سِحرُ قصيدة النّثر السّعُودية!

في تجربة محمد خضر الشعرية

هشام بن الشاوي

تجاوزت قصيدة النثر العربية بداياتها، وغدت هي النص المتسق مع اللحظة الآنية في مختلف البلدان والأقاليم؛ إنها لا تخص دولةً بعينها أو تتراجع في أخرى، باعتبارها النص الشعري المفتوح والقادر على اقتراحات مختلفة، واحتواء آليات متعددة للكتابة، إضافة لقدرتها على التفاعل مع الفنون المختلفة؛ ليكون لها دورها الفاعل في كسر مؤسسية النوع الأدبي، ومواجهة الأطر الضيقة على المستويين الجمالي والمعرفي، ولا تشكل في لحظتنا الآنية خطاباً نقدياً حاداً ضد التراث -كما كانت في بواكيرها- بقدر ما تصنع عالمها وعوالمها المتوافقة مع اللحظة التاريخية، وبُنى المجتمعات الحديثة بتعقيداتها وإشكالياتها المتجددة؛ لتشكل موازاة رمزية للواقع، وتحاول التمسك بالمفاهيم الإنسانية بمعناها المتسع، وتؤكد استقلاليتها كشكل شعري له أنساقه الجمالية المتنوعة، ويقدم مستويات متعددة من المجاز الكليِّ –غالباً- بعيداً عن الطبيعة الاستعارية، التي قيدت النصوص الشعرية طويلاً.
 

ومع تتابع الأجيال وانتشار النص أفقياً ظهرت أصوات شعرية لها تمايزها في البلدان العربية كافة، وفي السعودية من أبرزهم محمد خضر الغامدي1. والذي ينتمي إلى الجيل الأكثر حداثة في السعودية، حيث يمكن لنا وضعه ضمن الجيل الثالث للحداثة السعودية، أي المرحلة التي تلي شعراء التسعينيات، ويمكن اعتبار هذا الجيل الأكثر نضجاً والأكثر تفهماً للحداثة الشعرية؛ الجيل الذي استطاع تناول الحداثة وبلورتها في إطار مختلف عن المراحل السابقة، بشكل يتلاءم مع الصيغة الحالية للحضارة، حيث يكتب محمد خضر قصيدته بأداة حديثة جداً، استطاع فيها ربط القالب "قصيدة النثر " إضافة إلى قاموس أصعب ما فيه أنه بسيط حد الغموض، استطاع ربطهما بــروح القصيدة الحديثة، متخلياً بذلك عن الفكرة النسقية المطروحة في النقد الثقافي، متجاوزاً ذلك إلى المفهوم الكوني، والنسق الإنساني2.

ربما تأخر الإعلان عن بلوغ القصيدة الجديدة بالسعودية هذا الحد من النضج، لكن النضج نفسه لم يتأخر، بل حدث في موعده. ربما تأخرت شواهد تحقق تلك القصيدة أمام السواد الأعظم من المهتمين، لأسباب إجرائية لا تتعلق بالقصيدة ذاتها، لكن الأمر المؤكد أن القصيدة ذاتها قد تحققت قبل تلك الشواهد بكثير، وعندما زالت الإجراءات المعاكسة، أطلت القصيدة على المشهد بوجهها المشرق، لافتة الأنظار إلى حقولها المتنوعة، التي تمثل أكثر من جيل، وأكثر من تيار، الأمر الذي يؤكد أنها حقول أصيلة، متجذرة، وليست وليدة اللحظة.

هي ليست بئراً واحدة في صحراء لنندهش اليوم من كونها طفرة. هو ليس حقلاً واحدًا لنصفق له الآن ونعتبره إرهاصًا؛ إنها حقول للشعر الجديد بكل ما تحمله الحقول من اتساع وخصوبة وعمق، وما تستحقه من تفقد وتذوق وتأمل.

وبقدر ما تتوزع هذه الحقول الشعرية على امتداد الخارطة المكانية للسعودية (جدة، الرياض، الدمام، جازان، أبها...)، بقدر ما تتنوع على اعتبار الخارطة الزمانية، فهناك حقول رواد ومغامري قصيدة النثر الجديدة، وهناك حقول مُرَسِّخي تلك القصيدة، الذين وصلوا بها عبر دواوينهم المتعددة وأطروحاتهم في السنوات العشرين الأخيرة إلى أن تصبح قصيدة اللحظة الراهنة، والقصيدة السائدة. وهناك كذلك تلك الحقول المعلن عن اكتشافها منذ أسابيع قليلة، وهي التي ربما تحمل المخزون الاحتياطي الاستراتيجي من طاقة الشعرية الجديدة3.

إذا تأملنا نماذج عديدة من شعرنا المعاصر، وشعر قصيدة النثر بصفة خاصة، سنجد أن الوعي الذي يتجلى من خلال هذه القصائد وعي انشطاري، يجمع الأشياء دون رابطة ظاهرية واضحة في إطار سياق دلالي واحد، ووجود هذا الوعي الانشطاري مرتبط -أساساً- بطبيعة اللحظة الحضارية التي نحياها، فنحن في لهاث دائم، لرصد العالم من وجوهه المختلفة والمتناقضة، وأي محاولة منطقية لفهم العالم الفردي والجماعي محكوم عليها بالفشل والاستحالة. ومن ثَمّ فوجود هذا الوعي يكاد يكون مبرراً استناداً للحظة حضارية خاصة.

يتجلى هذا الوعي بشكل لافت في ديوان محمد خضر الغامدي "صندوق أقل من الضياع"، خاصة في قصيدة "حديث البلكونة":
لطالما حدثتها عن البلكونة
وعن أفلام الأكشن المصرية
عن دفاتري وأقلامي وحجرة الكمبيوتر
جاك دريدا الإمام النفري
الجريدة وبيتر جونسون
الموت والدفء
والثانية بعد الظهر
والبكاء وحيداً بسبب لاشيء
عن سوق النجوم
وأسامة بن لادن
عن السفر والمسافة
والأحزان المثالية
عن خط الرقعة
وخط المطار القديم
والمقهى ونحيب الشارع

فالثنائيات المقدمة في الجزء السابق لا رابط بينها على المستوى الظاهر الواضح، ولكن جمعها في سياق واحد، بالإضافة إلى جزئيات عديدة مثل الحديث عن عبد العزيز مشري، أو ميلان كونديرا، أو العولمة أو الكونيالية، يشير إلى جزئية مهمة ترتبط بالإنسان المعاصر ووعيه المنفتح على آفاق عديدة، مشدود إلى إدراكها.

هذا الوعي متعدد الطبقات والاتجاهات، أثر تأثيراً كبيراً في شعرية محمد خضر الغامدي، وفي بناء الصورة الشعرية لديه، فالصورة لا تبنى على منطق واقعي؛ وإنما تبنى في إطار منطق خاص. ففي قصيدة "أرق":
يسقط النعاس
في معركته الأخيرة
شرشف متجعد آخر السرير
وحليب الصباح المتثائب
يقفز في حلقي
بدون تبريرات واقعية
أشعل سيجارة
وأراقب عصفورة تتمطى

فالصورة في هذه القصيدة صورة تكوينية ترتبط بالذات، بأفقها المغلق والمطبق لحظة الصباح، وللخروج من هذا الأفق المطبق، الذي تشكل من صور مجهرية فاعلة، بداية من المجاهدة للالتحام بالواقع بفعل الصحو، ومروراً بحليب الصباح الذي يقفز في الحلق، نجد أن حركة المعنى تنتهج فعل المراقبة بعيداً عن أفق الذات، وكأن فعل المراقبة يضع قشرة رهيفة على السأم المنفتح؛ وكأنه –أيضاً- يمثل أفقاً للضياء.

وفي قصيدة "هوامش الريح" تأتي الريح مرتبطة بالحزن والبكاء، واحتفالات الحزن، ويبدو أن حضور "الغبار" -معادل التراب- في نظرية أمبادوقليس بعناصرها الأربعة في النص الشعري، يدل على أن الشاعر يعي تماماً ملامح هذه النظرية، التي تجلت بشكل واضح في ديوان عفيفي مطر "رباعية الفرح"، وديوانه "ملامح من الوجه الأمبادوقليسي"، فالريح في نص محمد خضر الغامدي وثيقة الصلة بتكوين ذهني خاص، يرتبط بالحركة وعدم الثبات عند أفق واحد؛ وإنما تصبح هذه الذهنية المرتبطة بالريح منفتحة لتجارب عديدة تتراكم في لحظة واحدة، بينما يأتي الغبار معادلاً للسكون والهدوء. يقول محمد خضر الغامدي :
يزعم الغبار أنه كان حاضراً
في الصف الأمامي
لا لشيء إلا للإثارة
بينما تدرك الريح
هذه السلوكيات الصبيانية
تلثم عصفورتها
وتواصل البكاء

فالغبار -معادل التراب- يشير إلى ثقل يهدهد طبيعة الريح المجلوبة على الحركة، والتي تحمل معها ذاكرةً منفتحةً على تجارِب تتراكم في لحظة واحدة، مشكلة أفقاً خاصاً للتشظي والبكاء.

القارئ لديوان "صندوق أقل من الضياع" لمحمد خضر الغامدي، يدرك بسهولة أن كتابة الذات جزء أساسي من شعرية الديوان، فالذات الإنسانية لها حضور واضح الملامح، وثمة جزئية مهمة تشير إلى هذا النسق، وهي جزئية عناوين القصائد، فالمتأمل لهذه العناوين يدرك أن معظم العناوين جاءت (نكرة)، وهذا التنكير يشي من جهة أولى بخصوصية الرصد، ومن جهة ثانية يشير إلى الإعلان عن قيمة هذا الرصد، فالعناوين مثل: (زمن، حيرة، فقد، لهفة، رؤيا، ترادف) تكشف كلها عن خصوصية، وعن قيمة هذه الرؤية، فتنكيرها جعلها مرتبطة بحدقة الراصد دون النظر إلى نموذج سابق مؤسس، فهي تؤسس تفردها من خلال هذا التنكير4.
 


 
:: نماذج لأعمال الكاتب ::


ويباشر الشاعر محمد خضر الغامدي الحياة من خلال الشعر، مثلما يباشر الشعر من خلال الحياة. في مجموعاته الشعرية "مؤقتًا تحت غيمة" (2002)، "صندوق أقل من الضياع" (2007)، "المشي بنصف سعادة" (2008)، "تمامًا كما كنت أظن" (2010)، تتفجر إنسانية الإنسان عبر مفارقات المواقف الصغيرة، والصدامات المحتملة بين الحقيقي والزائف في عصر الصناعة، صناعة كل شيء، وتسليع كل شيء. يقول:
الفراشة التي نامت كثيرًا
على صوت هسيس الأشجار في التلفزيون
وعلى حواف الأحلام في الأغنيات الشعبية
لم تعد تذكر لون السماء تمامًا
ولا تفرق بين الجدار والفضاء
لذا تتعرف الصباحات من حنين في القلب
وتروض أمنياتها بالقرب من شجيرات البلاستيك
في ركن الصالون5.

ومن ديوان محمد خضر البكر "مؤقتاً.. تحت غيمة"، نقرأ في القصيدة التي تحمل عنوان الأضمومة الشعرية:
أحب الجبال
لأن أبي أخرجني درجاً عابراً
والطريق لا تستقر
قال لي:
هذه التضاريس خبز وماء
تكنز الأرض أسرارها
والكهوف الخطايا

ليست المحبة هنا حالة وصف شعورية، بل توحد تام مع التضاريس التي لا يمل لتعريفها، لكنه قادر على تقديم دلالات منطقية لهذا التوحد/ الذوبان.. حيث يعلله من امتداد الخطيئة الأبوية، التي تلقنه نسقاً يبرمج عليه أفعاله وأقواله، لكن، لحظة... هنا اختلاف كبير فخطيئة الأب تستحيل فضيلة تحثه على الخروج إلى الأمام "لأن أبي أخرجني درجاً عابراً"، ومظلة الأبوية تقتضي إدخال المعلومات والأمر بتنفيذها، وأرى اختلافاً لا أسميه ولا أريد، ولكنه كفيل لقارئه دهشة هذه التناقضات/ التناسق الأبوي في غمرة القلق الأزلي، الذي يلازم المبدع في خط سيره الإبداعي.

"قال لي هذه التضاريس خبز وماء"، إن الخطاب الموجه إلى الشاعر لم يكن أمراً، وفي هذا تأكيد على تحول النسق الأبوي إلى فضيلة ديمقراطية، لا تشبه الوسط الذي يصطدم به الشاعر في شرق متعنت، ربما قد تحققت فعلاً؛ وإنما هي تعبير عن الحالة المنشودة التي تظل محلقة في سجنه/ الأفق.

ثلاثية السر- الكهف - الخطيئة، والتي تعطي إيحاءً قوياً على بيئة الشاعر "العربية"، التي تعاني التعتيم، إذ يبوح بها فإنه يعلن عن المطالبة بالضد في إطار إنساني، يكرس لمبدأ الرفض، وإن بدأ مبطناً بطمأنينة الكهف/ السر، إلا إنه تحت رهبة القلق لا يطمئن6.

لخطاب الحكاية دوره داخل الديوان، وهي ظاهرة في قصيدة النثر لا تخصها وحدها بالتأكيد، فبنية الحكاية والسرد الحكائي لهما تاريخهما الممتد في القصيدة العربية، بل وفي الأناشيد السومرية وأغنيات المصري القديم، وإن اختلف مستوى الحكي وآلياته، وانتقل من الحكاية البسيطة التي حملتها تلك النصوص إلى حكايات أكثر تعقيداً واشتباكاً مع العالم، بقدر ما تحمله اللحظة الآنية من إشكاليات متشابكة، وهو يكشف منذ القصيدة الأولى "الألبوم" عن وعيه بدور الحكاية وبنيتها داخل بنية السرد الشعري، فالمجتمعات الإنسانية جميعها تحفل بالحكي، ولا يوجد ما يحكى عنه. إن الاعتماد على بنية الحكاية التي لا تكتمل يؤكد على كسر مؤسسية النوع الأدبي، وتجاوز الأنواع. وقدرة قصيدة النثر على التفاعل مع أجناس أدبية وفنون مختلفة دون أن يفقد الشعر جوهره، عبر استخدام مستويات متعددة من المجاز البصري، والممتد والكلي، والقدرة على توظيف عبارات عادية ليمنحها طاقات شعرية تجاوز استخدامها السابق، حتى في استخدام الجمل الحوارية بشكلها المعتاد، حيث اللغة تبدو وكأنها لا تتجاوز وظيفتها التواصلية، كلعبة من الألعاب التي يمارسها داخل الديوان القصيدة مثل:
رجل آخر تساءل ما أهمية أن يكون هنالك صورة جديدة لرامبو؟
آخر قال مستطرداً: إن الأهمية نسبية
تتحكم فيه درجات الوعي ومحبة الشعر وتجارب الحب...
أما الذي يعرفه تماماً
قال: صورة -مجرد صورة-
نقرأ فيها قصيدة جديدة

إن المفارقة في نهاية قصيدة "صورة جديدة" تفجر شاعرية عالية، وإن بدا النص ذهنياً في مقارنته بين الشاعر الفرنسي "رامبو"، وبطل أفلام الحركة الأمريكي نتيجة الاسم المشترك بينهما، كما أن الخطاب الأيديولوجي بدا صاخباً عبر موقف فكري ضد ثقافة الاستهلاك، والانحياز إلى قيم الفن7.


هوامش: 1. أسامة الحداد، " تحميض".. الحياة داخل ألبوم "محمد خضر"، جريدة عكاظ، السعودية، 29 دجنبر 2018. / 2. معتز قطينة، " ثنائيات الثقة.. شطرنج القلق"، مجلة أفق الثقافية، 1 نونبر 2002، نقلا عن مدونة الكاتب. / 3. شريف الشافعي، "قصيدة النثر السعودية تخترق العزلة"، موقع "ميدل إيست أونلاين"، 5 دجنبر 2010. / 4. د. عادل ضرغام، "قصيدة النثر السعودية، الغامدي والخميسي نموذجا"، بوابة الفجر، 5 نونبر 2015. / 5. شريف الشافعي، "إطلالة على حقول الشعر الجديد في السعودية"، ملحق الخليج الثقافي، جريدة "الخليج"، الإمارات، 5 يونيو 2010. / 6. معتز قطينة، م، س. / 7. أسامة الحداد، م، س.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها