بين فقه الصُّورة وتناص القصيدة

سَعيٌ فنيٌّ للتوليد والاختراع

د. بن الطالب دحماني

 


لقد صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب التابعة لوزارة الثقافة مع نهاية 2018  كتـاب"فقه الصورة والتراسل بين المخيلة والعين: تناص القصيدة العربية مع الفنون البصرية" للدكتور نذير العظمة، وهو كتاب يقع في ثلاثمائة وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط، مقسم إلى ستة أبواب هي: في أفق الدراسة والمنهج والمصطلح والخلفيات الجمالية والفلسفية للتراسل، إشكالية الصورة بين الفقه والفن، التراسل بين المخيلة والعين، الأوابد والتراسل، القصيدة بين الريشة والإزميل وتحولات البصري إلى سمعي، القصيدة والغناء.



والكتاب كان يهدف منه نذير العظمة إلى الوقوف عند تراسل الفنون بصفة عامة، إذ هو معطى جديد لقضية ما زالت تشغل الأدباء والمبدعين بصفة عامة؛ أي كيفية تحويل الصورة سواء أكانت معمارية أو سواها، إلى صورة شعرية مرئية، كما هو موجود في قصائد أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأبو نواس، والبحتري، والمتنبي، وابن حمديس، وإبراهيم ناجي، وجبران خليل جبران، وعمر أبو ريشة، وشفيق المعلوف، وخليل مطران. كما يندرج في هذا الإطار نقوش الزخارف ورسوم الأوابد عند العقاد وغيره، فالحركة بين ما تراه العين وتحوله إلى كلمات تتشكل فيها القصائد المنظومة عن صور مرسومة أو بالعكس يدهشنا بغناه حين تتحول القصائد إلى لوحات أو اللوحات إلى قصائد، يدهشنا بتنوعه وغناه واستمراريته عبر مختلف العصور كأنما يصدر عن جهاز متشابه إن لم يكن مشتركاً للمخيلة في الشعر والرسم والنقش وغيرهما من الفنون.

لقد اهتمت دراسة نذير العظمة بفقه الصورة وتناص القصيدة واللوحة من جهة، واللوحة والقصيدة من جهة أخرى، وتحولات البصري من تصوير ورسم ونقش وزخرف في الفنون والصنائع إلى سمعي في الشعر، وبالعكس في تحولات السمعي في الشعر إلى بصري في الرسم، كما أولى في دراسته هذه النحت والعمارة عناية خاصة، وما نتج عن ذلك من قصائد وإلهامات شعرية.

لا ريب -إذن- حسب الكاتب أن التراسل بين الفنون يأخذنا إلى فضاءات جديدة لا تتوافر لكل فَنّ في حالة منفردة، وأن التراسل يأخذنا إلى عوالم ألسنية طرية لا تعرفها القصيدة العادية، وأن التراسل يدشن لعلم جمال مشترك بين الفنون جميعاً، ويمسّ جانباً فلسفياً من فكر الإنسان لا يمسّه كل فن في حالة معزولة؛ فليس غريباً أن تلهم القصيدة مثلا مقطوعة موسيقية، أو أن تلهم الموسيقى قصيدة شعرية، فكلاهما فن يعتمد الإيقاع والانسجام، لذلك استلهم رومسكي كورساكوف الموسيقار الروسي في القرن التاسع عشر ملحمة موسيقية كاملة من حكايات ألف ليلة وليلة، وترجم المعاني والأخيلة الشرقية في الحكايات إلى أصوات موسيقية ونقلها إلى السامع حسب الفن السيمفوني وتقنياته الطربية.

يعد التراسل إذن وجهاً من أوجه التّعاون والتّكامل القائم بين جميع الحواس، فهو يتأسس على مبدأ تبادل الانطباعات، إذ تقوم الحاسة باستعارة معطيات الحاسة الأخرى، فتصير المشمومات ألحاناً، والمرئيات أنغاماً، والمذوقات روائحاً، فتنشأ لغة في الّلغة تستوعب هذا الإبداع الشّعري، وتظهر جماليته، فيسبح الخيال في أعماق النّفس، لتتوحد الإحساسات وتصبح لهجة واحدة تصدر من النّفس البشرية، فالتراسل بهذا المعنى حسب نذير العظمة يتميز بالإيجاز، وتكثيف الدلالة، وتجسيد الشدة والعمق والشمولية، وإضفاء الطرافة والجدّة والإبداع.

لقد حرص نذير العظمة في دراسته هذه على إضاءة العلاقة ما بين المخيلة والعين، والعين والمخيلة في شعرنا العربي، فنظر إلى عيون الشعراء في سياق مشترك إن لم يكن موحداً، وتأمل كيف أسهمت العين كأداة رؤية في إغناء القصيدة، فابتكرت القصيدة اللوحة واللوحة القصيدة في تناص جدلي بين الشعر والفنون البصرية.

وفي هذه الدراسة أيضاً أشار نذير العظمة إلى أنه من المعلوم أن القصيدة قبل كل شيء فن سمعي وأن اللوحة فن بصري، لكن جعل القصيدة لوحة هو ما احتفل به السرياليون، يقوم في الجوهر عندهم على تراسل حاستي السمع والعين، فبالإضافة إلى إيقاع الصوت هناك إيقاع الشكل واللون في القصيدة البصرية، أضف إلى ذلك أن السرياليين لا يحتفلون بالرسم الذي ينقل الطبيعة كما هي، بل يحاولون أن يكتشفوا إيقاع الصورة الداخلي، فيفجرون الظاهر ويستخرجون منه الباطن الذي يتصل بالحدس والذي يشكل الطبيعة تشكيلا آخر، لتعبر عن اللاوعي المختبئ في الأعماق.

صحيح إذن أن القصيدة البصرية هي ابتداع سريالي إلا أنها وجدت عصرها الذهبي مع أصحاب البديع في شعرنا العربي، فابتكروا لها أشكالا متنوعة تخاطب العين للوهلة الأولى، لكنها من حيث البنية تقوم على تداخل الشعر والرسم، كما تقوم على اكتشاف طاقات الشكل الجمالية في الحرف العربي، الأمر الذي اصطلح عليه النقاد بالحروفية؛ فلوحة الحرف العربي لا تقصد أكثر من إثارة بهجة العين كسبيل لتوهج الوجدان واختلاج الفكر.

لقد جرب بعض شعرائنا المحدثين - حسب الكاتب- أن يتوسلوا البصر للتعبير عن السمع، لكن محاولاتهم كانت أكثر صلة بما جاء عند السرياليين في هذا الخصوص، فجاءت محاولاتهم مقاربة للقصيدة اللوحة أو القصيدة الإعلان أو القصيدة كصورة حسية متخيلة عن الشيء أكثر منها مطابقة له، وهي جميعها في الجوهر قصائد بصرية.

من هنا إذن كان التراسل أدق بلاغة فهناك مسافة بين الذات والموضوع قد يلغيها تقمص الذات وتحولاتها، إلا أن فعالية التراسل تتركز على تبادل الخبرات والأشكال بين فنين من خلال حساسية الإبداع الجمالية، فالموضوع يظل قائماً ومنفصلاً عنها في أشكال فنية متعددة تتراسل من خلال الحواس. فالتراسل في الفن كما التداخل في الأجناس يشبه التطعيم في الشجر والتأبير في النخل، فهو سعي فني للتوليد والاختراع لا صدوراً عن الطبيعة والفطرة، بل عن الصناعة والفن، فالتراسل على هذا ظاهرة حضارية، وهو ليس مرتبة واحدة بل مراتب حاول الكاتب من خلال مؤلفه هذا أن يحيط بها من خلال الصورة وتجلياتها وتنوعها على اختلاف مادتها من لغة وحجر ولون وصوت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها