تُسمى "مدينة الشعراء والمجانين.. نصفاً بنصف"

عامودا جزيرة الحب والسلام على مدار التاريخ

محمد عبد الرحمن



مدينة عامودا السورية، تعد أقدم مدن محافظة "الحسكة"، بالقرب من مدينة قامشلي، شمال شرق سوريا، ويتبع لها أكثر من (160) قرية، ويمر فيها نهر صغير، ويوجد بها ثلاث تلال أثرية هي: تل "موزان"، وتل "شاغر بازار"، وتل "گري شرمولا"، وهي تلال كانت مأهولة لقرون طويلة قبل الميلاد.
 

يعتبر الجامع الكبير أقدم جامع في عامودا والمنطقة برمّتها، وهو عنوان بارز لسكانها، وله مئذنة عالية يصل ارتفاعها إلى 35 متراً، والجامع يتوسط المدينة تقريباً، وكان يتبع له في بدايات القرن الماضي، وحتى منتصف الستينيات، مدرسة دينية عرفت بـ"حجرة عامودا" يتوافد إليها الطلبة، وتخرج منها العشرات في مجالات مختلفة، كالفقه والشريعة وعلوم التفسير والنحو.

كما يوجد في عامودا الكنائس المسيحية، مثل كنيسة عامودا القديمة، وكنيسة "مار إلياس الحي".

يقطن عامودا أجناس بشرية متعددة، والجميع يعيش في تعايش سلمي، ما يضفي على المدينة الثراء الثقافي والمجتمعي، وتهتم عامودا بشكل متساوٍ باللغات الرئيسية، وهي: العربية، والكردية، والسريانية، والأرمنية.

كما تنتشر في عامودا دور العبادة المختلفة، نظراً لكثرة الديانات والطوائف التي تقطنها، أو هاجرت إليها في الآونة الأخيرة، ما يشكل مدى التسامح والتآخي بين كافة الأديان والطوائف.

وعرفت عامودا قديماً بين سكانها باسم "ده شتا ماردين" أي سهل ماردين، بينما سماها العثمانيون "بتل الكمالية"؛ لأنها كانت امتداداً لجبال ماردين، حيث لم يكن هناك حد فاصل بينهما، إلا بعد رسم الحدود بين الدولتين، -التركية والسورية- فهي من أقدم المدن في المنطقة.

وقد ورد ذكر اسم عامودا في كتاب "نشوة المدام في العودة إلى دار السلام" للعلامة محمود الآلوسي، الذي زارها في رحلته سنة (1267هـ)، وذكر أن فيها 70 بيتاً وفيها مسجد، ما يدل على أنها كانت قرية عامرة قبل مائة وخمسين سنة، ومن المؤشرات الحضارية على وجود بشر في منطقة عامودا جغرافياً تتمثل في وجود تلال أثرية منها تل شرمولا وتل المال (موزان)، وتل حطين (شاغربازار)، وهذه التلال تم الكشف والتنقيب فيها عن الآثار، فكانت تعود لحضارات قديمة عمرها يتجاوز ثلاثة آلاف سنة.

وورد ذكرها في عدة كتب وعصور مختلفة، كما هو الحال في كتاب "تاريخ ماردين" لمفتي ماردين (1785-1843)، والتي بدأت في إدراج مواد أخرى في القرن (18-19)، وبإضافات أكثر غرائبيّة.

وقال عنها ابن خلكان: دُنَيْسَر، وهي مدينة بالجزيرة الفراتية بين نصيبين ورأس عين، تطرقها التجار من جميع الجهات، وهي مجمع الطرقات، ولهذا قيل لها: دنيسر، وهي لفظ مركب عجمي، وأصله دنياسر، ومعناه رأس الدنيا، وعادة العجم في الأسماء المضافة أن يؤخروا المضاف عن المضاف إليه، وسر بالعجمي رأس.

أما ياقوت الحموي، فقد زارها مرتين بفارق نحو ثلاثين سنة ووصفها كالتالي: دُنَيْسِرُ: بلدة عظيمة مشهورة من نواحي الجزيرة قرب ماردين بينهما فرسخان، ولها اسم آخر يقال لها قوج حصار، رأيتها وأنا صبيّ وقد صارت قرية، ثم رأيتها بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة وقد صارت مصراً لا نظير لها كبراً وكثرة أهل وعظم أسواق، وليس بها نهر جار إنما شربهم من آبار عذبة طيبة مرية، وأرضها حرّة، وهواؤها صحيح".

ولأن عامودا مدينة ضاربة في القدم، فإن لأصل تسميتها رويات متعددة أيضاً، فكما يتحدث المسنون بالمدينة فأصل التسمية، يرجع إلى أسطورة حول ولادة طفل على هيئة سفاح في العائلة المالكة بمدينة ماردين، فأمرت والدته بتعليقه على عامود لاتقاء شره، وأخذت القوافل المارة من المكان بتناقل قصص شفهية عن الطفل والعامود، وهو ذات المكان الذي بنيت فيه قرية عامودا فيما بعد.

والرواية الأخرى تتحدث عن أصل كردي للاسم يعود لأيام امبراطورية ميديا الكردية، التي كانت قائمة قبل الميلاد بقرون عديدة.

وأغلب سكان عامودا يعملون بشكل أساسي بالزراعة، كزراعة القمح والشعير والعدس والقطن، ومعظم الخضار الشتوية والصيفية، وهناك مجموعة كبيرة من الأهالي، يعملون بالحرف اليدوية مثل: النجارة والحدادة والخراطة، إضافة إلى تربية المواشي.
وتجمع بين الأهالي بعامودا صلات القرابة والجيرة والعلاقات الاجتماعية بين عوائل المدينة، ويشكل الأكراد النسبة الأكبر من السكان.

وتعرضت عامودا وعدة قرى مُجاورة عام (1936) لقصفٍ جوي من قبل الفرنسيين، بعد أن أغارت خمس طائرات على المدينة؛ لإخماد الروح الوطنية لدى الأهالي إثر انتفاضة أشعلتها بعض القبائل؛ للتخلص من القوة الاستعمارية الفرنسية، بزعامة سعيد آغا دقوري، ويُعرف ذلك اليوم بـ"طوشة عامودا".

وتسمى عامودا "مدينة الشعراء والمجانين.. نصفاً بنصف" كما يطلقون عليها، مدينة الثقافة والتاريخ والطرافة، ومدينة المجانين والشعراء والأدباء، ومدينة المليون شاعر، وأيضاً المليون مجنون (والجنون هنا يعني مسّ العبقرية ومحبة الأدب والثقافة)، حتى قيل مجانين عامودا من أعقل العقلاء، وسبب ذيوع مصطلح "مجانين عامودا" يرجع، إلى كثرة الثقافة والاطلاع الذي انكب عليه سكانها، حتى وصفوا بالمجانين، وهم في الحقيقة، خلاف ذلك.

وكلنا يعلم أن ما بين الجنون والعبقرية شعرة، ومعظم مجانين عامودا يمتازون بذكاء خارق وسرعة بداهة، وكانت لهم مواقف تمتاز بالرجولة والمروءة، ومعظمهم ينتمون إلى عائلات معروفة بعراقتها وأصالتها ووطنيتها، ومن أشهرهم صلاح شيخ الفار (صلاحو)، وإسماعيل يدين، وحيدرو، وأزادو.

وللأدباء والمثقفين في عامودا مكانة سامقة، وقد سجلت نسبة المتعلمين والمثقفين بعامودا نسبة عالية، إذا ما قورنت بباقي المناطق المجاورة لها، وقد امتازت بكثرة الأدباء والشعراء والمثقفين على مر التاريخ، ومن أبرز أدبائها في العصر الحديث الأديب سليم بركات، والشاعر جميل داري، والروائي هيثم حسين، ومحمد عفيف الحسيني، ومنير دباغ ومحمد نور الحسيني. فهي مدينة مكتظة بالشعراء حتى قيل فيها ما قيل في السلمية: (كل شخصين في عامودا عبارة عن ثلاثة شعراء)، ومن المعروف عن السليمة أنها مسقط رأس الأديب الساخر "محمد الماغوط".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها