ماتَ الشعرُ.. فليغضبْ الشعراءُ

مازن الناصر

أتذكّرُ ذلك اليوم البعيد، عندما طرق بابي شابٌّ قد تبللت ثيابه كلها بالمطر، وكذلك جسده. دعوته إلى دخول بيتي، وما إن دخل البيت حتى بدأ يعتذر عن قدومه في هذا الوقت المتأخر من الليل، وفي هذا الجو شديد المطر والبرد.

أحضرتُ له كوباً من الشاي الساخن، وبعد أن شربه أخبرني أنه طالبٌ في السنة الرابعة في كلية الحقوق، وأنه جاء إليَّ بناءً على اقتراح صديقي خالد الذي سافر إلى فرنسا منذ سنتين، ثم أخذ يحدثني عن محبته للشعر، ورغبته في نظمه، لكنه - حسب قوله- إلى الآن لم يكتب بيتاً شعرياً واحداً.

استغربتُ في سرّي، وقلت لنفسي: ما هذه الحماقة؟! شابٌ يأتي إليَّ في هذا الوقت ليحدثني عن رغبته في كتابة الشعر! لا بد من أن يكون حديثه عن الشعر مجردَ تمهيدٍ لموضوعٍ آخر يريد أن يحدثني به. اصبر لتعرف ما وراء كلامه.

- جيد أن يهتم المرء بالشعر في هذا الزمن.

◅ لكنني لم أستطع أن أكتب بيتاً واحداً.

أردتُ أن أخبره أن قولَ الشعر يحتاجُ إلى الموهبة، وإن توفرت هذه الموهبة لا بد من صقلها وتنميتها بالثقافة والدربة، والدراية بفنِّ البلاغة، وضروب الشعر وموسيقاه، لكنني فكرتُ إن قلتُ له ذلك فسوف يظنُّ أنني أحبطه، وأنني أشكُّ في امتلاكه الموهبة. والحقُّ، أنني فعلاً كنتُ أشك بموهبته لكنني رأيتُ أنه ليس من اللباقة أن أجعله يشعر بذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كنتُ أعتقد أن حديثه عن الشعر ليس إلا تمهيداً لموضوعٍ آخر يريد أن يحدثني به، ولكي أتأكد من ذلك، قررت أن أساله عن سبب رغبته في الشعر، فإن شعرتُ بأن إجابته جديّة فهذا يعني أنه فعلاً يرغب في كتابة الشعر، وإن شعرتُ بأنه غير مهتم بالسؤال، فهذا يعني أنني سأعرف الموضوع المهم الذي دفعه لزيارتي في هذا الوقت:

- لِمَ ترغب في كتابة الشعر؟ ولِمَ تريد أن تصير شاعراً؟

◅ لأنني عاشقٌ؛ ولأنني أعيش أجمل أيام حياتي.

- وما علاقة الشعر بالعشق؟

◅  سامحك الله يا أستاذ، ألا تعرف أن كلَّ عاشقٍ لا بد أن يصير شاعراً، وأن كل شاعرٍ لا بد أنه كان عاشقاً؟

كان جاداً وواثقاً من كلامه، وبدا لي مفتخراً بعشقه، فأدركتُ أنّه جاء إليَّ من أجل موضوع الشعر، وليس من أجل موضوعٍ آخر. ماذا أفعل؟ الرجل في بيتي، وليس من الأدب أن أزعجه أو أجعله يغضب. لم يبقَ أمامي إلا أن آخذَ كلامه على محملِّ الجدِّ. أخبرته أن ما قاله بخصوص علاقة الشعر والعشق ليس دقيقاً، ودليلي على ذلك أن جريراً كان عفيفاً، ولم يعرف امرأة قط، ومع ذلك كان أغزل الناس شعراً، بخلاف الفرزدق الذي عُرِفَ بعلاقاته الكثيرة مع النساء، لكنه مع ذلك، لم يكتب بيتًا شعريًا واحدًا في الغزل.

لم يقتنع بما قلتُ، وربما شعرَ بأنني أريد أن أحبطه، ولاسيما أنني شعرتُ من خلال طريقة كلامه وتعبيرات وجهه؛ أنه مؤمنٌ إيمانًا مطلقًا بأنه شاعرٌ، وأن ما ينقصه فقط هو التعبير عن إيمانه بكتابة قصيدة أو بيت.

أدركتُ أن من العبث أن استمرَ في مناقشته، فطلبت منه معرفة الطريقة التي يمكنني أن أساعده بها. ارتبكَ، وتلعثم في كلامه، ثم ما لبثَ أن سيطرَ على نفسه، فأخبرني أنه يريد أن أكتبَ قصيدةً لكي يرسلها لحبيبته على أساس أنه هو من كتبها. اعتذرتُ منه، فخرج غاضباً.

صادفته بعد ثلاث سنوات في القصر العدلي، سألته عن أخباره، أجابني أنه بدأ يمارس مهنته كمحامٍ متدرب، ثم سألته: أما زلت مهتماً بالشعر، أجابني ساخراً:
◅ أي شعر يا أستاذ؟! مات الشعر، فليغضب الشعراء.  

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها