عولمةُ التعليم.. الخطر المحدق بالمنظومة التربوية

سعيد سهمي

الواقع أن التعليم في العالم هو مفتاح التغيير على مستوى البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أنه -ولا شك- هو منطلق التغيير على المستوى الثقافي والفكري، وعلى مستوى بناء القيم؛ فالتعليم من خلال موارده ومداخله المتعددة يمكن أن يكون بوابة الإصلاح، كما يمكن أن يكون وسيلة للتدمير أيضاً، ومن بين المشكلات المحدقة بالتعليم في الدول النامية، والدول العربية، على وجه الخصوص، باعتبار ثقافتنا الشرقية هو عولمة التعليم من خلال نشر الثقافة العالمية عبر التعليم وتدمير الخصوصيات الثقافية، فالعولمة التي ترمي إلى جعل العالم قرية صغيرة، هي في الواقع تستهدف هدم الخصوصيات الثقافية والقضاء على الأقليات الثقافية، وجعل العالم يسير وفقاً لمنطق الإمبريالية الأمريكية، بشكل خاص، والثقافة الغربية بشكل عام، ويعتبر التعليم –طبعاً- من أهم الوسائل التي يمكن أن تساهم في هذا التحول الذي نعيش اليوم بعض نتائجه.



 

1. مظاهر التبعية

العولمة أم الأمركة

العولمة (mondialisation) تحمل في طياتها معنىً قصدياً خفياً هو أمركة (américanisation) العالم وتغريبه، من خلال مداخل متعددة تهدف بالأساس إلى تعميم الثقافة الوحيدة (الثقافة الأمريكية والإنجليزية) على العالم، هنا، تشمل، بطبيعة الحال، اللغة، والدين، والعادات، والسلوك البشري، والقيم، وغيرها؛ ومن ثمة فإن الحديث عن عولمة التعليم يجرنا إلى الحديث عن التحول الساري على المنظومة الثقافية ككل، من خلال مجالاتها المتعددة، طالما أن التعليم مدخل للتغيير ثقافياً وفكرياً وعلمياً وقيمياً.

إن الاهتمام بالنظام التعليمي في الدول العربية، ومنها المغرب من طرف الغرب الذي يظهر تدخله في كل مجالات وخصوصيات الـدول النامية، هو اهتمام يأتي في سياق توصيات صندوق النقد الدولي، الذي يريد السيطرة على العالم من خلال بوابة التعليم. إن صندوق النقد الدولي لا يهتم بالتعليم من أجل مصلحة الدول العربية التي تعتمد في جل سياساتها التربوية على الغرب؛ وإنما من أجل فرض نظام تعليمي خاضع لفلسفة أمريكا وثقافتها، ومساير للعقل الغربي الذي يرفض المخالف والنقيض، ويحارب الثقافات الصغرى التي طالما ناضل من أجلها إدوارد سعيد، ومن ثمة فإن الوعي بهذه المسألة يحتاج إلى أن يعمم على جميع الفاعلين في الحقل التربوي بالبلدان العربية، قصد تحصين هؤلاء الفاعلين، وعبرهم تحصين المتعلم العربي الذي يعتبر رجل الغد، أو امرأة الغد، ضد المد العولمي الذي يتسرب عبر السياسة التربوية، وعبر البيداغوجيات وعبر القيم، ثم عبر اللغة كوسيلة للتعليم.

تتعدد مداخل السيطرة التي نتحدث عنها، غير أنه يمكن أن نحصرها من خلال مظاهر ثلاثة أساسية:

نظام التدريس

إن نظام التعليم في العالم العربي تابع للنظام التعليمي الغربي على مستوى الإطار العام للسياسة التعليمية، من حيث الأهداف والغايات التربوية، فضلاً عن نظام البنيات المادية وطبيعة المنشآت التعليمية من مدارسَ وجامعاتٍ ومناهج وبرامج، بحيث يخضع هذا النظام في فلسفته التربوية للعقلية الغربية المتحكمة.

المناهج والبرامج التعليمية

المناهج والبرامج بدورها خاضعة لهذا التغريب سواء على مستوى المقررات التي يتم تدريسها، أو من خلال البرامج الخاصة بالمواد الدراسية لكل شعبة أو تخصص، وما يتخلل كل مادة من دروس، بحيث إنها في الأصل نسخ طبق الأصل للمقررات والمناهج الأجنبية. غير أن هذا الخضوع للنظام الغربي يختلف، من مادة إلى أخرى، ومن هنا أمكن أن نتحدث عن المحتوى الدراسي؛ فالدروس في المدرسة العربية تقوم على إعادة إنتاج القيم، وعلى إعادة إنتاج الطبقية، وعلى إعادة إنتاج السلطة الإمبريالية الغربية من خلال المدرسة، ومن خلال تكريس الطبقية والتراتبية وخدمة الثقافة الأجنبية، انطلاقاً من تزيين الثقافة الغربية في متخيل المتعلم، وذلك ما يتعارض والهدف والغاية من التعليم، التي ينبغي أن يكون هدفها هو تكوين متعلم قادر على الحفاظ على هويته وثقافته، وأن يكون لديه الوعي الكافي الذي يحصنه ضد موجات التغريب، من خلال جعله يفتخر بثقافته وتراثه وهويته الخاصة.

حين ننظر إلى المقررات والبرامج المدرسية في عالمنا العربي نجدها ترجمة حرفية للمقررات الأجنبية، حتى في المقررات التي يفترض أن تخضع للثقافة العربية باعتبار موادها الدراسية حاملة للقيم، مثل التاريخ والجغرافية واللغة العربية، بحيث تمرر القيم الغربية في الكتب المدرسية، في حين أننا حين نعود إلى المقررات في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا، لا نجد فيها ذكراً للعربي ولا لتاريخه أو ثقافته أو قيمه.

المناهج المستوردة

المناهج التعليمية والبيداغوجيات والديداكتيك أو (علم تدريس)، المواد التعليمية نجدها أيضاً مستوردة من الغرب، فكل ما يرتبط بعلم التدريس نجد أن النظام التعليمي العربي يستورد مناهج التدريس وعلوم التدريس من الغرب، ويتلون بتلون أشكال الديداكتيك المعتمدة في الغرب، فنجد في المغرب، مثلاً، أن البيداغوجيا كلما تغيرت في فرنسا تتغير في المغرب، بل إنه غالباً ما لا تكون مواكبة للتغيير في زمنه، لضعف القدرة على التغيير في العقلية العربية عموماً؛ وإنما كل ما تغير المنهاج أو البيداغوجيا في فرنسا، كل ما انتقل إلى المغرب بعد عشر سنوات على الأقل من إعلان فشله في فرنسا.

إن استيراد البيداغوجيا مثل استيراد التكنولوجيا لا ينطلق من ثقافتنا العربية الإسلامية؛ وإنما يضرب بجذوره في الثقافة الغربية، مع ما تحمله من نِيات العولمة والامبريالية، وهو ما يجعل هذه التبعية تحول دون قيام نظام تعليمي عربي، كما أن الأسس التربوية التي تنبع من بيداغوجيات مستوردة لا يمكن التعويل عليها في إصلاح المتعلم العربي.

تهميش اللغة العربية في تدريس العلوم والتقنيات

إن اللغة تشكل أساس الهُوية؛ ومن ثمة فإن انفصال العربي عن لغته لفائدة لغات أخرى أجنبية، لا يؤثر على التحصيل الدراسي بالنسبة للطالب فحسب؛ وإنما يؤثر بشكل سلبي كذلك على المنظومة التعليمية عموماً، حيث نلاحظ بشكل ملموس أن اللغات الأجنبية هي المهيمنة في النظام التعليمي العربي، ففي المغرب مثلاً، -وهو أمر ينطبق على دول المغرب العربي- نجد أن الفرنسية هي المهيمنة سواء كلغة تدرس، أو كلغة تدريس للعلوم في المدرسة والجامعة؛ فما تزال هذه الدول تلهث وراء الفرنسية، رغم أنها لغة غير قادرة على مواكبة البحث العلمي، كما أن المعاملات في العربية مثلاً نجدها في كثير من الشعب أقل قيمة من معاملات اللغتين الفرنسية والإنجليزية، كما هو الحال لنظام التدريس المغربي، وذلك ما يجعل الطالب العربي ينفر من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية في التعليم المدرسي، والشيء نفسه نجده في الجامعة حيث يعرض أغلب الطلبة عن اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، التي قد تضمن له مستقبلاً مهنياً محترماً في دول عربية لا تعطي أهمية للغتها وثقافتها وهُويتها.

إن السياسة التربوية على مستوى اللغة في العلوم تجعل من الصعب جداً أن نعمل على تطوير لغتنا من جهة؛ لأن اللغة تتطور من خلال توظيفها في الآداب والإدارة والعلوم والاقتصاد والتقنية، ثم لا يمكننا بذلك تطوير العلوم العربية أو استيعاب التقدم التكنولوجي والعلمي الحديث، بله تطويره؛ لأنه لا يمكننا استيعاب مستجدات العلوم والتكنولوجيا أو تطويرها من خارج اللغة الأم؛ بل إن الاهتمام كل الاهتمام، في المدرسة العربية، وفي الجامعة العربية ينصب على اللغات الأجنبية، وهو ما يجعلنا في أغلب الأحيان لا نستفيد من ثقافتنا ولغتنا وإنما ندمرها تدميراً.

إن اللغة العربية تعاني كما يعاني العرب من التهميش، لاسيما في الجامعة حين يعرض الطلبة بالكامل عنها، ويجدون أمامهم الفرنسية والانجليزية باعتبار أنهما لُغتا العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، وهذا يضرب في العمق اللغة العربية ويجعلها على الهامش؛ لأن الدولة عوض أن تطور العربية من خلال تطوير علوم العربية والاهتمام بالترجمة، وحوسبة العربية، نجدها تخدم اللغات الأجنبية الأخرى التي لها من يحميها ومن يحضنها ويحفظها.
 

2. ما العمل لحماية لغتنا وهُويتنا من التغرب والعولمة؟

إذكاء الروح القومية

إن القومية لا تعني أبداً التعصب الديني أو التطرف، ولا هي ترويج للإرهاب كما يدعي أعداء الإسلام الذين يربطون بين الدفاع عن القومية العربية والهوية الدينية، وبين الإرهاب، بل إنها تعني الرفع من الروح الوطنية للمتعلم في التعليم، ومن الارتباط القومي باعتبار انتمائه العربي على المستوى الإقليمي، من خلال الاهتمام بثقافته وعناصر هُويته، والتي من ضمنها: اللغة والتراث والتاريخ المشترك، وهو ما يجعله يبني استقلاليته ويدافع عن قيمه، وما يجعل كذلك من المتعلم الذي يعتبر رجل الغد معتزاً بتراثه وقيمه ولغته العربية، كما أننا من خلال الاهتمام بالقومية التي تمثلها اللغة والدين والثقافة والتراث والتاريخ المشترك نجعل منها هدفنا؛ فإننا في قادم الأيام سنكون قد حققنا نوعاً من الاستقلالية على مستوى الثقافة ونجحنا في تحقيق الاستقلالية عن العولمة والتغريب، حين يكون بإمكاننا تعميم تدريس العلوم الحقة بالعربية، وتدريس الطب بالعربية، وحين تصبح هذه اللغة هي لغة البحث العلمي في الدراسات العليا وفي سلك الدكتوراه.

الاستثمار الجيد للرقمنة

لقد استطاعت الرقمية أن تدفع بالتعليم في عدد من دول العالم إلى التطور والتجديد (ماليزيا، سنغافورة، قطر، الإمارات العربية المتحدة، السعودية...)، فما يميز الرقمية كونها عملت على إعطاء نفس جديد للمدرسة من خلال تطوير النموذج البيداغوجي، وتيسير تدريسية المواد، وخلق نوع من الحافزية بالنسبة للمتعلمين للإقبال على التعلم، ويمكن عبرها أن يتم تشجيع بناء القيم ومنها القيم الوطنية، والقيم القومية، والتعريف بالثقافة والتراث العربيين، في عصر تيسر معه التوصل إلى المعلومة والحصول على مختلف مصادر العربية، كما يمكن من خلال ذلك تشجيع تدريس العربية من خلال حوسبتها وتيسير تعلمها والانفتاح على الترجمة لتقريب المفاهيم والتعلمات التي كانت تدرس بلغات أجنبية لتصبح معربة.

الانفتاح على الثقافات الأخرى غير الغربية

يمكن للعرب -للتقدم- أن ينفتحوا على ثقافات أخرى غير معادية للعرب، منها الثقافة الصينية التي تجعل الباحثين في المستقبليات مثل الباحث المغربي المهدي المنجرة يرون أن اللغة الصينية هي لغة المستقبل؛ والثقافة اليابانية التي يمكن من خلالها معرفة أسباب التقدم التي حققت لليابان التقدم والازدهار انطلاقاً من مبدأ القومية، بحيث يمكن أن يعتبر الياباني من أكثر شعوب العالم احتراماً لقيمه الثقافية والأخلاقية، فضلاً عن الانفتاح على ثقافات شعوب أخرى أغفلنا التعرف عليها والاستفادة من رصيدها المعرفي والثقافي المهم (إفريقيا، أوروبا الشرقية...).
 

::  استنتاج  ::

إن العولمة سيف ذو حدين؛ فهي في الأساس لنشر الوعي بالقيم العالمية، وجعل التواصل والتفاعل بين مختلف الثقافات والأجناس، عبر مداخل مثل الإعلام والرقمية، غير أن معضلتها الأساس التي ينبغي مواجهتها، تتمظهر في محاولة نشر النموذج الأمريكي، باعتباره النموذج الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي الوحيد الممكن، في إقصاء تام لكل ثقافات العالم؛ وإن العرب لن يكتب لهم النصر لتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي، وتحقيق التنمية إلا من خلال التخلص من هذه السيطرة الغربية، ومن هذه التبعية العمياء للغرب، وذلك عبر إعادة الاهتمام بتراثهم وثقافتهم وهويتهم اللغوية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

سعيد الرغاي

في الحقيقة مقال أكثر من رائع، ومتميز الذي يعالج قضية مهمة متعلقة بعولمة التعليم الذي يحدق بمنظومتنا التعليمية من خلال هدم القيم الروحية والثقافية... وغيرها من القيم التي تنبني عليها الهوية العربية بشكل عام والمغربي بشكل خاص، أحييك أستاذنا على هذا المقال النافع .

11/12/2021 7:21:00 PM

1