حوار مع القاص والروائي العراقي عائد خصباك

حاوره: ‬أحمد‭ ‬اللاوندي

ولد القاص والروائي عائد خصباك في مدينة بابل بالعراق، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة بغداد عام 1975، وعمل في التدريس الثانوي إلى عام 1981، ثم في الصحافة الأدبية من 1981 إلى 1991 في مجلات: الأقلام، الأديب المعاصر، والطليعة الأدبية. حصل على الماجستير من جامعة بغداد 1995، ونال درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من كلية الآداب جامعة صنعاء عام 1998، في 2003 سافر إلى ألمانيا وهو يقيم حالياً في مدينة كولونيا.
صدر له عدة مجموعات قصصية من بينها: (الموقعة)، (الكوميديا العدوانية)، (صباح الملائكة)، (الطائر والنهر)، (الغروب الأخير).. كما أصدر الكثير من الروايات منها: (القمر الصحراوي)، (الكبار والصغار)، (سوق هرج)، و(المقهى الإسباني). له في مجال الدراسات الأدبية: (دراسات في القصة والرواية العربية)، (الحبكة المنغَّمة) بالاشتراك مع الناقد العراقي د. علي جواد الطاهر، (الشعر في نهايات القرن العشرين)، (خصوصية الموضوع في الرواية اليمنية)، (مسالك المعاجم وممالك المصادر)، (باب السيف.. دراسة في قصة الستينيات العراقية).


 

أنت أحد أبناء جيل الستينيات الأدبي بالعراق، وبعض أفراد هذا الجيل ما زال اسمه موجوداً في الساحة الأدبية بقوة، ترى بأي شيء تميز هذا الجيل كي يكون رائداً؟

على صعيد الكتابة الإبداعية في: الشعر والرواية والقصة القصيرة، أنجز جيل الستينيات الكثير ثقافياً، فالمناخ السياسي آنذاك خلق واقعاً جديداً ليس في العراق فحسب، فالستينيات ظاهرة عربية بل هي قبل هذا ظاهرة عالمية، كان السائد فيها أدب التمرد والعبث واللاجدوى واللاانتماء. عندما نقول جيل الستينيات لا نعني أن المبدعين قد اجتمعوا تحت راية واحدة أو رؤية موحدة وهدف مشترك كما حصل سابقاً مع الجماعات أو التيارات الأدبية مثل: جماعة أبولو وجماعة الديوان، فما ذاك إلا إعلاناً عن هُوية المجتمعين تحت هذا الاسم، هم إذن ما كانوا جماعات التف كل منها حول من يمثلها أو من هو قدوة لها، لقد أخذ كل كاتب ستيني مساراً خاصاً تخطى به ما ساد قبله من مفاهيم.
فسركون بولص القاص العراقي غير محمد خضير، وعبد الرحمن الربيعي غير فاضل العزاوي، وفي مصر: جمال الغيطاني غير محمد البساطي، ويحيى الطاهر عبد الله غير إبراهيم أصلان، وبهاء طاهر غير صنع الله إبراهيم، فلكل واحد من هؤلاء ولكثيرين غيرهم شخصيته الأدبية المميزة وأسلوبه الخاص. لقد حرص كل منهم أن يكون اسمه راسخاً في عالم الكتابة الجديدة، ومع تعاقب السنوات وصارت الفترة الستينية زمنياً خلفهم، بعضهم لم يتوقف عن الكتابة كما حصل لدى أفراد الجماعات الأدبية بسبب زوال أسباب تجمعهم.. لهذا السبب، استمر سركون بولص في الكتابة واستمر أصلان والبساطي وخيري شلبي، وقد تصدروا المشهد الثقافي حتى رحيلهم.

هل قمت بالكتابة عن شخصيات تنتمي لهذا الجيل؟

نعم، في كتابي "باب السيف" الذي نشر في بغداد دراسة في قصص جيل الستينيات، توقفت عند كتاب من جيل سابق للستينيات فقد اعتبرتهم كتاباً ستينيين على ضوء إنجازهم الإبداعي الذي تخطوا فيه مفاهيم الكتابة السابقة والتي كانوا جزءاً منها، مثل: فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان من العراق، وأبو المعاطي أبو النجا ويوسف الشاروني ويوسف إدريس وإدوار الخراط من مصر. هناك مؤهلات معينة هي التي تدفع الكاتب لأن يستمر في الكتابة، وليكون في قائمة كل جيل يأتي بعده إن لم يكن في قمته.
في الشعر، هناك أسماء: أدونيس، محمد عفيفي مطر، حسب الشيخ جعفر، سعدي يوسف، وسركون بولص أيضاً.. هؤلاء كانوا دائماً في قلب العملية الإبداعية مع تعاقب السنين، وللعلم، رفض الكثير من كتاب الأدب الستيني حصره بحقبة تقاس بالعشرية هذه، ولهم الحق، كونها إعلاناً عن اتجاه أدبي محدد بالقواعد والأصول. إنني أرى في جيل الستينيات بجمالياته المختلفة والمتباينة، حركة في تحول الوعي الفكري إلى ما هو مغاير للسابق، وهو صراع يتعلق بمحتوى الكتابة وآلياتها.

"الموقعة" مجموعتك القصصية الأولى كان لها وقع قوي في الساحة الأدبية الستينية، وأشاد بها عدد كبير من النقاد والأدباء أمثال: محمد الجزائري الذي كتب عنها دراسة مطولة في مجلة "الآداب" البيروتية واعتبرها الممثل الحقيقي للجيل الستيني، غالي شكري كتب عنها شيئاً من هذا أيضاً.. حدثنا عن رؤيتك في تلك الجزئية؟

ربطت كتاب ذاك الجيل علاقات كانت خاضعة للتأثر والتأثير، وكان بعضهم يقرأ للآخر ويعرف بدقة بماذا يختلف عنه، وقد وصل الأمر أن كتب بعضهم عن كتابات البعض الآخر، لقد كتبت عن "حدوة حصان" مجموعة قصص بثينة الناصري وعن غيرها.. وأنا، لم يتأخر النقد عن مواكبة أعمالي في تلك الفترة ولا في الفترات اللاحقة. وقد شكلت كتابة المبدعين بعضهم عن البعض الآخر ربما ظاهرة استمرت لفترة طويلة. ففي مصر، أصدر أدور الخراط كتابه "الحساسية الجديدة"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرها عن كتاب جدد، وكان لها دورها الفاعل.

عالم القصة القصيرة له مواصفات خاصة، لكن البعض يعطي أولوية للرواية باعتبارها أعلى منزلة من القص، هل تتفق مع هذا الرأي؟

بسبب قدرة الرواية على اقتحام أكبر عدد من الموضوعات والأفكار التي لا يتسع لها صدر القصة القصيرة، كان لها هذا الحضور الطاغي في المشهد الأدبي، والأهم من هذا كله، تعدد شخصياتها ومعالجتها للزمن بطريقة مغايرة، بسبب هذا أو غيره، أصبح لها قراء وهذه مسألة مهمة، الرواية هي مشروع كتابة من نوع خاص، حيث تعتمد على الخبرة الشخصية لا شك، لكن، هناك أشياء أخرى ربما هي بقوة تلك الخبرة، مثل: الاعتماد على الوثائق وحتى إعلانات الجرائد، ولنتذكر هنا ما فعله صنع الله إبراهيم في رواياته، وجمال الغيطاني في استعانته بالأحداث التاريخية.

على مدى سنوات طويلة استطعتَ أن تكون لك بصمتك في الكتابة، وجعلت لنفسك مساراً خاصاً بك، ما العوامل التي ساعدتك على تحقيق ذلك؟

سأضرب لك مثلاً ربما يكون خير جواب على سؤالك، قرأت سابقاً أن يوسف إدريس قدم إحدى قصصه إلى طه حسين كي يقرأها ويعطيه رأيه فيها، فيما بعد عاد يوسف إدريس فقال له طه حسين: كم كتبت من قصص قبل هذه؟ أجابه: الكثير، مئات لو أردت أن أحصيها. قال له طه حسين: مزقها جميعاً وابدأ من جديد، اكتب دون أن تقع تحت تأثير كاتب ما. بالفعل أخذ برأيه فكان أن أصبح يوسف إدريس كاتب رواية الحرام والنداهة والبيضاء وغير ذلك. وحكاية يحيى الطاهر عبد الله يعرفها البعض فعندما ذهب إلى يوسف إدريس حاملاً قصته "محبوب الشمس"، وكان يوسف يومها المحرر الأدبي لمجلة الكاتب المصرية، لم يقل له يوسف إدريس كما قال له طه حسين سابقاً: كم كتبت قبلها من قصص؟ بل قال: من المؤكد أنك مزقت قبل هذه القصة الكثير من القصص. وكان أن نشرت هذه القصة في مجلة "الكاتب"، وعندما نشر يحيى الطاهر عبد الله قصته اللاحقة "الثلاث ورقات" في مجلة "المجلة" كان يحيى قد أرسى وبقوة بصمته الخاصة في الكتابة القصصية.
أما أنا، فبعد عدة قصص قصيرة نشرتها في مجلة "الكلمة" وكانت يومها الممثل الحقيقي لأدب جيل الستينيات في العراق، طلب مني فؤاد التكرلي قصة لينشرها في مجلة "الأديب المعاصر" وكان واحداً من محرري الأدب فيها، وقد نشرت في العدد الأول، وكان قد أدلى يومها بتصريح أن طريقتي في الكتابة كانت دافعه في هذا الطلب. كما طلب مني غالي شكري قصة لينشرها في العدد الأول من مجلة "الشرارة" في بيروت، وكان رئيساً لتحريرها ونشرت القصة بعنوان: "الشجرة".

كيف ترى المشهد الروائي العربي حالياً؟

يتميز بالكمّ والغزارة عما سبقه، وليس بالنوع والمهارة، قبل بداية القرن الحالي بحثت الرواية العربية عما هو خاص، والروائي بحث عما يميزه عن الروائي الآخر، فؤاد التكرلي غير إدوار الخراط، غالب هلسا غير حنا مينة، بهاء طاهر غير عبد الرحمن الربيعي وعبد الرحمن منيف.. لا أعتقد أن مثل هذا الأمر بات موجوداً إلا القليل، من المؤسف أن تجد أساليب الكثير من الكتاب يسودها الجهل باللغة، فهي لم تعد عندهم ركناً أساسياً في الكتابة، أو هم لا يدركون أن اللغة ركن من أركان الإبداع. هذا الكم لم نألفه سابقاً في عموم العالم العربي، فما كان يصدر سابقاً في عشرة أعوام ربما يصدر الآن في عام واحد، أملي من هذا الكثير أن يفرز النوع، فكم من هذه الروايات سيكون خارج التكرار أو التقليد؟ بلا أدنى شك هناك من ينظر لمشروعه الكتابي بمنظار مختلف بعيداً عن ما هو سلبي.

مَنْ مِنَ الكتاب والأدباء تحرص على أن تقرأ له؟

كالفينو ولوكليزو وكتاب أمريكا اللاتينية بعد مرحلة ماركيز ويوسا وإيزابيل الليندي، أقرأ كثيراً لخيري شلبي وإبراهيم عبد المجيد وسعيد الكفراوي وعبد الخالق الركابي.

على مَنْ تعرض عملك بعد الانتهاء من كتابته؟

ما تعودت أن أعرض كتاباتي على أحد، بسبب خشيتي أن أسمع من الآخر رأياً يجعلني أعيد النظر في كتابة العمل ثانية، وأنا أعرف أنني لا أعيد النظر إطلاقاً في عمل أنجزته.. حصل مرة عندما طلبت رأي أحد الأصدقاء في مخطوطة رواية اسمها "العشاق"، وكنت قد نشرت منها فصلاً في مجلة "الأقلام" العراقية، أيامها، كنت أعمل محرراً فيها، فكان أن طلب مني ذلك الصديق إعادة النظر في فصول معينة، إلى اليوم، لم أعد النظر في تلك الفصول، وقد مر على ذلك ربع قرن. لكني حريص أن أسمع أو أقرأ الآراء بعد النشر.

أنت مرتبط ببلدك العراق، ومن يقرأ لك يشعر أنك ما تزال تقيم فيه رغم إقامتك الطويلة في ألمانيا، أليس ثمة فرق بين الكتابة داخل الوطن والكتابة عن الوطن في مكان آخر بعيداً عنه؟

قبل فترة، قرأت لأحد الكتاب العرب ممن يقيمون في الغرب رأياً ادعى فيه أنه ضحية إقامته الجبرية في بلاد غير بلاده، وقد تناسى أن هناك الملايين وهو معهم قد شردوا بسبب ما يجري في بلادهم من أوضاع مأساوية، فهو لم يعان في الغرب ككاتب أكثر مما عانى في بلاده.. هناك على صعيد هذا الموضوع الكثير من الآراء التي فيها نكران لجميل الغرب عليه وعلى غيره.
بالنسبة لي، ما شعرت يوماً أثناء الكتابة أني خارج بلدي، وعندما ينظر المرء إلى أعمال من اضطروا للهجرة خارج أوطانهم لهذا السبب، أو ذاك، يفهم كلامي تماماً، من أولئك: الروائي الجيكي كونديرا الذي اضطر لأسباب سياسية الابتعاد عن بلاده والإقامة إلى اليوم في باريس، وهمينغواي وأمين معلوف والطيب صالح، ولا ننسى كتابات عبد الرحمن منيف الذي لولا ابتعاده عن بلده رغم أنه لم يقم في الغرب لما استطاع أن يكتب "مدن الملح". كذلك، إبراهيم الكوني، الذي يقيم في سويسرا، قد ضمت أعماله أحداثاً وتجارب، أشك، أنه يستطيع كتابتها وهو في وطنه، لقد زخرت أعمال هؤلاء وغيرهم بتفاصيل ورؤى ربما لا يقدر على كتابتها بالتأكيد من لم يغادروا أوطانهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها