 11. السابق نفسه، ص: 36. / 12. السابق نفسه، ص: 65.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها