نصوص وأقدام

يونس محمود يونس

وأتى مساء الخريف رقيقاً عارياً وبارداً، فتسللت الحشرة إلى ركنها في البيت بانتظار أن يهبط عليها سواد الليل. لحافها، ووسادتها، وعالمها الخالي المريح من تقلبات أمزجة المتعاملين؛ ولأنها حشرة وقادرة على اختلاس الحياة في أحلك الظروف، قد تكون من سلالة حشرة كافكا، وقد تكون من سلالة أكثر عناداً. لكن أياً يكن نسبها فهي ترى نفسها حشرة وكفى.

ثم يهبط الليل على تلك الغرفة الخالية إلا من الأثاث ليغطي بسواده الحالك كل شيء، فتنشّط الحشرة خيالها قليلاً نحو الماضي.. يوم كانت حياة الحشرات أكثر ألفة وهناء، وتتذكر فيما تتذكر أنها ما كانت تعرف الوحدة والخوف دون سبب واضح كما هو حالها الآن.

بعد هذه التخيلات تنام الحشرة نوماً عميقاً. لكنها سرعان ما تستيقظ لتجد الغرفة مضاءة بمصباح الكهرباء، وصاحب البيت جالس خلف حاسوبه دون حراك. فتقول لنفسها "هذه عادته عندما يريد أن يكتب شيئاً، يدخل هذه الغرفة ويزعجني، لكنه من جهة أخرى يسليني أيضاً. أزحف إلى خلف رأسه وأرى ماذا يكتب، وهذا ما سأفعله الآن".

وتبدأ الحشرة بالزحف على قوائمها الصغيرة إلى أن تستقر عند أعلى الكنبة التي يجلس عليها، وبعد أن توجه مشعريها. تأخذ بمراقبة شاشة الحاسوب. فترى نصاً صامتاً. ما جعلها تعتقد أنّ صاحب البيت يتأمل النص الذي كتبه مفسحاً في المجال أمام أفكاره لتحيط بكل ما كتبه وما لم يكتبه. علماً أنّ النص يتحدّث بداية عن رجل استطاع بشقّ النفس أن يسير متوازناً على حافة الهاوية التي قُدّر له أن يعيش عليها، بحيث لم ينزلق إلى الحياة كالذين يحبون الحياة، ولم ينزلق إلى الموت كالمنتحرين.

أما لماذا حافة الهاوية. فالأسباب كثيرة على ما يبدو، وتعدادها لا معنى له في ظلّ ظروف الحرب التي ضربت توازن الكثيرين، وربما فرضت عليهم أن يعبّروا عن همومهم كل حسب مستواه. فهناك من يكتب بحماس وكأنّ حلّ المعضلة برمتها متوقف على خطوة حماسية منه، والبعض يكتب بترهل بعد أن تملكه اليأس. لكن أكثر ما يسترعي الانتباه هم أولئك الخبثاء المتواطئون.

وتعود الحشرة إلى النص المكتوب لتكتشف بعد قراءة متأنية أنّ النصّ يتوقف فجأة دون سبب واضح. بل كأنه قطع بطريقة ما. ربما تحت تأثير مقصلة انزلقت على عنقه بتسارع ثقلها الرهيب. فقطعت النصّ وروح صاحبه أيضاً.. ذلك أنّ صاحب النصّ كان جامداً وهامداً كأنّ روحه انفصلت عن جسده؟!

"لا بدّ أنّ هذا ما حدث؟ وإلا لمَ كل هذا الصمت؟! وهل هي روحه التي قطعت أو سحقت؟! أم أنّ هذا الرجل بذل أقصى ما لديه فكانت النتيجة أن حصل على خيبة مدوية؟! إنه لأمر غريب أن يكون جسد هذا الكائن سليماً معافىً، وروحه مسحوقة هكذا"!

هذا ما تحدثت به الحشرة مع نفسها وهي توجّه مشعريها. بل إنها بدت منهمكة في معرفة السبب الذي جعل صاحب البيت في هذه الحالة الغريبة. خاصة وأنّ النصّ لا يحتوي على مقصلة، ولا شيء فيه ينذر بوجودها. فقط هناك كلام يشي بأنّ النصّ فقد مجراه وحيويته إلى الأبد، وما عاد بإمكانه أن يكون نافعاً؛ لأنه من الماضي، وأشخاصه من الماضي، وما من أحد يستطيع استعادتهم، ولا أن يفكر في رؤيتهم. لا في هذه الساعة، ولا في أي ساعة أخرى.

 لكن، وبما أنّ الماضي قد يصبح حاضراً عندما نعيش فيه، وبما أنّ الفراق جزء من الحياة وليس نقيضاً لها. يعود النصّ لينبض بتلك الأسئلة المبهرة كضوء الشمس، وعلى سبيل المثال هناك سؤال مصاغ على النحو التالي: "إذا كانت العلّة موجودة دائماً.. مختبئة وهادئة في حالة كمون وخمود؛ أي احتمالات تلك التي تجعلها تتحرك في لحظة ما لتصبح قاتلة ونهائية؟

فتقول الحشرة محدّثة نفسها "ويحك أيها البائس! وتسأل؟! وهل أنا إلا مشروع جثة مسحوقة تحت قدمك عندما تراني؟! وقبل أن تسحقني ربما تتساءل إذا ما كنت أنا حشرة كافكا؟! ولعلك لا تريد أن تعلم أنّ كافكا تحول إلى حشرة ليهين أمثالك! بل ليذكّركم جميعاً أنكم مجرّد حشرات، وكثير عليكم أن تكونوا حشرات! قتله! متواطئون! لصوص! والأسوأ أنكم ترون كل شيء إلا عيوبكم، وترغبون في السيطرة على كل شيء ما عدا أنفسكم! يا لك من شيطان؛ لأنك وأنت هنا.. أنت هناك أيضاً. بلا روح ولا أمل! تتكئ على آلامك في ذلك المكان الذي قطعت فيه حياتك، وفي ظنك أنك باق كما أنت إلى الأبد".

عندما وصلت الحشرة إلى هذه النقطة، كانت ترتجف من شدة الانفعال، ربما لأنها كانت تشعر بالغضب من صاحب البيت، وربما لأنها كانت تشعر بالشفقة عليه مع ما يرافق هذا الشعور من احتقار مبطن. مع ذلك، يمكن القول إنها عندما رأته ساكناً ولا يحرّك ساكناً.. قرّرت أن تعود إلى ركنها؛ لأن لا أمل لها في أن تنام بأمان إلا في ذلك الركن البعيد عن النصوص والأقدام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها