آداب التعامل الرقمي.. من أجل تخليق الحياة الرقمية

سعيد سهمي

لا يختلف المجتمع الرقمي الافتراضي في الواقع عن المجتمع الواقعي الحي أو المعيش؛ فكلاهما يمثل واقع الإنسان، وكلاهما مجتمع يقوم على وجود مجموعة أفراد، تغلب فيه العلاقات الاجتماعية على العلاقات العشوائية، ويبقى فيه التواصل أهم عنصر، بل إن المجتمع الافتراضي صار البديل للمجتمع العادي، أو على الأقل صار امتداداً له حين نجد أن الأسواق التجارية الرقمية استمرار للأسواق المفتوحة على واقع الأرض، والجامعات المفتوحة عن بعد هي امتداد للجامعة الواقعية وللتعليم الحضوري، والمؤتمرات السياسية أو العلمية أو التجارية التي تعقد عن بعد هي امتداد للمؤتمرات الموجودة على أرض الواقع؛ حتى قيل إن العصر الذي نعيشه اليوم يمثل الثورة الصناعية الرابعة التي هي ثورة الإعلام والاتصال.
 

إننا حين نتحدث عن التواصل الرقمي؛ فإننا نتحدث عن مجتمع متكامل يضم العائلة، ويضم المجتمع، ويضم الأصدقاء وزملاء العمل؛ أي أنه امتداد للمجتمع الواقعي الذي نعيش فيه؛ وهو ما يستوجب مجموعة من الشروط في التعامل الرقمي أو الافتراضي، سواء تعلق الأمر بالتعامل في الاستخدام العادي للأنترنيت، والتواصل عبر المواقع الإلكترونية والخدمات، أو تطبيقات التواصل الفوري الذي له أخلاقياته وضوابطه، أو تعلق الأمر أيضاً بالتواصل بين الناس، الذي عليه أن يكون أيضاً تواصلاً مبنياً على آداب وعلى سلوكيات سليمة، والهدف الأساس هو خلق مجتمع رقمي سليم، يجعل التواصل الرقمي بنّاءً ومُثمراً.

◂ واقع التواصل الرقمي

الحق أن ما نراه اليوم من اختلال في نظام المجتمع الرقمي عموماً على مستوى الاستعمال والتواصل لا حدود له، بحيث إنه يفتقد إلى الأخلاقيات المتعارف عليها، والتي يقبلها الذوق السليم والطبع السليم، فهو بالنسبة للعديد من الناس ليس مجتمعاً حقيقياً؛ أي أنه مجتمع من ورق، إن صح التعبير، وعليه؛ فإنه يبقى بالنسبة لأغلب مستعملي تلك المواقع الرقمية والمستفيدين من خدماتها، حتى هؤلاء الذين لديهم أخلاق عالية في الواقع (الحقيقي)، يبقى لديهم ملاذاً للتفاهة والانحلال، باعتباره بالنسبة إليهم مكاناً للتحرر من كل الأخلاقيات. وذلك ما يجعلنا ننظر في بعض الاختلالات على مستوى السلوك في التعامل الرقمي، والتي تشكل نوعاً من الإيذاء النفسي أو المادي للآخرين.

◂ الإيذاء اللغوي

يمكننا أن نطلق على مظاهر السب والشتم التي يتعرض لها الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتطبيقات التواصل الفوري (مثل واتساب) الإيذاء اللغوي عموماً؛ سواء تعلق الأمر بالكتابة المؤذية، أو بالرسائل الصوتية التي في الغالب يتقنها الجميع حتى الذين لا يعرفون القراءة والكتابة؛ فهو مجال خصب سواء عبر توتير أو فيسبوك، أو عبر واتساب أو غيرها، أو حتى في المواقع الثقافية أو العلمية، أو الإخبارية الأكثر صرامة في ضبط التعامل الرقمي؛ فإننا نجد هذا الإيذاء اللغوي متفشياً.

من أشكال الإيذاء هذه أن أغلب من ينشرون مقالاً، أو يعرضون منتوجاً للبيع، أو ينشرون خبراً، أو فيديو للترفيه أو الفائدة؛ نجدهم يتعرضون -في غالب الأحيان- لأشكال من السب والشتم والأحكام المؤذية؛ حيث نجد أن أغلب التعليقات تمرر نوعاً من العنف اللغوي، أو الإيذاء اللغوي ما يجعل أكثرية من يقومون بعمل ديني أو تربوي؛ أو من الشخصيات المشهورة يمنعون التفاعل مع المنشورات، كما أن بعض المواقع تفادياً لهذه الهجمات اللغوية المؤذية تضع شروطاً دقيقة للتفاعل مع هذه الوسائط الرقمية، ولا تنشر ردود القراء حتى يتم الاطلاع عليها وغربلة ما فيها، وذلك لعلم مسبق، خاصة بالنسبة للبرامج العربية عن الردود التي لا ترقى إلى مستوى الأخلاق، أو إلى مستوى الحس الإنساني، حيث اعتماد الألفاظ الفظة والوحشية التي تؤذي من يقرأها.

يجتهد الكثير من الناس في نشر الفوائد العلمية أو الأدبية، أو الفنية التي يمكنها أن تنفع جمهور المتلقين أو ترفه عليهم؛ ومنهم من يكلفه تصوير مقطع، أو تسجيل محاضرة علمية، أياماً من التعب والمشقة، ويضعه مجاناً للمتابعين للاستفادة منه، وغالباً ما لا يكون الهدف منه الربح المادي؛ وإنما بنية التعاون أو التضامن أو الإفادة، فتجد للأسف الفئة المستهدفة الأكثر استفادة من المنشور أو من المقطع، عوض أن تشكر أو عوض أن تبدي على الأقل مدى استفادتها من المقطع، بله التجاوب والتفاعل مع المنشور من أجل استمرار الإفادة، عبر النقد البناء؛ فإنها، عوضاً عن ذلك، تجدها تبخس العمل، وتسب، وتهدد، وتتوعد، ومنها من ينشر من الفيديوهات أو الصور ما يخل بالأخلاق العامة، كرد فعل أرعن ضد ما نشر، وذلك ما يجعل المنشور وبالا على صاحبه رغم ما بذله من جهد، بحيث تجد الأغلبية تأتي للسب والشتم، وتأتي لإفساد ما يتم نشره، مما يجعل الفضاء الرقمي عند أغلب المتابعين فضاءً عجيباً، ولعل ذلك يدعو إلى كثير من التأمل في طبيعة هذا الشخص الذي لا يقل من حيث الخطورة عن المجرمين والساديين الذين يؤذون الناس، ولا يكون لهم من سبيل للحد من خطورتهم سوى المرستان أو السجن.

◂ الجهل بأدبيات التواصل في مواقع التواصل الاجتماعي

كثيراً ما يتعامل مستعملو مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك بشكل عشوائي مع ما ينشر، كما لو أنه في الواقع يتواصل من برج خارج هذا الكوكب، فلا يحسن القراءة ولا يقرأ بغاية الفهم، وإذا قرأ لا يستوعب ولا يبذل جهداً من أجل الفهم أو حتى التساؤل عن مصدر المعلومة؛ فمثلاً قد تضع قولة لكاتب، فعوض أن ينتقد أو يرد على الكاتب صاحب القولة، أو يوضح ما تم وضعه؛ فإنك تجده في نهاية المطاف يقوم بالرد اللاذع مباشرة على من وضع المنشور أو المقولة أو الشريط، كما لو أنه هو المنتج، وهذا ما يدل على غياب ثقافة رقمية لدى أغلب مستعملي الأنترنيت، فضلاً عن كونه يدل دون شك على الجهل بأدبيات البحث العلمي، وما إلى ذلك من الأمور التي تدعو إلى كثير من التأمل، لاسيما منا نحن العرب الذين في الأصل نفتخر بماضينا وأخلاق أجدادنا، ونسينا حاضرنا، بحيث تغلب على الكثيرين حمية الجاهلية وآثارها التي من بينها السباب واللعن، والعصبية والعنصرية، فضلاً عن التقليد الأعمى والجري وراء السراب، فإذا نشر مثلاً أحد المشاهير أتفه شيء تجده يتفاعل معه بدون أن يطلع عليه، وإذا نشر طبيب أو مفكر أو مثقف عربي شيئاً جديداً دينياً أو علمياً، أو ما شابهه تجد الأغلبية يهاجمونه كما لو أنه جاء بمصيبة، أو اقترف ذنباً عظيماً.

◂ السرقات والاختلاسات

يستمر الجهل بأدبيات التعامل الرقمي خاصة ما يرتبط بالتسويق الإلكتروني والتجارة الإلكترونية والبحث العلمي الإلكتروني والنشر الإلكتروني الذي يعتمد عليه البعض كتجارة، فحين يضع أحدهم منتوجاً للتلقي مقابل الأداء، فالأغلبية يختلسونه دون معرفة مصدره، وفي الغالب يتم السطو على الموضوع أو المنتوج، دون حتى أن يتفاعل المرء (المختلس) مع ذلك المنشور، ما يدل على أن سرقة الموضوعات والمنتوجات الرقمية مباحة عند البعض، خاصة في الدول النامية التي تغيب فيها الرقابة على الرقمية والقضاء الإلكتروني، فكون القانون لا يعاقب على سرقة محتوى رقمي بنظر البعض لا ضير فيها، ما يدل على أن هؤلاء يخافون القانون ولا يخافون الله تعالى، كما أنهم لا يستحضرون الضمير الإنساني في تعاملهم مع الرقمية، على اعتقاد أن كل ما هو افتراضي مباح، وأنه لا يرقى إلى الواقعي الملموس، فضمير الإنسان لا يدعوه إلى سرقة قلم من أحدهم، لكنه يسمح له، بالمقابل، بسرقة عشرات المقالات أو الكتب أو الفيديوهات، أو البرامج الرقمية من المواقع الإلكترونية دون إذن أصحابها، وهو ما يدل على وجود خلل في سلوك البعض إزاء الرقمية.

◂ التحرش الجنسي

كثيراً ما يجد البعض أن التحرش في فيسبوك، أو تطبيق واتساب، أو عبر الهاتف أو ما شابه من باب الأمور العادية جداً؛ وكأنه لا يتواصل فيها مع إنسان، بل مع شيء جامد، أو طيف أو وهم، ما يجعلها من الأمور العادية بالنسبة إليه، حتى إن هؤلاء الذين يتمتعون بأخلاق عالية على أرض الواقع تجدهم على مستوى التعامل الافتراضي يتحررون من كل الأخلاقيات، ويبحرون في أشكال الانحراف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال التحرش ونشر الصور الفاضحة، وما إلى ذلك من الأمور التي تسائل الضمير الإنساني وتسائل الضمير الأخلاقي.

◂ تركيب.. من أجل حكامة رقمية

تدعو أشكال التعامل الرقمي سالفة الذكر، والتي لا شك أنها تسجل بشكل كبير وفي كل لحظة أنواعاً من سوء التعامل، إلى ضرورة التصدي لمثل هذه السلوكات، ما يسائل أولا المجتمع الدولي الذي عليه أن يحمي مستعملي الأنترنيت، ومستعملي المواقع الإلكترونية، بل ويحمي كل من يتعرضون لأشكال الانحراف الأخلاقي، سواء تعلق الأمر بالسرقات والاختلاسات، أو تعلق الأمر بأشكال السب والإهانة، أو تعلق الأمر بالتحرش، من أجل تفعيل القضاء الإلكتروني لحماية مستعملي الأنترنيت عموماً.

كما يدعو هذا أيضاً إلى ضرورة العمل على تخليق الرقمية عموماً، من خلال تقنين أشكال التواصل بشكل أكبر، خاصة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي التي عليها أن تبذل مزيداً من الجهد لتقنين التواصل، خاصة من طرف الغرباء الذين يهمون على خصوصيات الآخرين، بله مراقبة ما يتم نشره خاصة من الصور والفيديوهات التي قد تمس بكرامة البعض.

وأخيراً؛ لا بد من نشر الثقافة الرقمية عبر التعليم والإعلام، ومختلف قنوات التثقيف التي عليها أن توجه الأجيال الصاعدة إلى حسن استعمال التواصل الافتراضي، وإلى خطورة ما يمكن أن نسميه التنمر الافتراضي الذي قد تكون عواقبه وخيمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها