مهمة الرواية فضح التواريخ التي كتبها المنتصرون!

حوار مـع الراوئي المغربي عبد الكريم جويطي

حاوره: سعيد الفلاق



عبد الكريم جويطي من بين الروائيين المغاربة الذين بصموا اسمهم في سجل الرواية العربية، صدرت له ست روايات: "ليل الشمس" (1992) (الفائزة بجائزة اتّحاد كتّاب المغرب للأدباء الشباب)، "رمان المجانين" (1998)، "مدينة النحاس" (2004)، "زغاريد الموت" (1996)، "الموريلا الصفراء" (2002)، "كتيبة الخراب" (2007)، و"رواية المغاربة" (2016) الحاصلة على جائزة المغرب للكتاب، والوصول إلى القائمة الطويلة (البوكر 2017)، كما صدرت له عدّة كتب أخرى وترجمات. ونحاول في هذا الحوار تسليط الضوء أكثر على تجربته الروائية المتميزة.


 

⊙ من خلال قراءة ليل الشمس (أول عمل) والمغاربة (آخر عمل)، يظهر أن رواية "المغاربة" وتقنيات كتابتها مبثوثة في "ليل الشمس". تأمل معي هذا النص: "كان سي معتصم حائراً بين أن يضمن بعض النصوص التاريخية روايته، أو أن يترك التاريخ كخلفية ينسج فوقها نصوصاً متخيلة"، لكن العسكري بطل رواية "المغاربة" لم يعد حائراً في إدراج التاريخ من عدمه، من هنا نجد في الرواية تخييلاً تاريخياً من جهة، ونصوصاً تاريخية مقتطفة بشكل مباشر من جهة ثانية. إلى أي حد هذه الفكرة في تصوركم صائبة؟ ولماذا الاشتغال على التاريخ بالضبط؟

يكتب الكاتب نصاً واحداً في حياته بصيغ متعددة. هناك حدود للخيال واللغة في حياة كل واحد منا.. ولا يمكننا أن ننسلخ من جلدنا ولا من جلد الأدب الذي ننتمي له عن طريق القراءة والامتصاص والتحويل... لا شك أن المغاربة توجد كبذرة أو احتمال في رواية ليل الشمس، وخصوصاً في استكناه البعد التاريخي للمكان. أنا ابن بلاد تادلا التي عاشت تاريخها بإفراط في القساوة والألم. تادلا المعنفة والمخربة فيما لا يحصى من وقائع في التاريخ. تادلا التي نظر لها دوماً كضرع. تادلا الحروب والمجاعات والتهجير القسري. تادلا الحليب والدماء. تادلا غمرة القمح التي تطاردها النار. لا يمكن فهم الأقدار التراجيدية للمكان دون النزول لقعر التاريخ، وتلمس ما مضى فيما يجري. لم أهتم بالبعد التاريخي تأثراً بتقليعة جارية، بل لأن المكان في تادلا ينضح بالتاريخ في كل خربة وغناء ملتاع وحكاية وشكاوى.


⊙ إذا تأملنا ما كتب من روايات في السنوات الأخيرة نرى طغيان حضور التاريخ، كيف تنظر لهذه الموجة؟ وما مبررات العودة للتاريخ؟ وألا ترون أن هناك من يكتب أحداثاً تاريخية بعيداً عن التخييل الذي يفرضه جنس الرواية، فتتحول رواياتهم إلى كتب تاريخية جافة؟ ثم متى يصير التاريخ تخييلاً، أي ما الحدود الفاصلة بين التاريخ والتخييل؟

هناك حضور طاغ للتاريخ في الرواية العالمية. أقول لك فقط بأن كل روائع أمريكا اللاتينية مخترقة بالتاريخ: مائة سنة من العزلة. تيرا نوسترا. أحاديث الكاتدرائية. حرب نهاية العالم. السيد الرئيس. أبطال وقبور. أنا الأعلى... في مفترق الطرق وفي أزمات الانتقال يرتد الناس بأنظارهم للتاريخ. المستقبل مبهم وغامض لكن الماضي مليء بالعبر والدروس. البشرية عموماً -ولعوامل أنتروبولوجية- بحثت عن أجوبة في الماضي لأسئلة تؤرقها. هذا ميل عام ارتبط بالرواية منذ نشأتها، وحتى حين لا ينزل الكاتب للتاريخ العام فإنه يفعل ذلك مع تاريخه الشخصي، وطفولته وحنينه لما عاشه. علينا أن لا ننسى بأن الأدب العالمي ولد مع الحنين النوستوس باليونانية، وكل النصوص الأولى فيها فجيعة قفا نبك.. إن نزول الروائي للتاريخ ليس كنزول المؤرخ. كلاهما محكوم بالحاضر وبرغبة بناء الماضي في الحاضر. لكن الروائي غير؛ لأن الروائي يمتلك حرية لا يمتلكها المؤرخ المحكوم بالوثيقة والمنهج وبضرورة الاستدلال، بإمكان الروائي أن يعبث بالتاريخ ويسخر من الوثيقة التي كتبها في الغالب المنتصر، بإمكانه أن يلغم ما يقدم على أنه حقيقة دامغة، بوسعه أن يفضح الأساطير والإجماعات المصطنعة. كل شيء تطاله الرواية يصير نسبياً وهشاً، وبالتالي إنسانياً.
 

⊙ تحتفون بالمكان، وللبادية في نصوصكم حلاوة خاصة، ألا ترون أن البادية مهمشة روائياً، وأننا لا نتوفر على نصوص قوية تقترب من العالم القروي لتقدمه إلى العالم؟ أو بتعبير آخر ليس لنا رواية بدوية حقيقية؟

الجنس الروائي جنس مديني، ولد في تشابك وتعقيد الحياة في المدينة، ويقوم الرومانيسك على نسيج وفرته المدينة: عزلة الفرد وانهيار الحقائق والقناعات، وضياعه في غابة من الأسئلة والغياب الفادح للأجوبة منذ أن صمت الإله، وضاع ذلك الانسجام بين الإنسان والعالم. سيطرت القيمة التبادلية ولم تعد لأي شيء، بما في ذلك الأفكار والعواطف النبيلة، القدرة على الوقوف في وجه منطق السوق وجرافة الربح.. ولدت الرواية في عالم المدينة الصلف والقاسي الذي يسحق الفرد بلا رحمة. لكل هذا أرى بأنه لا وجود لرواية البادية.. هناك نصوص حول البادية لكنها تكتب من منظور المدينة وهواجسها. تأمل كل روايات البادية ستجد بأنها تلاحق بالأساس احتضار البادية، وولادة جمرة المدينة الخبيثة.. لا تتناول الرواية البادية وهي بادية بقيمها وعلاقاتها وتصورها للحياة وللزمن، وتتناولها فقط حين تبدأ في فقدان هويتها كبادية، وفي ميلاد المدينة كأفق بداخلها.. يصح هذا على الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، ومدن الملح لمنيف، وروايات خيري شلبي، وعبد الحكيم قاسم... لهذا يصعب بناء مشروع روائي حول البادية.. أعظم كتابها كتبوا رواية واحدة جيدة استنفذوا فيها كل ما يمكن قوله ولم يبق في وجههم إلا التكرار. ثم أين هي البادية اليوم! لم يعد في كل سهول المغرب تجمع سكاني يصح أن نسميه بادية.

لقد انتهت البادية في السهول مع وسائل التواصل وفك العزلة ويسر التنقل، وصار لأهل البادية نمط عيش مديني يسهرون ويستيقظون متأخرين. تخلوا عن أغانيهم وشكل أفراحهم وأزيائهم، وكل ما كان يشدهم للأرض والقطيع. أسكن في البادية الآن وأحس بأنني أكثر بدوية من جيراني. إن أردت البادية الحقيقية أبحث عنها في قنن الجبال والأودية المعزولة. أختم بالقول ليست هناك ثنائية مجالية بين المدينة والبادية، بل هناك طرف ثالث تجمعات لم تعد تنتمي للبادية ولا تصل للمدينة. إنها المدن الصغرى المتعثرة والضائعة. فلا هي بقرية ولا هي بمدينة. مسخ تعميري يمكن أن تشاهد فيه كل مغربات تطور معاق. أعتقد بأن هذا الشكل من المدن أعطانا نصوصاً مهمة جداً، أذكر منها عطش الصبار ليوسف أبو رية، ووكالة عطية لخيري شلبي، وحتى مالك الحزين لإبراهيم أصلان، رغم أنها تدور في حي الكيت كات القاهري، لكن فيه كل مظاهر التطور المعاق.

عموماً، أحيلك على النص العظيم: النداهة ليوسف إدريس. فكل بادية تماثل فتحية بطلة النص التي ترى بأن المدينة جنة موعودة، والحياة الحقيقية هي حياة المدينة. بمعنى داخل كل بادية تشتغل جاذبية المدينة التي لا تقاوم... لهذا تكتب رواية البادية، وبداخلها تعتمل فكرة أن كل هذا سيموت حتماً، والمسألة مسألة وقت فقط.
 

⊙ يلاحظ إقبال القراء العرب على رواية "المغاربة". ما السّر في هذا الإقبال؟ ولماذا ظل عبد الكريم جويطي مغموراً كل هذه السنوات؟ ثم ماذا بعد "المغاربة" ألا تخافون من تكرار أنفسكم؟

لا أحد بإمكانه أن يفسر نجاح وفشل تجربة معينة. هناك سياقات اجتماعية ونفسية وثقافية يصعب تبينها إلا بوجود مسافة زمنية. شاركت رواية سيلين: سفر في آخر الليل في جائزة وطنية فرنسية، وفازت رواية لا يذكرها أحد الآن. بينما صارت رواية سيلين من روائع الأدب العالمي. لا تهم الشهرة الظرفية لنص ما هو صموده للزمن.

لن أكرر نفسي. أعرف ما علي فعله. آخذ الوقت ولدي مشروع أنجزه بروية. أحاول دوماً أن أقدم لغة وخيالاً جديدين. ولا أصارع إلا نفسي. وأكتب بنفس الروح التي كتبت بها المغاربة. لا شيء تغير فيّ، أو من حولي، رغم ما حققته لي المغاربة من مكانة في الأوساط الأدبية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها