نقدُ الاستعباد في علاقة المحكوم بحاكم البلاد

تحليل نص في العبودية

عبد الصمد زهور

 

نَرومُ في هذا العملِ إلقاءَ الضَّوءِ عَلى مَسألةِ علاقةِ الحَاكم بالمحكوم، من خلالِ نصٍّ مختارٍ من كِتاب "العقد الاجتماعي، أو مبادئ القانون السياسي"، للفيلسوف والمفكر والتربوي الحديث، جان جاك روسو، وفيما يلي نص الفيلسوف الَّذي وسمه بـ"في العبودية"، متبوعاً بقراءتنا التَّحليلية الَّتي تُحاول أخذَ مُختلف المُتداخلات في تَشكيلِ النَّصِ وَفِكرِ صَاحبهِ بعينِ الاعتبار.




النُّص موضوع القراءة التحليلية: في العبودية

"وإذ ليس لإنسانُ، أيا كان هذا الإنسان، من سلطة طبيعية على شبيهه، وإذ القُوة لا تولِّدُ أي حقٍّ كانَ، ظلت الاتفاقياتُ هي الأسُّ لِكُلِّ سُلطةٍ مشروعةٍ بينَ البشر. فإذا جازَ لشخصٍ من الخَواص، على نحوِ ما جاء في أقوال غروسيوس، أن يتنازلَ عن حريته وأن يجعلَ نفسه عبداً لسيدٍ منَ الأسيادِ، فَلِم لا يجوزُ لِشعبٍ بأكْملهِ أن يتنازلَ عن حُريَّتِهِ فَيُصبح رَعيةَ ملكٍ من الملوك؟ هاهنا منَ الكَلامِ المُبهم ما يحتاج إلى إيضاحٍ، ولكن لنقتصر على كلمة "تنازل". أن يتنازلَ المرءُ هو أن يهبَ أو أن يبيعَ، والحالُ، أنَّ إنساناً إذ يجعلُ من نفسه عبداً لشخص آخر؛ فإنَّه لا يهبُ نفسه، وإنَّما يبيعُها بَيعاً لأجل عيشه على الأقل. ولكن لماذا يبيعُ الشَّعبُ نفسه؟ ما أبعد المَلك من أن يُزودَ الرَّعايا بأقواتِهم، فهو لا يحصل قوته إلا منهم، والحال أنَّ المَلِك في رأي رابليه Rabelais لا يعيشُ على القليل. أيعني ذلك أنَّ الرَّعايا يَهبون أشخاصهم شرط أن تُؤخذ منهم أموالهم أيضاً؟ إني لا أرى أنه قَدْ بَقِيَّ لَديهم شَيئاً حتى يحتفظوا به.

لِقائلٍ أنْ يَقُولَ إنَّ المُستبد يضمنُ لرعياه الرَّاحةَ. فليكن ذلك كذلك، ولكن ماذا سيكسبونُ، والحال أنَّ الحروب الَّتي يجرها عليهم طموحه الشره بلا حد، وأن مظالم وزرائه تُنزل بهم من الخراب أكثرَ مما تفعله بهم الشقاقات؟ وماذا يكسبون والحال أنَّ تلك الراحة هي بعينها ضرب من ضروب بؤسهم؟ والمرءُ يحيا على راحته في غياهب السُّجون أيضاً، فهل ذلك كافٍ ليرى نفسه في طيب العيشِ؟ كذا كانَ اليونانيونَ المحبوسون في غار سيكلوب يعيشون على راحتهم وهم ينتظرون دورهم الذي سوف يفترسون.

فأما من قالَ بأنه من شأنِ أيِّ إنسانٍ أن يهبَ نَفسَه دُونَ مُقابلٍ، فَقد قالَ كَلاماً عبثاً وغيرَ قابلٍ لِلتَّصورِ. فإنَّ فِعلاً كهذا غيرَ مشروع وباطل لمجرد صدوره من شخصٍ خرج عن صوابه. وأمَّا من قالَ الكلام نفسه عن شعبٍ بأكملهِ فكمن افترضَ وجودَ شعبٍ من المجانين؛ والجنون لا يسوغ الحق.

ومتى أمكنَ لأي فردٍ من البشر أن يتنازلَ عن شخصه بنفسه، فإنه لا يمكنه أن يتنازل عن أولاده؛ فهم يولدون بشراً أحراراً؛ وحريتهم إنما هي لهم، وليس لأحد سواهم حق التَّصرف فيها. ويستطيعُ أبوهم، قبل أن يبلغوا سن الرشد، أن يضع بالوكالة عنهم شروطاً لأجل بقائهم، ولأجل طيب عيشهم، ولكنه لا يستطيع أن يتنازلَ عنهم بلا رجعة ولا شرط؛ ذلك أن هبة كهذه مضادة لغايات الطبيعة، وتجاوز حقوق الأبوة؛ ولأجل أن تكونَ حكومةً تحكميةً ما مشروعةً، لا بد أن يكون الشَّعبُ في كُلِّ جيلٍ هو الفيصلُ في قبولها أو رفضها: ولكن هذه الحكومة لن تكون إذ ذاك تحكمية.

عدولُ المرءِ عن حريته يعني عدوله عن صفة الإنسان التي له وعن حقوق الإنسانية، بل وحتى عن واجباته. وكُلُّ من يعدل عن كل شيء فليس هناك البتة من تعويض ممكن له. إنَّ عدولاً كهذا غير ملائمٍ لطبيعةِ الإنسان؛ فإنَّ تعطيلَ الحُرية في إرادة الإنسان هو تعطيل لكل أخلاقية في أعماله. وأخيراً، باطلةٌ ومتناقضةٌ هي الاتفاقية التي تشترط سلطةً مطلقةً من جهةٍ، وطاعةً لا قيود لها من جهةٍ أُخرى. أفليس واضحاً أننا لسنا ملتزمين بشيء تجاه من يحق لنا أن نلزمه بكلِّ شيء؟ أولا يكفي هذا الشرط وحده، وهو الَّذي لا مُكافئ له، لينجر عنه بطلان الفعل؟ فأي حق للعبد الَّذي هو عبدي ويكون حقا علي أنا، والحال أن كُلّ ما للعبد إنما هو في حوزتي أنا، وأنه لما كان حقه هو حقي، فهذا الحق الذي هو لي أنا، ويكون علي أنا نفسي، هو من قبيل كلام ليس له أي معنى". {جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة العزيز لبيب.}
 

السياق الخارجي للنص

لَيس منَ اليسير مُواجهةُ نصٍّ مُقتطفٍ من عملٍ رصين كامل لفيلسوف مرموق، دون ربط هذه المُواجهة التَّحليلية بالسياقات المختلفة الَّتي نرى أنَّها تداخلت في تشكيل النَّص؛ سياسيةً، اجتماعيةً، دينيةً وفكريةً. رغم أنَّه يمكنُ إرجاعُ مختلف هذه السياقات إلى سياق واحدٍ وهو السِّياقُ السِّياسي، باعتباره مُؤثراً فيها ومولداً لها بشكلٍ مباشر، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza في منجزه الهام الموسوم بـ"رسالة في اللاَّهوت والسِّياسة"، عندما فسر التميز الذي يحتفي به اليهود (قضية شعب الله المختار)، بكونه ليس تميزاً عرقياً أو دموياً أو أي شيء من هذا القبيل، وإنما هو تميزٌ سياسي وتنظيمي تَطلَّبَ السِّياقُ ذكره من طرف موسى لهذا الشَّعب؛ لأن من شأن هذه الثنايا أن تقود عقولهم الساذجة إلى التصديق والإيمان بنبوة وما ينبئ به موسى1.

 لابد إذاً من ربطِ النَّصِ بسياقه، بالمعنى العام للسياق، وهو الرَّبطُ الَّذي سنحاولُ أن نبرز بعضاً من معالمه، خصوصاً ما يفيدنا بشكلٍ مباشرٍ في تحليل النَّص. ومن بين ما يمكن أن يفيدنا وبدرجة أولى مؤلف النَّص نفسه، جان جاك روسو، مولود جنيف سنة 1712، من أب ساعاتي وأم فَقدت الحياة بعد ولادته.

عوده أبوه مند طفولته على قراءة الروايات والكُتب الدسمة، قبل أن يغادر فرنسا، ليُبعث روسو من قِبل خاله لتلقي تربية دينية على يد القس البروتستانتي لامبرسييه، وقد تعرض للعقاب من طرف أخته بسبب ميولاته الشَّهوانية، مما جعل صاحبنا يكره التربية الدينية، فهي تعاقب على ما لا ذنب لنا فيه؛ نابع من الطبيعة الإنسانية. بعد ذلك انتقل به خالُه إلى موثق للعقود ليشتغلَ عنده، ومنه إلى صانع ينقش المعادن؛ وهناك يقول روسو في "اعترافاته" أنه تعلم السرقة وحياة القساوة.

اشتد في هذه الفترة أيضاً إقبال روسو على القراءة قبل أن يهرب ليستقر خارج جنيف عند سيدة كاثوليكية هي مادام دي فاران، وقد اعتنق الكاثوليكية على يدها. ليعيشَ بعد ذلك مترحلاً يزورها بين الفينة والأخرى، ليستفيد من تربيتها الموسيقية التي كان قد بدأها لديها2.

التقي روسو عام 1743 بالفيلسوف ديدرو Denis Diderot. وأصدر مقالاً في "الموسيقى الحديثة"، وعملَ كاتباً لدى سفير فرنسا بالبندقية، كما استمر في نشر مقالاته حول الموسيقى. إلى أن كتب عام 1755 مقالاً في "أصول المساواة بين النَّاسِ"، قبل أن يخاصم ديدرو.

أصدر عام 1761 كتابه المهم "العقد الاجتماعي Contrat social"، الذي اقتطف منه هذا النص الذي سنحاول تحليله من خلال هذه الورقة. وأصدر بعده كتابه الآخر "إميل في التربية"، وهو الكتاب الذي سيُحرق بأمر من البرلمان، بالإضافة إلى كتابه العقد الاجتماعي. بعدها سافرَ روسو إلى إنجلترا والتقى هناك بدافيد هيوم David Hume قبل أن يتوفى سنة 17783.

يتضحُ أنَّ صاحبنا/ صاحب النص الذي سنحاول تحليله في هذه الورقة، على معرفة قويمة بالدين المسيحي ومذهبيه الكبيرين الكاثوليكي والبروتستانتي، وهي المعرفة التي لا يمكن إلا أن تشكل دعامة لتحليلنا على اعتبار أن السلطة السياسية والسلطة الدينية كانتا متلازمتين إلى حدود عهد صاحبنا، حيثُ يتم تقعيد السلطة الَّتي من المفترض أن تكون مدنيةً على أساس روحي وديني.

كما أن جان جاك روسو وكما يظهر من خلالِ هذه العُجالةِ الَّتي قمنا بها على حياته الشَّخصية والفكريةِ، كان محتكاً بعالمِ الفكرِ والثَّقافةِ ومُتابعاً لشؤون الكتابةِ، كما اشتغلَ في مناصب سياسية. وهو الأمرُ الَّذي يجعله بذلك مُطلعاً على خبايا العمل السِّياسي كما كان يُسَن على عهده. بالإضافة إلى اكتسابه لعمق فلسفي توجه لقاءه بفيلسوفين عظيمين، ديدرو وهيوم.
 

السياق الداخلي للنص

انعكسَ الغِنى الحياتي والفكري لروسو على كتاباته المختلفة في السِّياسةِ والتَّربية، لذلكَ كان وقعُها قَويّاً على القوى المحافظةِ. على هذا الأساس تشكل هذه المعطيات مدخلاً لقراءتنا لنص الانطلاق "في العبوديّة" المقتطف من الفصلِ الرَّابع من الكتاب الأول من مؤلف "العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السِّياسي"(4).

يتموقع النَّص بالضبط في بداية هذا الفصل، حيث إنَّ الكتابَ بصفةٍ عامة، يتكون من أربعةِ كتبٍ تَضمُّ ثمانيةً وأربعينَ فصلاً. يدورُ الكتابُ الأولُّ حول تيمة الميثاق الاجتماعي، والثَّاني عن السِّيادة، أما الثَّالثُ والرَّابِعُ فهما يدرسان أنواع الحكومة ويتخذان من روما القديمة أنموذجاً للدراسة.

قضى روسو حوالي عشرين سنةً وهو يلملم شتات هذا الكتاب، فقد آثار بعض قضاياه مند عام 1743، علماً أنَّ الكتابَ صدرَ عام 1761 بعدما اشتغل على إخراجه عامين متتابعين، فكان هذا المُؤلَّفُ بذلك مُؤلَّفاً "مُحكمَ البناء، أعد له روسو إعداداً رصيناً، وتطلب منه درساً متأنياً... فجاء تأليفه تأليفاً مُبتكراً في مبادئ القانون والسِّياسة مُتَّصِفاً بالقَصدية الفلسفية وبالاستقلالية البنيوية وبالاكتمال النسقي"5، فكانت لغته دقيقة أشبه بلغة الرياضيات، وجعل فيه كُلَّ شَيءٍ مُرتهناً بالسِّياسةِ مثلَ ما فعل سبينوزا في تحليله لِما جاء في نص الإنجيل مُتعلقاً بالعبرانيين.

إنَّ "العقد الاجتماعي" إذا ما أردت إحصاء مؤلفات الفلسفة السِّياسيةِ وجدتَهُ من أُمَّهاتها، وهو يُقرأ على ضوء تطورات الفكر السِّياسي الحديث، خصوصاً الثورتين الأمريكية والفرنسية. ففيه يحاول روسو أن يجيب عن سؤال "ما هي المبادئ والطبائعُ الَّتي بمقتضاها تكون الحكومة شرعية"6. أما فكرة العقد فهي قديمةٌ بقدم النظريات السِّياسية والدِّينية والاقتصادية... إلا أنَّ منزلتها كانت هامشية. وقد سبقه إليها كُلٌّ من غروسيوس، توماس هوبز Thomas Hobbes وجون لوكJohn Locke .

بدء التحليل ومنتهاه

شكلَ الكتابُ الَّذي يحتوي النص المراد تحليله إذا دحضاً قويّاً للقانون العرفي، وللمكيافيلية القائلة بأولية القوة على الحق، وكذلك نظرية مونتسكيو Montesquieu القائلة بحق وضعي وتاريخي. فروسو يجعلُ من "الدستور بمثابة القيمة المقدسة... فينصاعُ إليه الجميع انصياعهم لإرادتهم الخاصة، مادام من صنع كُلِّ واحدٍ منهم أجمعين، ومن ينصاع لإرادته يكون حُرّاً، إذ لا ينصاعُ لأحد بعينه"7. فمع نظرية روسو السياسية "لا يوجد ولا يمكن أن يوجد وجوداً مشروعاً إلا صاحبَ سيادةٍ وحيد (عاهل Souverain-) ألا وهو الشَّعبُ من حيثُ هو جسم متحدٌ وواحدٌ"8.

هكذا وبمقتضى العقد، تنشأ الدولة ككيانٍ جماعيٍّ، ومتعاقدون هُمُ الشَّعبُ أو المواطنون المشاركون في السِّيادة، ورعايا من حيثُ هم خاضعون لقوانين الدولة. وعلى هذا الأساس سيميز روسو بين العقود الباطلة والعقود الَّتي هي على حق. هذه الفكرة الأساس لكتاب العقد الاجتماعي هي التي يعبر عنها الفصل الرَّابعُ من الكتاب الأول، وبالضَّبطِ النَّصُّ الذي هو موضوع محاولتنا التحليلية هاته. حيثُ يقولُ روسو في مطلعه "ظلَّتْ الاتفاقيات هي الأسُّ لكلِّ سلطة مشروعة بين البشر"9.

على هذا الأساس تكونُ كُلُّ سلطة غير مرسخة بمقتضى عقدٍ أو اتفاق هي سلطة غير مشروعة؛ لأنها تلزم الإنسان بالتنازل عن حريته. وأن يتنازل المرء في قاموس روسو السِّياسي معناه أن يهبَ أو أن يبيع. وهو الأمرُ الذي يستحيل حسبه أن ينطبق على بني الإنسان، خُصوصاً عندما يتعلقُ الأمرُ بهم في حالة اجتماع؛ أي عندما يتعلقُ الأمرُ بمجتمع أو شعبٍ بأكمله، وهو ما يعبر عنه قول روسو العميق: "والحالُ أن إنساناً إذ يجعلُ من نفسه عبداً لشخصٍ آخرَ فإنَّهُ لا يهب نفسه وإنما يبيعها بيعاً لأجل عيشه على الأقل"10، فإن كان الأمرُ كذلك بالنسبة للفرد الواحد، فإنه أعمق من ذلك بالنسبة للشعب ككل، لأن الملك بعيد كل البعد عن أن يزود رعاياه بِقُوتِهم. بل على العكس من ذلك هو لا يضمن قوته بدونهم، فهو الَّذي يأخذ منهم أموالهم.

يواجه روسو الحجة القائلة بكونه يوفر لهم الراحة، قائلاً بأنَّ هذه الأخيرة حالة نفسية قد يصلُ إليها الإنسانُ بعيداً عن الاجتماع الإنساني، مثلما حصلها "حي بن يقظان"، وابن سينا والسهروردي وابن طفيل. فروسو يقول إنَّ: "المرء يحيا على راحته في غياهب السجون"11. وأن هاته الراحة في حياة الاجتماع الإنساني يُفسدها الحاكمُ بسبب "الحروب التي يجرها عليهم طموحه الشره"12 و"مظالم وزرائه"13.

هكذا يُظهر روسو أنَّ الإنسانَ المواطنَ في علاقته بالحاكم- وكما تجسد في الظروف التاريخية والسياسية التي عاش فيها- يهبُ نفسه دون مقابلٍ؛ أي أنَّه يكون عبداً، وأن يهب الإنسان نفسه للحاكم دون مقابلٍ، كلامٌ لا يمكن تصوره في مجتمع تتأسس عليه السلطة بمقتضى اتفاق؛ وبمقتضى عقدٍ اجتماعي فـ"متى أمكن لأي فرد من البشر أن يتنازل عن شخصه بنفسه فإنه لا يمكن أن يتنازل عن أولاده، فهم يولدون بشراً أحراراً، وحريتهم إنما لهم، وليس لأحد سواهم حق التصرف فيها"14.

إنَّ الإنسانَ على هذا الأساس وكما تصوره جان جاك روسو كائنٌ حرٌ، بحيثُ تشكل الحرية مقوم إنسانيته وخاصيته الجوهرية، وهو الأمرُ الَّذي يُعبِّرُ عنه في نص آخرَ عندما يقول: "كلُّ إنسانٍ يمكنه أن يتصرف في ما يحوزه كما يطيب له، ولكن الأمرَ ليس كذلك في ما يتعلق بهبات الطبيعة الجوهرية كمثل الحياة والحرية اللَّتينِ يباح لكل إنسان أن يتمتع بهما... والفقهاء الذين قضوا بوقار أن ولد العبد يولد عبداً، كان معنى قضائهم بعبارة أخرى أن الإنسان لا يولد إنساناً"15.

يظهرُ إذاً أنَّ كلَّ ما يُقصي حرية الإنسان يُعدُّ باطلاً، ولو كان بمقتضى عقد. وهنا إشارةٌ واضحةٌ من قبل روسو لغريمه توماس هوبز الَّذي يفترض أنَّ الإنسان يهب حريته للحاكم الذي يضمنُ له مقابلَ ذلك وضع السلم. فالحاكم ليس طرفاً عنده في العقد وبالتالي لا تلزمه بنوده ومحتوياته. والاختلاف بين روسو وهوبز نابعٌ من اختلاف في تصورهما لحالة الطبيعة التي كان عليها الإنسان بَدءاً. وهو التَّصورُ الَّذي يشكل دعامة لدعاة الفكر اللِّيبرالي مند القرن السَّابع عشر ميلادي. فبناءً عليها سيعمل هؤلاء على تقويض النَّظريات السياسية القائمة على أساس ديني (الحكم الإلهي، التفويض الإلهي)، لتستقر السلطة على أساس مدني بدل هذا الأساس القائم، فقد شكلت عودة هؤلاء لحالة الطبيعة "عودة إلى ما افترض أنه الأصل في كل حياة مجتمعية"16.

كَان الاختلافُ بين تصور هوبز وروسو لطبيعةِ العقد والأطراف المشاركة فيه، نابعاً من اختلافهم لتصور حالة الطبيعة هاته، إذ تَصورها الأولُ شراً مُطلقاً، والثَّاني خيراً. فإذا كان الإنسانُ كما رآه هوبز ذئباً لأخيه الإنسان، فإن الأمرَ على خلاف ذلك عند روسو إذ يرى الإنسان خيراً بطبعه، وبالتالي حُراً بطبعه.

هكذا "سيترتب عن اختلاف التصور، اختلافٌ في طبيعة السُّلطة التي عليها أن تسوس المجتمع"17. رغم وجود اتفاقٍ على المنهجية المتمثلة في العودة الافتراضية لحالة الطبيعة، وهي العودة التي اعتُرِض عنها بكونها "غير صحيحة تاريخيّاً، فلا يستطيع القائلون بها أن يثبتوها بوثائق التاريخ، وقد حمل المفكرون الألمان خصوصاً لواء هذا النقد"18. كما

اعترِض عليها بكون "ما تراكم من تراث سياسي واجتماعي لا يمكن وضعه بين قوسين من أجل العودة ولو بالخوض النظري إلى هذه الحالة الطبيعية المزعومة"19.

إلا أنَّ ما يمنحُ لنا قوة الرُّجوع إلى النص موضوع تحليلنا، ولا يجعلنا نلقي به جانباً بناءً على هذين الاعتراضين الموجهين للحالة الافتراضية التي أُسِّسَ عليها كل القول الفلسفي والسياسي لروسو، هو كون هذا التُّراثُ السِّياسي والاجتماعيُّ المتراكمُ الَّذي اعترض به، هو ذلك الذي حاولَ مؤسسو الفكر الليبرالي تجاوزه بناءً على هذه الحالة المفترضة، ونظراً لكون كُلِّ أنواع الخروقات التي ضربت في العمق حرية وحقوق الإنسان متعلقة به، حيثُ تم فيه الحكم بما يعلو على إرادة الإنسان، اعتماداً على تأويل وقراءة دوغمائية للنص الديني المسيحي، وهي القراءة التي جسدها بقوة المذهب الكاثوليكي. "إن مؤسسي الفكر الليبرالي أنفسهم لا يزعمون أن هذه الحالة الطبيعية التي استندت عليها تحليلاتهم قد وجدت بالفعل... كان هدفهم تحليلاً جذرياً للمجتمع والهدف هو ما يترتب عن هذا التحليل، أي الطَّابع الاتفاقي لكلِّ نظامٍ اجتماعيٍّ"20. وهو الطابع الَّذي لم يجعله روسو منافيّاً لحرية الإنسان وحقه في الملكية. فكان أن جعلَ من الدستور والقانون الضامن لهذه الحرية بما هو اتفاق، يضرب في العمق جميع أنواع الاستعباد الممكنة سواء تلك التي يكون المرعي أو الراعي مصدرها، إن صح أساس التكلم بمنطق الرعية.

"سيعتمد مؤسسو الفكر الليبرالي على فلسفة الحقوق الطبيعية، خاصةً في إقرارِ حقوقٍ أسَاسيةٍ للإنسانِ، وستصبحُ دستوريةً"21. وهي الدستوريةُ الَّتي تجلت كمكتسب بعد الثورتين الفرنسية والأمريكية، الضامنتين للحرية الَّتي يدافعُ عنها روسو في هذا النَّص ردّاً على العبودية، إلا أن هذه الحرية السياسية كما تصورها روسو ومونتسكيو "لا تقوم على فعل ما يراد مُطلقاً... فالحريةُ هي حق فعل كُل ما تبيحه القوانين، فإذا ما استطاع أحد الناس أن يصنع ما تحرمه القوانين فَقد الحرية، وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما فعل... إنَّ الحريةَ تحتاجُ إلى حدودٍ"22. فوقوفُ حرية الإنسان عند حدود بداية حرية أخيه الإنسان، ليس نفياً لها وإنما هو نفي للظلم وللعبودية. من تم كان حسب روسو "عُدولُ المرءِ عن حُريته يعني عُدوله عن صفة الإنسان التي له وعن حقوق الإنسانيَّةِ، بل وحتى عن واجباته... تعطيلُ الحريةِ في إرادة الإنسان هو تعطيلٌ لكلِّ أخلاقية في أعمالهِ. وأخيراً، باطلة ومتناقضة هي الاتفاقية التي تشترط سلطة مطلقة من جهة، وطاعة لا قيود لها من جهة أخرى"23.

يَختلفُ روسو مع الرواد المؤسسين لنظرية العقد الاجتماعي، ليتفرد ويتميز عنهم بالتطرف في رفض الاستعباد والعُبودية. وكأنه يُؤسس للتَّطرف الَّذي سيقوده مواطنه جون بول سارتر فيما بعدُ، إذ سيجعل الإنسانَ مجبراً على أن يكونَ حُرّاً. وسيحلل روسو لغويّاً ما يلزم عن توجهه السياسي الليبرالي، كما هو مؤكدٌ في آخر الفصل الذي اقتطف منه هذا النص الذي بين أيدينا، عندما يقول باستحالة الجمع بين الحق والاستعباد في القول بحق الاستعباد، فهو يقول "إنَّ كلمتي عبد وحق متناقضتان، تنبذ كلتاهما الأخرى نبذاً مُتبادلاً، وإذا ما خاطب إنسانٌ إنساناً، أو خاطب إنسان شعباً قائلاً: إنِّي أقيم معك اتفاقيةً عليك أنت كُلُّ وزرها، ولي كل نفعها، أرعاها أنا ما طاب لي الأمر، وترعاها أنت ما طاب لي الأمر أيضاً. لظل هذا القول كذلك قولا منافياً للصواب"24.
 

استخلاص: يرسم آفاق النص

هكذا إذاً ننتهي إلى ما انتهى إليه روسو في تأسيسه الفلسفي للحرية والحق الإنساني، كما باقي فلاسفة عصره25 إلى كون لا شيء يمكنُ أن يُشكل بديلاً للحرية الإنسانية، شريطة أن لا تقود هي نفسها إلى الاستعباد من قبل الرعايا لبعضهم البعض أو من قبل الحاكم للرعايا... وعلى هذا الأساس انتبه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Emmanuel Kant إلى هذا الإنجاز الروساوي الذي جعله يقول في حقه: "كان روسو أولَ من أدرك وراء تعدد الأشكال الاجتماعية الَّتي تواضع عليها البشر، الطبيعة الإنسانية الكامنة في أعماقها والقانون الَّذي يقود دليلا على العناية الربانية"26.

تلاحقت الرؤى بعد روسو لهذه الثنائية عبودية/ حرية (سيادة) بطرق مختلفة، كشفت عن مستويات مختلفة في التحليل كان منطلقها الماديِّ والجدليِّ والتَّاريخيّ مع فردريك هيغل Friedrich Hegel وكارل ماركس Karl Marx، وجينالوجيا مع فردريك نيتشه Friedrich Nietzsche. فإذا ما كان الأولُ جعل الحرية مشترطة بالاشتغال من قبل العبد، في وفاء ظاهر منه لتسلط السيد، وترسيخاً للوضع السائد. فإن ماركس على العكس من ذلك قلب هذا التصور الهيغلي رأساً على عقب، عندما جعل الدولة أساساً صنيعةً برجوازية، لا تروم سوى المحافظة على مصالح الطبقة البرجوازية الحاكمة. وقد مثل نيتشه بمنهجه الجينالوجي حدّاً فاصلاً بين الحديث والمعاصر، عندما جعل ما رسخه روسو بمقتضى الاتفاق، ودافعَ عنه كضامن لحرية الإنسان، مجرد تشكيل من تشكيلات الضغينة الأخلاقية للمستضعفين. التي تحاول الحد من إرادة القوة، بمقتضى هذه الطقوس المليئة بالغل والمنتصرة للموت على الحياة والمرح والعنفوان. فما كُنَّا نعتقد إلى حدود نيتشه أنه حرية، أصبح معه أكبر تجل من تجليات العبودية، فالاستعباد هو الوحيد الذي يصح أن يكون مُرسخاً للحرية الإنسانية. هذا إذا ما وجد هذا المصطلحُ أساساً موطئ قدم له في الشذر النتشاوي.

نكونُ إذاً بهذا قد رصدنا بعض القنوات التي يمكن أن يفتحنا عليها النص موضوع تحليلنا، وهي القنوات التي لا تنفك عن مختلف أنواع السياقات المؤطرة للنص: التَّاريخية، السِّياسية، الفكرية والشَّخصية كما تبدو من خلال تحليلنا. وهو التَّصورُ الَّذي لا يمكن وزنه بدون الانفتاح على التَّصورات اللاحقة والتي بيّنا بالاختصارِ بعض مُؤسسيها فلسفيّاً.


الهوامش والمراجع
1- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير، الطبعة الأولى 2005، الفصل الثالث خصوصاً.
2- جان جاك روسو: اعترافات جان جاك روسو، الجزء الثاني، مطبوعات كتابي، الرقم 40، المؤسسة العربية الحديثة، ص: من 5 إلى 7.
3- جان جاك روسو: محاولة في أصل اللغات، تعريب محمد، تقديم عبد السلام المسدي، منشورات دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد، الدار التونسية للنشر، ص: من 15 إلى 17.
4- جان جاك روسو: العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، الطبعة الأولى- يوليو 2011، ص: من 84 إلى 86.
5- نفسه، ص: 17.
6- نفسه، ص: 12.
7- نفسه، ص: 13.
8- نفسه، ص: 14.
9- نفسه، ص: 84.
10- نفسه، ص: 84.
11- نفسه، ص: 85.
12- نفسه، ص: 85.
13- نفسه، ص: 85.
14- نفسه، ص: 85.
15- روسو: أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، بيروت 1972، ص: 103- 104.
- نقلا عن: محمد سبيلا- عبد السلام بنعبدالعالي- مصطفى لعريصة، في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، نصوص مختارة ومترجمة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2013، ص: 116- 117.
16- علي أومليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1985، ص: 64.
17- نفسه، ص: 65.
18- نفسه، ص: 65.
19- نفسه، ص: 65.
20- نفسه، ص: 66.
21- نفسه، ص: 70.
22- مونتسكيو: روح القوانين، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة 1953، ص: 225- 227.
- نقلاً عن: محمد سبيلا... في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص: 107- 108.
23- جان جاك روسو: العقد الاجتماعي، مصدر سابق، ص: 86.
24- نفسه، ص: 90.
25- راجع القسم الثاني "في التأصيل الفلسفي لمفهوم الحق" من الإصدار لمجموع النصوص المختارة والمترجمة، محمد سبيلا... عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان ودار توبقال، الطبعة الأولى 2013، ص: من 71 إلى 135.
-26 Kant : Observation sur le beau et le sublime (1764), Trad, kenpf, éd. J. Vrin, P : 66.
- نقلاً عن: علي أومليل، مرجع سابق، ص: 74.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها