رامبو.. حينَما يلعَنُ الجَمال

مُقارَبة تحليليّة تفاعُليّة

د. مازن أكثم سليمان


يقولُ رامبو: "أجلستُ الجَمالَ على ركبتي، فألفيتُهُ مُرَّاً، فهجوتُهُ"...

تختلفُ التَّرجمات العربيّة بينَ (فهجوتُهُ، أو: فلعنتُهُ، أو: فشتمتُهُ)، لكنَّ الدَّلالةَ على اختلافِها النِّسبيّ وتعدُّد طبقاتِها انطلاقاً من المَعنى المُعجميّ الحرْفيّ، تُشيرُ وفقَ تتبُّع إحدى أهمّ آليّات (النَّقد الثَّقافيّ) إلى نسَقٍ آخَر (مُضمَر) غير النَّسَق (الظّاهريّ) المُعلَن.

إنَّ رامبو، هُنا، لا يهجو الجَمال كراهيةً ونُفوراً ونأياً بالنَّفس عنِ المُواجَهة، وإنْ كانتْ هذهِ الدَّلالات واضِحةً إلى حدٍّ بعيد، لكنَّ الأمر أعقدُ من ذلكَ بكثير (ورُبَّما أبسطُ من ذلكَ بكثير)..

هوَ يُمارِسُ نمَطاً من (الالتفات) الماكِر المُركَّب إذا طوَّرنا فهمَنا لمُصطلَح (الالتفات) في التُّراث النَّقديّ البلاغيّ العربيّ القديم..

أعني أنَّ رامبو (يلتفتُ) في هذهِ العبارة الشِّعريّة من دونِ أنْ يقومَ بتغييرٍ تقليديٍّ في مُستويات الخطاب عبرَ التَّلاعُبِ بحركيّةِ الأفعال والأزمنة، فيبثُّ الحُبَّ الجميلَ الفاجِعَ في هذا (التَّوقيع) الشِّعريّ بطريقِ الهجاء الكارِهِ والنّافِر..

إنَّهُ يُقدِّمُ إحدى أروع لقطات (المديح) في التّاريخ الشِّعريّ، وأقساها على الإطلاق..

رامبو يمدحُ من قلب الجُرح النّازِف المُبطَّن، لكنَّهُ يمدحُ على نحْوٍ زائِغٍ ومُلتبِسٍ وارتيابيّ بمَفهوم ريكور عنِ الارتياب نوعاً ما..

عظَمةُ هذا المديح لا تأتي، هُنا، عبرَ المُوارَبة الفاتِنة والذَّكيّة والعبقريّة، فحسبُ؛ إنَّما بإحضار مُستوى (الجَمال/ الغِياب) عبرَ إحضار مُستوى (الجَمال/ الحُضور) في الآنِ نفسِهِ؛ أي بصياغةٍ ثانية: ببسْطِ الهِجاءِ المُباشَرِ في الحاضِرِ، والمديحِ المُنزاحِ في الغائِبِ، في الوقتِ نفسِهِ.

هوَ نوعٌ من تعيين (الدَّهشة) و(الشَّغف) الحاضريْن، بـِ(تعيين/ لا تعيين) المَريرِ الغائِبِ غيرِ المُتعيِّنِ بطبيعةِ الحال، وبمُحاوَلةِ مُواكبَةِ هذا المَرير القاسي بواسِطةِ نمَطٍ من اللَّعبِ الحُرّ للعلامات حسبَ مَفهوم دريدا، فالمُطابَقات مُستحيلة، والأصلُ في لُغة الوجود ووجود اللُّغة هوَ: الاختلاف.

رامبو يمدحُ، إذن، بقِناع الهجاء، أو بقولٍ أدقّ: هوَ يمدحُ ويهجو في آنٍ معاً، خارِجاً من منطق الثُّنائيّات الميتافيزيقيّة، ومُخاطِباً الجميلَ بلُغةِ الجليلِ، حيثُ يُزيلُ المسافات بينَ هذا (الجميل)، وذاكَ (الجليل)، إذا استخدمنا مُصطلَحات علم الجَمال..

إنَّهُ يهجو ما يتعلَّقُ بهِ أيّما تعلُّقٍ، وما يذوبُ فيهِ أيَّما ذوبانٍ، وما يُلاحقُهُ بلا هَوادةٍ، لكنْ بلا جدوى..

إنَّهُ يهجو ما يظنُّ أنَّهُ قد تماهى بهِ حيناً من الأحيان، ثُمَّ لم يجدْ بينَ يديهِ سوى قبض السَّراب..

إنَّهُ يهجو خديعةَ حجرِ النَّردِ عندَ كُلِّ انتخابٍ لراهنٍ رقميٍّ لا يُفضِي إلاّ إلى انشغالٍ تقنيٍّ زائِفٍ بما لا يقبَلُ الإحصاءَ أبداً..

الجمالُ بلُغة الفنّ والإبداع وحتّى الواقع (على الأقلّ من وجهةِ نظَرِ مُعظَمِ المُبدعين في جميعِ الفُنون في التّاريخ التَّقليديّ لنظريّات الفكر والفنّ) هوَ مَحمولٌ ماهويٌّ مُضادّ لأعراضِ (جمع: عَرَض في المُصطلَحِ الفلسفيّ ومَفهومِهِ) الحياةِ المُتحوِّلةِ العابِرة، ورامبو إذ يهجوهُ بكراهيَّةٍ صافيةٍ؛ فإنَّهُ يهجوهُ بصفاءِ المَأخوذِ بمَدى توقِهِ إليهِ، وبنقاء المَكلومِ بشدَّةِ قسوتِهِ عليهِ، وبجَهالةِ المُتناسِي لتراجيديا هُروبِهِ منهُ: إنَّها باختصارٍ صدمةُ رامبو الجليلةُ الفادِحةُ أمامَ الحقيقةِ الجَماليَّةِ الخالِدة للحياة..

رامبو يهجو الفالتَ في (فَجْوةِ) العالَم، ويبكي غيرَ القابلِ للمَسكِ أو للتَّثبيتِ، ويلعنُ ما لا يُمكِنُ أنْ يتعيَّنَ، أو ما لا يُمكِنُ أنْ يتمَّ التَّحكُّمُ بهِ ذاتيّاً ومركزيّاً من قبل (الكوجيتو) إذا استحضَرنا، هُنا، ديكارت مثلاً، وغيرَهُ عبرَ تاريخ ميتافيزيقا الحُضور..

إنَّهُ وعي رامبو الأليم المَخذول بفكرتِهِ الشَّهيرة عنِ (الحُرِّيّة الحُرَّة)، كأنَّ لسانَ حالِهِ في هذا (الهجاء/ المديح) الحارّ والحارِق يقولُ: أينَ أنتِ أيَّتُها الحُرِّيَّةُ الحُرَّة؟ وأينَ أنتَ أيُّها الجَمالُ الرَّهيبُ الفتّاكُ الذي لا تكادُ تحضرُ حتّى تغيبَ؟!!

رامبو، في هذهِ العبارة الشِّعريّة الأخّاذة يختزلُ الوجودَ البشريَّ، ومأساةَ الكينونةِ، وجدَليّةَ الحياةِ والموتِ، والبَحثَ اللّاهثَ اليائِسَ عن مَعنىً قابلٍ للتَّطويعِ والتَّرويضِ. إنَّهُ ينسِفُ إلى غيرِ رجعةٍ وهْمَ (التَّملُّك) و(التَّعلُّق)، كأنَّهُ يستحضِرُ القاعدةَ الصُّوفيّةَ العربيّةَ الشَّهيرة: لا أشياءَ أملكُها لتملكَني..

رامبو عبرَ هذهِ المُكابَدة المُضنِية يغوصُ بضربةٍ واحدةٍ وحاسِمةٍ في التَّخلِّي الحُرّ..

هوَ لا يدينُ، لكنَّهُ لا يغفرُ أيضاً..

هوَ لا يرفضُ جَهاراً، ولا يطلبُ، كذلكَ، عدالةً أو قَصاصاً، لكنَّهُ، في الوقتِ نفسِهِ، لا يأتلِفُ، ولا يتكسَّبُ أمامَ استبدادِ الحُضور: حسبُهُ أنْ يستدعيَ حُظوةَ الزَّوالِ بأَنَفَةٍ تُديرُ ظَهرَها المُقوَّسَ الكريمَ لأيَّةِ سُلطةٍ راهِنةٍ أو مُتوقَّعةٍ في الحياة: وهُنا مهرُ التَّجنُّسِ المُستحيلِ بالغَرابةِ وانشقاقاتِها.

إنَّهُ، وعلى نحْوٍ طوعيٍّ، ورُبَّما عبرَ التَّجلبُبِ باستعارةٍ فالِتةٍ وغيرِ مَسؤولَةٍ، يتَّخِذُ (العُلُوَّ) بلُغةِ الفلسفة مطيَّةً ماكِرةً لتمويهِ الولَعِ القاتِلِ الفتّانِ، والظَّمَأِ الآسِرِ والأثيرِ، مُتكسِّراً رُويداً رُويداً على سَلالِمِ الدّالّ المُنفصِلِ أو غيرِ المُعترِفِ بدلالاتِهِ..

إنَّهُ يردُّ على (ليبيدو) فرويد، و(ليبيدو) يونغ، وليبيدو (إدلر)، بتفكيكِ هذا (اللِّيبيدو) بطريقةِ هايدغر في استباقيّة (الوجود _ للموت)، وبطريقةِ دولوز (الواقعيُّ هوَ الافتراضيُّ)، وبطريقةِ فوكو (انتشارُ/ انثناءُ الذّاتِ في الخارِجِ)..

إنَّهُ يستعيدُ مَجازيّاً دلالةَ (العود الأبديّ)، ويمنَحُ صراع إرادات القوى النِّيتشويّة مَعناها العدَميّ العميق كمُجاوَزة للزَّمن الخطِّيّ التّاريخيّ، وتكرارٍ دؤوبٍ وبيضويٍّ للاختلاف..

لكنْ ماذا لو علَّقنا الوجودَ جدَلاً، ووضَعنا الكينونةَ افتراضيّاً بينَ قوسيْن بطريقةِ فينومينولوجيا هُسِّرل، ثُمَّ أطلَقنا العنانَ للحركيّةِ الدَّوريَّةِ للفَهْمِ التَّأويليّ على خُطى غادامير؟

ماذا لو حرَّرنا (قُوَّةَ المُتخيَّل) لوهلةٍ عزلاءَ، وتصوَّرنا أنَّ (الحياةَ) كانتْ على غيرِ ما هيَ عليهِ؟ أو تفنَّنا في ابتكارٍ ذهنيٍّ لـِ(جَمالٍ) على غيرِ هذا النَّحْوِ السّائِلِ المُتحوِّل في العالَم؟

هل كانا (الحياةُ والجَمالُ) سيحتفظانِ بمَعناهُما (اللّا معنى) ليحمِلا كُلَّ هذا الألَم الغريب الجاذِب، وكُلّ تلكَ الشَّفافيّة الاغترابيّة الجارِحة، فيُشتِّتان ويُمزِّقان ويُفكِّكان جميعَ المركزيّات بينَ غِيابِ المديحِ الصّامتِ بما هوَ أُسُّ المَسكوتِ عنهُ، وحُضورِ صوتِ الهجاءِ بما هوَ فضيحةُ غيرِ المُفكَّر فيهِ..

لعلَّ نتوءاتِ السِّحرِ المَطوي في عبارةِ رامبو الشِّعريّة هذهِ تنتمي، جميعُها أو مُعظَمُها، بوفاءٍ نادِرٍ، واشتقاقاتٍ كيانيَّةٍ غيرِ مُعتادةٍ، إلى تعدُّديّةِ طبَقاتِ (الكشفِ) و(الخَلْقِ) في آنٍ معاً.

ويُظهِرُ هذا السِّياقُ، وبجَلاءٍ مُخيفٍ وبَوحٍ مُرعبٍ؛ أيَّ مَبلَغٍ يستطيعُ الشِّعرُ والإبداعُ أنْ يبلُغَاهُ، أحياناً، في مَخضِ الوجودِ البشريّ، وفي تفتيقِ المُخيِّلةِ بوصفِها فضاءً للقطيعةِ، وفي تكثيفِ أسئلةِ المصيرِ والحُبِّ والحُرِّيَّةِ، انطلاقاً من (لحظةِ/ آليّةِ) تشتيتِ الحواسّ عندَ رامبو بـِ(إجلاسِهِ الجَمالَ على رُكبتِهِ) جُلوساً مَحفوفاً بالمَخاطِرِ، أقلُّها: مُلامسةُ قعرِ الوجودِ المُتوهَّمِ عارياً وبلا قاعٍ في الوقتِ نفسِهِ، واصطيادُ (المَجهولِ) اصطياداً رخواً حزيناً عبثيّاً، ذلكَ أنَّهُ مهما كانَ مُمكِناً أو مُحتمَلاً أو قابِلاً للرُّؤيا (أقصدُ هذا المَجهولَ المُصطادَ)، سيُفضِي هوَ بدورِهِ، أيضاً، إلى زوالٍ جديدٍ ومَحْوٍ سَحيقٍ، قد يكونُ هوَ نفسُهُ _بحركيَّتِهِ هذهِ_ مُحاكاةً لجدَليّةِ (العيانيّ/ الكُلِّيّ)، تارِكاً، رُبَّما/ ونادراً، لبعضِ المَحظوظينَ في الأرضِ قُبْلةً سريعةً لا تكادُ تُومِضُ على بُطينِ القلب، حتّى تنطفئَ، غائِرةً في الغِيابِ أو في الغيبوبَةِ بمَعنىً أدقّ، حيثُ تُبعثِرُ الرُّؤيةُ (البصَريَّةُ/ القلبيَّةُ) الحدْسَ حُرَّاً طائِشاً ضعيفاً في كينونتِهِ الأصليّة والأصيلة..

فمَنْ سيصمدُ مُتغافِلاً ولَوْ إلى حينٍ، أو مَنْ سيقفُلُ عائِداً منَ الغُموضِ الرَّحبِ كي يشهدَ على المَتروكِ والمُهمَلِ بلا استجداءِ صِيانةٍ أو حِفْظٍ ولا حتَّى أدنى تفسيرٍ، مُردِّداً ذاتَ يومٍ لنْ يكونَ يومَنا أبداً: ها قد مرَرنا مُجازَفةً في هذا (العالَمِ/ الفخّ).. ها قد مرَرنا، فارفعوا لنا قُبَّعاتِ الفوضى العتيقةِ العصماء، واشربوا على أجسادِنا وأرواحِنا التي خبَتْ بكبرياءِ الأعشابِ المنسيَّةِ على قارِعَةِ الطَّريقِ أنخابَ الحُبّ والجَمال والحُرِّيّة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها