خَوفاً من العتمة..  وفراراً إلى الأعماق

قراءة في رواية "الهروب إلى النهار"

سامر أنور الشمالي




يقدم الروائي المصري (عبد العليم حريص) في روايته الجديدة (الهروب إلى النهار) نصاً سردياً مشغولاً بأسلوب مترف يجيده الشعراء الذين يكتبون النثر، لهذا نجد بين صفحات الرواية الكثير من اللوحات السردية التي رسمها المؤلف بقلمه الذي يجيد التصوير بدقة، حتى إن القارئ يتخيل نفسه يتجول بين الأمكنة الموصوفة بتفاصيلها الصغيرة التي منحتها شحنة مؤثرة على المتلقي.


والمثير للانتباه أن هذه الرواية مليئة بالأحداث المتلاحقة، والغرائبية أحياناً، والحزينة أيضاً. وهي أحداث تصنعها شخصيات مختلفة الطباع ومتعددة الاتجاهات. ولهذا اختلفت أحلامهم وأمنياتهم وتباينت، وبذلك اختلفت قصصهم، ولكن جمعتهم فصول هذه الرواية.



بداية الحكايات كانت في قرية (معزولة) وهي معزولة بالفعل، فالجبال والصحاري تحيط بها من الجهات الثلاث، أما الجهة الشرقية التي تقود إلى العمار، فوضع فيها القرويون مقابرهم، وكأنها الفاصل الذي يكمل سور قريتهم كيلا يكون هناك أي تقارب وتمازج بين القرية المعزولة والعالم الخارجي.

وتنتشر بين ربوع القرية أشجار النخيل والسنط والسدر، وهي ترتوي من النيل الذي يجري ماؤه عبر الترع والمصارف التي يحفرها الفلاحون بمعاولهم في التربة السوداء التي تنتظر الأمطار القليلة من سماء تجود بها من وقت لآخر.

والمنازل الطينية في القرية لا تتجاوز العشرين، وتتوزع بجوار معبد قديم جنوب سوهاج. وفي القرية بئر قديمة لا يعرف أي من سكانها من حفرها، وكنيسة قديمة اقتطع جزء منها ليكون مسجداً، إضافة إلى وحدة صحية، وقصر قديم في أعلى التلة الغربية، حيث يتكاثر البوم والغربان والأفاعي والعقارب، لهذا لا يجرؤ أحد على دخوله، ولكنّ عارفاً كسر المحظور.

أتى والد (عارف) إلى تلك القرية النائية تحت اسم مستعار (عمران الطواف) فهو هارب من جريمة لم يرتكبها، فـ(البيه) أمره أن يعترف بأنه القاتل كي ينجو بفعلته.

وفي بلد المنفى بدل ديانته لعله يختفي عن عيون من قد يتعقبه. وعمل في بناء البيوت ليعيش حياة الكفاف، ورغم ذلك لم يعش الحياة المطمئنة التي ينشدها، فبعدما تزوج من (راوية) قاطعتها قبيلتها لأنها رضيت الزواج من غريب مجهول الأصل.

والزوجة (راوية) لم تنعم بالحياة السعيدة أيضاً، فبعد إجهاضات متكررة توفيت وهي تضع وحيدها الذي حمله والده بحزن إلى الزريبة ليضعه بجوار جراء الكلبة لعله يشرب من لبنها فلا يموت جوعاً. ولا يجد الأب من أقارب زوجته غير العجوز (مستورة) التي تعيش على الصدقات، وقد تعلقت بالولد وصارت تعيش لأجله، لاسيما بعد وفاة والده.

ويعيش (عارف) على حليب المواشي الذي يتبرع به أهل القرية، وزاد من غربته أنه عمل في شبابه في مهنة غريبة يأنف منها الجميع، فهو يركب حمارته، ويتجول بين القرى باحثاً عن الجيف الملقاة في الفلاة ليسلخ جلدها ويبيعه، أما ما يأخذه من لحمها فيضعه في الخرج، وقد شاع هذا الخبر وبات الأطفال يخافون من هذا الرجل الذي يقطع لحوم الحيوانات الميتة، وظن الكبار أنه يتكسب ببيع اللحم إلى جزاري المدينة القريبة، ولم يفطن أحد إلى أنه كان يطعم الذئاب حتى تألفه وتعتاد عليه، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استعبدها حتى أخذت تحضر له العسل المخبوء في الجبال الذي لا يجرؤ على الوصول إليه الشجعان، ولكنه صار يمكر بالذئاب ويصطادها ويبيع فراءها الثمين، ولحومها أيضاً. وأخذ يصيد الأفاعي أيضاً، ويخرج أمام الناس الأحجار السحرية التي وضعها فيها خلسة، وبذلك صار (عارف) يمارس الشعوذة أيضاً ليتكسب، ولكنه كان يخبئ المال دون أن يتنعم بالثروة التي يجمعها!

وإذا تأملنا هذه الشخصية من الأوجه كلها نجدها تمثل الجانب الإنساني في أطواره البدائية الموغلة في القدم، وتعيش تبعاً للدوافع الغريزية الأولى دون أن يكون لديها أي أفق للارتقاء.

***

إذا انتقلنا إلى الشخصية الثانية فسنجدها تمثل الإنسان الذي وعى ذاته، وفهم غرائزه، ولكن دون السماح لها بتملكه لأن هذه الشخصية عرفت قانون القبيلة، والتزمت بالعرف، وأدركت أنها تعيش ضمن مجتمع تتكامل فيه الأدوار، ولا مجال للنزوات العابرة.

وهذا الأنموذج مثلته العذراء الأربعينية (صفا) من قرية (مراكب) المحاطة بالجبال والرمال، وهي فتاة ليست كغيرها من النساء، فقد نجت في طفولتها من سم العقرب والوباء، كما نجا عارف من الأخطار التي حاقت به في صغره.

ولا تكف (صفا) عن إغواء الرجال دون أن تمكنهم منها، فلم تقع في الحب إلا مرة واحدة في مرحلة المراهقة، ولكن (سالما) قتلته الذئاب التي خضعت لعارف فيما بعد، لهذا رفضت خطابها، وبقيت دون زواج كباقي أخواتها اللواتي ليس لهن أخ ذكر.

والفتاة المشاكسة (صفا) ابنة (وداد الحلبية)، و(همام الحلبي) اللذان يبيعان الأقمشة، والعطور، والحلي، والزينة، لأهل القرية والقرى المجاورة، ككل الغجر.

وعند الحديث عن (صفا) لا بد من إعطاء لمحة موجزة عن عمتها التي كانت امرأة مختلفة عن نساء القرية، لهذا كانت تمثل إلى (صفا) المثل الأعلى، وكانت تحلم بأن تذهب معها لتعيش في المدينة التي تزوجت فيها، ولكن العمة لم تفعل.

العمة (سهير) أطلقت على نفسها لقب (كليوباترا الجنوب) على صفحات العالم الافتراضي، وهي تدعي أنها في حياة سابقة كانت سيدة أيرلندية ولدت في لندن، وتدعى (أمّسِيتي) وأنه عندما اصطحبها والدها إلى المتحف تذكرت حياة سابقة، فأخذت تقبل التماثيل الفرعونية وتدعي أن هؤلاء أقاربها، وأنها كانت كاهنة فرعونية مقربة من الملك (سِيتي الأول) وهي ستمنح اسم الملك لوحيدها بعد زواجها من شاب مصري انتقلت معه للعيش في مصر.

وكانت تحلم بفراعنة يزورونها في أحلامها، وأخبروها أنها فتاة مصرية تدعي (بنترشيت) أي قيثارة الفرح، ومن الذين حلمت بهم الإله (حور محب) الذي حكى لها عن ماضيها. وكانت تنهض من فراشها وعيناها مغمضتان، وتكتب كلمات هيروغليفية، ولكن لم تكن تلك مجرد خيالات عابرة، فقد رأى والد زوجها شخصاً بزي فرعوني يجلس بجوار سريرها، وهنا لم يعد ثمة حدود بين الخيال والمتخيل، والواقع والحلم، وبذلك تشابهت حياتها في بعض أطوارها الغرائبية مع حياة (عارف)!

***

أرقى الشخصيات من الناحية الإنسانية هي الشخصية الثالثة في الرواية، وهي مميزة وغير نمطية- كالشخصيتين السابقتين- ولكن في مجال مختلف تماماً.

الأستاذ (فريد) لا يعيش في الظل، بل تحت الأضواء فهو من الأدباء وينشر كتاباته في الصحف المشهورة. وهو لا يعيش في قرية نائية قد لا نعثر عليها على الخريطة، بل يقيم في إحدى أكثر الدول تطوراً وجمالاً على مستوى العالم وهي الإمارات- وإن كانت أصوله ريفية كالشخصيتين السابقتين- إضافة إلى أنه يعيش أسمى المشاعر التي تنتاب الإنسان وهي الحزن بأعمق معانيه.

يصل إلى (فريد) وهو في الشارقة خبر موت أمه في القرية، وكل أحداث الرواية تدور في قرى مصرية ثلاث. ولدى كل بطل من أبطال الرواية شخصية موازية على صعيد الحدث، وتمثل جانباً مهماً في حياته. فـ(عارف) لديه العجوز (مستورة)، و(صفا) العمة (سهير)، أما (فريد) فأمه.

وتتداعى الذكريات إلى خاطر (فريد) منذ كان صغيراً إلى زيارته الأخيرة لبيت الأم التي تعجن دقيق القمح، وتشعل الفرن، وتخرج الأرغفة الساخنة، وتطهو أطيب طعام في العالم. بل هي التي توزع الحنان على من حولها بطريقة تجعل كل من حولها يظن أنه الأقرب إليها.

وتتسع دائرة الذكريات لتشمل حياة القرية، فيحدثنا (فريد) عن الشيخ (زكريا)، الذي زار مأمور مركز شرطة القرية في المنام ليأمره برصف الطريق إلى قبره. وروى لنا تقاليد انقرض أكثرها ولم يعد يذكرها أحد، كتكسير البصل على عتبات المنازل ورشها بالماء البارد كي تصير السنة باردة!

***

يبدو للوهلة الأولى أن لا صلة بين الشخصيات الثلاث: (عارف- صفا- فريد) لكن في الفصل الأخير يربط المؤلف حكاياتهم ببعضها، فتتشابك الأحداث بطريقة متوازية، وغير مباشرة.

ففي الجبانة تجتمع الشخصيات، حيث يزور كل منهم أغلى إنسان في حياته، فالشاعر (فريد) يزور قبر أمه، و(عارف) يزور قبر والديه، و(صفا) تزور قبر (سالم) حبيبها الوحيد.

وفي ذلك الوقت يضرب الزلزال المقبرة فتهتز الأرض من تحت أقدام الشخصيات الثلاثة، وقد جمعهم الخوف دون أن يعرف أي منهم أنه يعرف من يقف بجواره، ولكن عن طريق شخص آخر.

(فريد) سمع حكاية (عارف) من أمه التي كانت تمنحه النقود، والطعام، والملابس القديمة، وتطلب منه أن يدعو لولدها المسافر لظنها أنه رجل طيب تستجاب دعواته.

أما (صفا) فحدثتها (سهير) عن صديقها على الفيسبوك (فريد)، كما روت لها حكايات (عارف) أيضاً.

و(عارف) سمع بحكاية (صفا) من جدته التي طلبت منه التقدم لخطبتها، ولكنه رفض تكرار تجربة أبيه، فهو غريب، ولن يوفق بالزواج من إحدى بنات القرية.

ويبدو أن الاجتماع في المقبرة يقارب اجتماع النوازع والأهواء في أعماق النفس البشرية، ومن هذه الزاوية نجد (عارفاً) يمثل منطقة (الهذا) حيث الغرائز بفطرتها الأولى. و(صفا) تمثل منطقة (الأنا) حيث إدراك الذات في مواجهة النزعات الأولى. و(فريد) يمثل منطقة (الأنا الأعلى) حيث المثل العليا، وذلك بحسب نظرية عالم النفس النمساوي (سيجموند فرويد) مؤسس نظرية التحليل النفسي، باعتبار أن طبيعة الإنسان تأتي من تلك المناطق الثلاث لتقرر سلوك الإنسان. وأرجح أن المؤلف من أنصار هذه النظرية التي كتب روايته تحت تأثيرها، وإن حدث الأمر عفو الخاطر، أو بطريقة غير مقصودة. وهذا أحد الأسرار المخفية في هذه الرواية التي تحاول شخصياتها التخلص من العتمة والهروب إلى النهار.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها