المفتاحُ الذي فقد صاحبه

فؤاد عفاني

ليس هناك أسوأ من أن تحتفظ بمفتاح لا باب له، مفتاح يثقل ذاكرتك أكثر مما يثقل جيبك.. دوماً كانت المفاتيح تفتح الأبواب وتغلقها. فقط هذا المفتاح الذي أغلق باباً وفتح جرحاً في الذاكرة والقلب.. بالأمس سألتني زوجتي بسخرية لاذعة ما فائدة ذلك المفتاح الذي لا يفتح باباً من أبواب غرف منزلنا، أتراك تملك بيتاً آخر؟ مفتاح زائد لا يعني سوى شيء واحد!

أجبتها بابتسامة باردة، كعادتي حينما أرى أن الإجابة عن سؤال ما ستكون عبثاً لا فائدة منه..

ابنتي الصغيرة، التي تأتي دوماً في صف أمها، كلما وجدت حاملة مفاتيحي تشرع في التخمين:
- هذا مفتاح الباب الرئيس، هذا مفتاح المرآب، هذا مفتاح السيارة، هذا مفتاح المكتب… أبي ماذا يفتح هذا المفتاح الذي يحمل رقم... 6.6.5

- لا أدري يا صغيرتي، قد يكون مفتاح باب ما… لا يمكنني تذكر كل شيء...

تنظر إليّ الصغيرة بمكرها المعهود ثم تمضي إلى حضن أمها، وتهمس في أذنها كلاماً أعرفه فأتوقع نظرات زوجتي المحملة بتهم تحتاج إلى هيئة دفاع.

يا للمفاتيح كم تحمل من أسرار.. قطعة معدن صغيرة تفتح باباً، وخلف الباب تفاصيل وأحلام وآمال وذكرى عابرين مروا من هناك.. قديماً لم يجعل الإنسان باباً لمساكنه.. لكن ما إن أصبحت له أسرار صغيرة حتى بدأ يغلق ويوصد ويسدّ.. حتماً كانت المفاتيح والأبواب خوفاً من شيء ما صار يكبر ويكبر باستمرار..

أذكر أن والدتي كانت تضع مفاتيح بيتنا القديم في خيط وتربط الخيط في حزامها خوفاً منا نحن "اللصوص الصغار".. ومن بين حزمة مفاتيحها أذكر مفتاحين اثنين؛ مفتاح غرفة الضيوف؛ كان كبيراً ومميزاً مختلفاً عن المفاتيح الصغيرة والجميلة التي نراها في أيامنا هذه.

أما المفتاح الثاني فهو مفتاح صندوق خشبي ورثته أمي عن جدتي، كان مفتاحَ الأسرار والأشياءِ الجميلة القليلة التي كنا نملكها؛ وثائق مهمة، وبعض الحلي، وأهم شيء بالنسبة لنا نحن الأطفال قطع الحلوى التي كان يحملها الضيوف المميزون في زياراتهم القليلة، وكانت والدتي تحرص ألا نأكلها دفعة واحدة.. ما زال ذلك الصندوق موجوداً في بيتنا القديم.. لكنه مجرد قطعة خردة، لم يعد مهماً.. يبدو أننا لم نعد نملك أسراراً.. والمفاتيح تفقد قيمتها حينما يزهد أصحابها في الحياة فيتخلون بطواعية عن كل شيء.

وكم يحن جيلنا إلى امتلاك صناديق صغيرة، وأسرار صغيرة بطعم قطع الحلوى التي جلبها الزوار يوماً.

أعتذر.. لقد سرقتني الكلمات وأنستني المفاتيح حكاية مفتاحي.. وأنستني نظرات زوجتي وشكَّها..

عمداً، لا أريد أن أخبر أحداً بقصة المفتاح؛ لأنه مفتاح ألم.. مفتاح يحنّ لصاحبه.. ونحن نحتمي من الألم بالصمت، وبالهروب، وبالبكاء.. فليس البوح مجدياً دوماً.

في صباح اليوم الموالي، بعدما فرغت من بعض أشغال المكتب التي لا تنتهي، نزلت إلى أقرب مقهى لأرتشف فنجان مقهى. وبينما أنا أعبث بسلسلة مفاتيحي كعادتي انتبهت إلى اختفاء ذلك المفتاح. ابتسمت ثم اعتراني حزن مبهم.

على طاولة الغذاء طلبت برقة من زوجتي أن تعيد المفتاح الذي أخذته دون استئذان، فرفضت بعناد وإصرار بأنها لن تعيده إلا إذا عرفت الباب الذي يفتحه.

- ليس له باب..

- لا يمكن، لكل باب مفتاح، حتى باب جهنم.

فُتح باب ذاكرتي، فرحلت إلى اتصالِ هاتفي يوم جمعةٍ يحمل صوتاً أعرفه جيداً، ليخبرني في وقت غير معتاد أن محمداً مات... هكذا بكل بساطة يتلاشى الإنسان.. يختفي.. يرحل... خبرٌ لا يُصدَّق، فلا يمكن لشاب في مقتبل العمر أن يرحل هكذا.. يغادر بثلاثة حروف "موت".. حتى اللغة لا تُنصف المودعين وتكتفي بتشييعهم بحروف ضعيفة مهموسة. ونستعير منها بَعدَهم عبارات مواساة مألوفةٍ باردةٍ يتساوى فيها الموتى جميعاً..

كان محمد شاباً مفعماً بالحركة بشكل غريب، كما لو أنه كان يدرك أن الحياة لن تمهله ما يكفي من الوقت.. كان يملك قدرة على أن يركز على أكثر من شيء في وقت واحد؛ يرتدي ملابسه، ويتناول فطوره ويجيب على مكالمة هاتفية لصديق، وفي الوقت نفسه يتحرك داخل أرجاء البيت للبحث عن شيء ما.. كان محمد من أولئك النادرين الذين لا يمكن أن تسمع منهم كلمة "لا".. فهو دائماً يجيبك: "لا تقلق، هذا أمر سهل..". كان من أولئك الذين يسمعون شكوى الجميع ولا يتجرأ على إثقال كاهل الآخرين بهمومه.. كان يحب أن يظهر قوياً لا شيء يهزمه سوى الموت.. كان محمد حلماً متوهجاً محاصراً بسياج زمني لا يرحم..

وكفراشة تهفو إلى ضوء النار عانق محمد الموتَ، وهو يقود شاحنته فجراً مطارداً حلماً بمستقبلٍ أجملَ لصغاره الذين يشبهونه.. لم يشأ أن يرحل وهو على فراش وثير، أو في مستشفى.. مات وهو في طريقه للعمل وحيداً دون أن يزعج أحداً.

رأيت محمداً بين موتين؛ المرة الأولى جاء برفقة تابوت والدته ليواريها التراب بأرض الوطن نزولا عند وصيتها الأخيرة.. والمرة الثانية، ودون وصية، جاء في تابوت محكم الإغلاق باستثناء نافذة صغيرة تخفي خلفها وجهاً مبتسماً.. وللنافذة الصغيرة مفتاح بلون الموت..

 - إنه مفتاح تابوت خالك الذي غادرنا منذ سنة يا صغيرتي..

قمتُ تاركاً خلفي سلسلة المفاتيح، وعلى الطرف المقابل من طاولةِ الحزن تركتُ يداً تمسك جمراً، ونظراتٍ تفشي كل الذكريات.. وصمتاً يُخْبِر بأن الأحياء أحق بالجنازات..

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها