قلوب ضالة.. محطة بارزة في تاريخ الأدب الهندي

عبد الرحيم امعضور


طاغور رابندرانات Rabindranath Tagore

"إذا بكيت لأن الشمس غادرت حياتك؛ فإن الدموع ستمنعك من رؤية النجوم"



تعتبر رواية "قلوب ضالة" للأديب والفيلسوف الهندي "رابندرانات طاغور" من أروع ما كتب، الأمر الذي جعل دور النشر تتسارع لطبعها ونشرها، وذلك لما امتازت به من أسلوب فريد في الشكل والمضمون. ينتمي طاغور إلى المجتمع الهندي المعاصر، هذا المجتمع الذي وجد أمامه تراثاً أدبياً تعود جذوره لأزيد من 3000 سنة، ويشمل الأعمال الكلاسيكية الدينية، والشعر الشفهي. ورغم أن النثر الحديث كانت له مكانة كبرى في تاريخ الأدب الهندي، إلا أن النصوص القديمة ما زالت حاضرة وتشكل مصدراً للاقتباس. كما اقترن هذا الأدب في بداياته باللغة السنسكريتية، وهي لغة قديمة تحظى بمكانة هامة لأنها تدخل في خانة التقليد الهندوسي، إذ ترجمت ملاحم كبرى كالماهابهارتا أي حرب التوابل الكبرى والرامايانا أي (قصة راما). وتُعدّ المهابهاراتا أطول قصيدة في العالم، فهي تتكون من 100,000 بيت شعري، وقد شهدت دخول الإله كريشنا لأول مرة على الخط وانتصاره لصالح الباندفاس على حساب الكورفاس، وهما فرعان للأسرة المالكة في الهند آنذاك احتدم الصراع بينها حول الخلافة، هذا وقد شهد الأدب الهندي خلال مساره بروز أسماء كبرى كالكاتب المسرحي كاليداسا بالإضافة إلى ازدهار الأدب "الدرافيدي"، الذي انتشر في جنوب الهند واتخذ صبغة تأملية.
وفي خضم هذه التطورات التي عرفها هذا الأدب، نلاحظ أن المسلمين بدورهم كان لهم تأثير كبير منذ اختراقهم للمجال الهندي حوالي سنة 92 للهجرة، بفضل الغزوات الكبرى التي قادها محمد بن قاسم، لتتعدد مكونات هذا المجتمع، فأصبح للأدباء الحق في أن يكتبوا بلغات مختلفة، لكن سرعان ما انتصرت براج باشا وهي اللهجة السائدة جنوب دلهي؛ لأن بعض الروايات تقول بأن كريشنا كان قد عاش في هذه المنطقة، وقد توالت الحروب الطاحنة بالهند إلى حدود القرن 19، الذي شهد الغزو البريطاني. ورغم أن هذا الأخير يشكل حدثاً بارزاً في تاريخ الأدب الهندي إذ جعله يتعرّض للمؤثرات، والأفكار الغربية بصورة مكثّفة، إلا أن الكتاب الهنود لم يقبلوا وضعهم الجديد فقاموا بإحياء الطقوس الهندوسية، كرد فعل دفاعي اتجاه هذا الاجتياح غير المتوقع.

لقد كانت كالكوتا عاصمة الهند البريطانية في القرن التاسع عشر، وعلى إثر هذا أصبحت البنغال أول منطقة تخضع للسيطرة البريطانية، كما كانت هذه المنطقة شاهدة على ميلاد شاعر ومؤلف موسيقي ورسام، وكاتب مسرحي فذ وهو طاغور رابندرانات الحائز على جائزة نوبل للأدب سنة 1913، فإلى جانب أديبنا طاغور عرفت هذه الفترة أيضاً بروز أسماء أخرى كالشاعر أسد الله خان، وفايز أحمد، ومحمد إقبال، الذي اشتهر بشعره وفلسفته، وقد غنت له أم كلثوم إحدى قصائده، وهي: "حديث الروح". وهو من الداعين إلى انفصال باكستان عن الهند. وقد استمر تألق الأدب الهندي منذ ذلك الحين وأصبح لافتا للأنظار إذ استطاعت الكاتبة أروندهاتي روي أن تنال جائزة البوكر برايز البريطانية عن روايتها "إله الأشياء الصغيرة" سنة 1997، بالإضافة إلى أرفيند أديغا الذي نال نفس الجائزة سنة 2008 عن روايته "النمر الأبيض"، وتعتبر كيران ديساي أصغر أديبة تفوز بهذه الجائزة عن روايتها "ميراث الخسارة".
وبالعودة لطاغور يبدو أنه من الصعب تقديمه في جمل محدودة، لكن إذا شئنا التقديم الموجز فإننا لن نجد أفضل مما قيل عنه في مستهل رواية "قلوب ضالة"، التي ترجمها له إلى العربية حلمي مراد إذ كتب عنه يقول:
"إذا كان القدر قد اعتاد أن يختار الفلاسفة والمفكرين من الفقراء والمستضعفين، فإن الهند شهدت مناسبتين حاد فيهما القدر عن هذه العادة، وكانت أولى هذه المناسبتين يوم اختار بودا من قصر الأمراء والمالكين ليكون مبشراً بالحكمة والفلسفة، ثم كانت الثانية يوم اختار طاغور ليكون رسول الأدب والحكمة."

ولد طاغور في كالكوتا في 6 من مايو 1861 وبعد أن درس في إحدى المدارس الخاصة بالهند رحل إلى إنجلترا وهو في السابعة عشر من عمره، ليدرس القانون ولكنه لم يستسغ هذا اللون من الدراسة فعاد إلى بلاده، وتفرغ للكتابة في مجلات "البنغال" وصحفها، وما لبث اهتمامه أن اتجه إلى أحوال بلاده ومواطنيه، فراح يسعى لرفع مستوى الحياة الفكرية والاجتماعية في الهند، وأنشأ في سنة 1901 مدرسة فذة في نوعها ورسالتها، تنكب فيها برامج التربية المألوفة ليعنى بالنواحي الروحية والإنسانية والقومية.
وتوفر على الإنتاج الأدبي في تلك المرحلة ففاز في سنة 1913 بجائزة نوبل للأدب، وقام بعد ذلك بعدة رحلات في أوروبا كما زار اليابان والولايات المتحدة، وقد وضع طاغور مؤلفاته من أشعار وتمثيليات وروايات بوحي من جمال الكون وإدراك وجود الله وحب الأطفال والبساطة، وتبدو هذه المعاني في أجلى صورها في كل ما كتب.
وعندما بلغ الثامنة والخمسين وهي سن تفتر فيها همم الكثيرين، وجد في مجال الفنون ناحية جديدة لنشاطه فشغف بالرسم والتلوين وأقبل على ممارستها، وفي الثامن من أغسطس سنة 1931 مات طاغور عن ثمانين عاماً"1.
استطاع طاغور أن يؤلف حوالي خمساً وعشرين مسرحية وأزيد من ألف قصيدة، بالإضافة إلى ثمان روايات سلط الضوء من خلالها على التقاليد الهندية، كما هو الحال بالنسبة لروايته "جورا" التي فضح فيها التعصب الهندوسي الذي ساد العديد من الطوائف والأديان، ويشهد له اختلافه مع الزعيم المهاتما غاندي وخصوصاً موقفه الداعي إلى الزهد وبساطة العيش، كآلية فعالة لمقاومة المستعمر. إذ ينظر طاغور لهذا الزعم كتحريف للقضية عن مسارها الحقيقي، ويبدو هذا التصور طبيعياً لانتسابه لأسرة ميسورة. جدير بالذكر أن جائزة نوبل قد نالها عن تجربة شعرية رائعة اختار لها عنوان: "قربان الأغاني"2.

وبخصوص رواية "قلوب ضالة" التي سنسعى إلى الاقتراب منها فهي رواية محبوكة بشكل درامي، تمكن من خلالها طاغور أن يتطرق إلى مواضيع مختلفة بأسلوب فلسفي، ونفس روائي محكم، لعل هذا ما جذبنا إلى أعمال هذا الأديب الفيلسوف. ولا شك أن من اطلع على هذه الأعمال سيندهش بخصوص هذا العالم وسيتساءل هل هو صغير إلى هذا الحد الذي يصور به طاغور بعض الوقائع، أم أن الأمر يتعلق بطبيعة الرواية الهندية أنها تمتاز بهذه القدرة دون غيرها من الأعمال الروائية العالمية، فلا ريب أن طاغور إلى جانب هذه المعطيات يعتبر رجلا عبقرياً، وهو ما يظهر جلياً من خلال الحكم الكامنة بين أسطر الرواية التي بين أيدينا، ومرد ذلك إلى النصائح التي يجب أن يتبعها الإنسان لكي يتجاوز المحن، والكآبة، والتعاسة، فقط بإعمال عقله، والتمسك بالصبر، والأمل، والتفاؤل... لذاك سنحاول أن نلخص من خلال هذه الورقة بعض المحطات الكبرى التي عاشها بطل الرواية على أمل أن تكون فاتحة للاقتراب من الأدب الآسيوي عموماً والأدب الهندي خصوصاً.


شخصيات الرواية

رامش: بطل الرواية الشاب الهندي الطموح والخلوق، رغم مكره في بعض الأحيان.
براجا موهان: والد رامش.
هيمناليني: عشيقة رامش والتي فشل حبهما، رغم تحديهما للقدر وفعلهما المستحيل ليلتقيا.
أنادا بابو: والد هيمناليني، والذي يسعى إلى ضمان وضع مريح لابنته قبل وفاته.
جوجندرا: أخ هيمناليني وصديق رامش.
أكشاي: صديق جوجندرا.
كمالا: زوجة رامش خلال فترة معينة بدافع قيمي.
أومش: الطفل الذي تبنته كمالا لفترة وجيزة.
نالين: الطبيب.
نابينكالي: محتضنة كمالا بإيعاز ديني بعدما انقطعت بها السبل.

الأماكن

- مدينة كالكوتا
- مدينة إيتاوة
- مدينة غازيبور
- مدينة الله أباد
- حي دادجبار
- نهر بادما

تتبع خطى أحداث الرواية

تعالج الرواية قصة رامش وهو شاب يتمم دراسته في القانون بمدينة كالكوتا3. بعيداً عن أقربائه، وكان له زميل في الدراسة يدعى جوجندرا ابن أنادا بابو الذي يملك ابنة أخرى تسمى هيمناليني، كان رامش غالباً ما يزور منزل أنادا بابو بانتظام لإعجابه الشديد بهيمناليني، ولصداقته بجوجندرا. لكنه لم يعلن أعجابه بل وارتباطه هذا بالفتاة، أما والدها، فيعتقد أن هناك شاباً آخر يتمم دراسته بإنجلترا سيتقدم للزواج من ابنته، فما لبث رامش أن أنهى آخر أيامه بالجامعة، حتى أقبل والده براجا موهان إلى المدينة مخبراً إياه بضرورة مرافقته فوراً إلى البلدة لأمر ما يخصه. حاول أن يتحايل على أبيه لكي لا يعود إلى البلدة لكنه لم يترك له فرصة لتفويت القطار، تردد رامش كثيراً في أن يخبره والد بحبه لهمناليني ورغبته في الزواج منها لكنه امتنع في الأخير.
بعد وصول رامش إلى بلدته، تبين له أن ثمة عروس وتاريخ محدد للزواج ينتظرانه، فأخبره والده بأن الأمر يتعلق بابنة صديقه المحامي الذي قضى نحبه في سن مبكرة، تاركاً وراءه أسرة صغيرة تعاني من فقر شديد، وأتبث له بأنها صالحة للزواج، لكن رامش لم يكن مقتنعاً بهذا فبدأ يفكر في حادث يحول دون إتمام هذا الزواج، أو تأخيره عاماً على الأقل لأنه يعلم بأن العام الذي يليه هو عام منحوس، لا تعقد فيه زيجات حسب تنبؤات الفلكيين.
كان الأب مصراً على عقد هذا الزواج ما دام سيضمن للفتاة وأمها عيشاً رغداً ويكون بذلك قد سدد لصديق صباه ما كان من دين في عنقه. سارع الأب في تدبير كل الإجراءات التي تسبق الزواج وتم عقد القران في التاريخ المحدد، لكن رامش ليلة العرس امتنع عن ترديد الصيغة الشرعية التي تردد في مثل هذه المناسبات، وبعد أن وصلت اللحظة التي ينبغي أن يرى فيها العروسين بعضهما البعض أغمض عينيه وظل صامتاً لأنه ظن أن الفتاة ليست جميلة، وعندما خليا إلى البيت رقد العريس مُولياً ظهره للفتاة طيلة الليل.
استيقظ رامش صباحاً واتجه صوب نهر بادما العظيم الذي شهد حدوث إعصار مدمر، أودى بحياة كل الذين حضروا خلال العرس، وقد حدث ذلك أثناء عودتهم إلى بيوتهم. فأخذ يسير على حافة النهر عاودته رؤى النكبة كأنه في حلم، فحاول أن يفهم ما حدث لوالده وأصدقائه، لكن دون جدوى. فجأة، لمح شيئاً يشبه فتاة ملفوفة في ثوب العرس، سارع لإنقاذها ومساعدتها على استعادة تنفسها، فأخذ يتأملها للحظة ويقول من الذي قال إن سوسيلا أي زوجته لم تكن جميلة وبدأ يندب حظه ويقول: فلشدة ما أنا مغتبط لأنني لم أنظر لها في غمرة الزفاف، كان علي أن أفعل ذلك، وبما أنني رددتها إلى الحياة فقد أصبحت ذا حق عليها يفوق الحقوق التي يكسبني إيها ترديد تلك العبارات المأثورة للزواج.
بعد أن استعادت وعيها، سألها رامش إن كانت تتذكر شيئاً أن تخبره ما الذي حصل، لكن جسدها المنهك عجز عن الكلام فراح رامش ينظر إلى النهر وينادي كل باسمه لكن دون جدوى، ثم اقترب من الفتاة وبقي صامتاً لأن العزاء لن يخفف عنها كربها. بعدها استأجر قارباً من الصيادين وقرر العودة إلى قريته وبعد وصوله وجد البوليس أمام منزل والده كانوا قد عثروا على عائلته فاستقبلته الجدة بالنحيب الذي استولى على دور كل أولائك الذين حضروا في العرس.
انتهت مراسيم الدفن، ومرت بعض الشهور وأخذ الزوجان يندمجان في حياتهما الجديدة فشرع رامش يستحل لنفسه المداعبة خلال هذه الأيام، وبينما هما غارقان في حبهما سألته: لماذا تدعوني سوسيلا فأنا اسمي كمالا وتغيير اسمي لن يغير شيئاً من سوء حظي؟ استغرب للوهلة الأولى وسألها عن بعض المعلومات المتعلقة بها وأخذ يجمع البيانات عن الفتاة وعن لقائهما، كما أخبرته أن خالها الذي تولى تربيتها بعد وفاة والديها كانت زوجته تعاملها بقسوة، فاستعجل الزواج ولم تستطع رؤية زوجها، لينتهي رامش في الأخير إلى أن هذه الفتاة لم تكن تلك التي عقد قرانه عليها، ومن المحتمل أن يكون زوجها قد غرق هو الأخر لكنه وبعد أن فكر في الأمر جدياً، قرر ألا يخبرها بشيء لتظل مرتبطة به ما دام إرجاعها إلى بيت خالها يحمل تبعات خطيرة حتى لو سلمنا ببقاء زوجها على قيد الحياة.
قام رامش بإلحاق كمالا زوجته الجديدة بالمدرسة نظراً لصغر سنها، وانصرف إلى ممارسة المحاماة في المدينة التي درس فيها، لكن قبل ذلك تلقى رسالة من أنادا بابو يعاتبه على انقطاع التواصل بينهما مستغلا الفرصة ليخبره أن الشاب الذي عقد عليه العزم بالعودة من إنجلترا والزواج من ابنته همناليني قد عاد إلى الهند وتزوج فتاة أخرى، رد عليه رامش في رسالة أخرى حاول فيها أن يبرر فيها غيابه بمشاغل الحياة لا غير، وكم تمنى ألا يلتقيا مجدداً حتى يتمكن من نسيان علاقته بهمناليني.

مرت أيام وبينما هو في الشارع ذاهب إلى منزله، التقى صدفة بأنادا وابنته فاقترحا عليه العودة إلى بيته القديم لكي يكون قريباً منهم، فقبل الفكرة لأنه وجد الفتاة همناليني قد نضجت وازدادت جمالاً، وما إن عاد إلى بيته القديم حتى اندمج مجدداً فصار كواحد من أبناء العائلة، وبعد مرور وقت قصير تعلق بها مرة ثانية وقرر أن يفاتح والدها في الموضوع، ورغم ما يقال عن الفتاة أنها ينبغي أن تختار أصدقاءها في حذر فائق، إلا أن رامش يحظى بثقة كبيرة من طرف والد هيمناليني، لكن ومع اقتراب العطلة فكر في كمالا ورغب أثناءها في أن يخبر همناليني بكل شيء قبل الزواج حينها استقبل رسالة من البريد مفادها أن كمالا مستاءة وحزينة من بقاءها لوحدها في المدرسة، وبالتالي فقد تقرر إرسالها إلى بيت رامش يوم الأحد علماً أن الزواج بهيمناليني اختير له يوم السبت.
لم يعد هناك من طريق أمام رامش إلا أن يخبر أنادا بابو وهيمناليني بضرورة تأجيل القران لوجود أمر مستعجل وعليه ينبغي إخبار المدعوين بتعديل تاريخ الزواج، وما هي إلا لحظات حتى انفرد بها ووعدها بأن يصارحها بكل شيء بعد زفافهما ثم انصرف وهو مرتاح البال. وعندما اقترب موعد الزواج، أقبل الابن جوجندرا وبدأ يسأل عن حيثيات العرس، إذ لم يجد في المنزل أي مؤشر ليفاجئه والده بتأجيل العرس وبدأ الابن يلومه عن هذا الإرجاء والتساهل مع رامش، رغم أنه يشتغل في مهنة حرة وبأن أفراد عائلته كلهم قد رحلوا.
فور وصوله إلى حي دادجبار بمدينة إيتاواه بدأ يؤثثه لاستقبال كمالا وقرر ألا يخبرها هي الأخرى بأي شي على أمل أن يتقبلا بعضهما ويسود التفاهم بينها وبين هيمناليني مستقبلا. بعد وصول كمالا حاولا أن يتبادل الحديث قليلا، وقد لاحظ رامش أثار النضج والجمال بادية عليها. حاول رامش أن يتقرب منها أكثر ويخفف عنها قليلا ما عانته خلال الشهور الماضية، وما هي إلا لحظات حتى أقبل صهره جوجندرا وصديقه أكشاي فخرجت كمالا من البيت، فسأله الأول عن هذه الفتاة من تكون أجابه بأنها إحدى قريباته ثم رد عليه ألا تدعى هذه الفتاة كمالا؟ قال: بلى! ثم سأله هل وصفتها بأنها زوجتك حين ألحقتها بالمدرسة قال: نعم وصفتها، فأخبره بأنه لو لم يكن مرتبطاً بأخته هيمناليني لما كانت هناك حاجة للتنقيب عنه وعن أسرار عائلته وبما أنه لا يضرب مثلا للصدق فإن الزواج بهيمناليني لن يتم كما هو متفق عليه من قبل، كما أنه يعتزم أنه سيخبر هيمناليني بفصم الخطبة بداعي أنه لا يوافق على هذا الزواج فقط.
غادر جوجندرا البيت تاركاً رامش مشتت الذهن أمام سيل من الأسئلة، وفكره عجز عن تقديم إجابات واضحة فأخذت كمالا تحكي له بعضاً مما عاشته في المدرسة، في الوقت وصل فيه جوجندرا إلى بيت أبيه وأخذ يقربه من كل صغيرة وكبيرة، وبعد تقبله لهذه الحقيقة اقترح عليه إحلال عريس آخر محل رامش فيكفي أن تقبل هيمناليني بذلك، حتى تصير الأمور على ما يرام. فبدأ يفاتح هيمناليني في الموضوع وأخذ ينزع عنها ثقتها من رامش تدريجياً باستحضار بعض التفاصيل التي طرأت في حياته، وما إن أتم حديثه الذي أوصلها إلى الحقيقة الكاملة حتى هوت على الأرض مغشياً عليها وما لبثت أن فتحت عينيها بعد ذلك حتى فاضت بالدموع، فصاحت قائلة بأنها لن تصدق شيئاً ما لم تسمعه من فم رامش.
خرج والده من غرفتها واستلقى في الغرفة المجاورة متذكراً زوجته الغالية التي ماتت، وكم تمنى حينها أن تعيش ابنته سعيدة إلى جانب رجل يحبها قبل أن يلتحق بأمها إلى القبر وعيناه ترقرق بالدموع. في ذلك الوقت مضى رامش وكمالا نحو المحطة واستقلا القطار المتجه نحو الريف، وقبل أن ينطلق القطار ظهر لهما أكشاي الذي كان يترصد تحركاتهما صعدا إلى القطار، لكن فور وصولهما إلى البنغال باءت جل محاولاته بالفشل لأنه لم يجد أثراً لرامش فظن أنه قد فطن لتحركاته فارتد عائداً إلى كالكوتا ليخبر عائلة هيمناليني بفرار رامش "فكيف نفسر فراره إن لم يكن ذلك دليلاً كافياً على جرمه"، هكذا قال جوجندرا لأخته فردت عليه قائلة لك أن تدينه كما تشاء أما أنا فليس من حقي ذلك.
في ذلك الوقت، راودت رامش فكرة التخلص من كمالا وإخبارها بالحقيقة لكنه في الأخير عدل عن هذا القرار؛ لأن التخلي عنها كمن يلقي بها في بحر لا ساحل له على عكس هيمناليني التي ظن أن هناك شخصاً آخر قد تقدم لخطبتها.

توالت الأيام فصارت كمالا سعيدة بدورها كربة بيت، واستأجرا بيتاً بالقرب من مدينة غازيبور حيث ينوي رامش أن يمارس في محاكمها مهنة المحاماة، لذلك يتعين عليه القيام ببعض الإجراءات القانونية، لكن هذا يتطلب العودة إلى كالكوتا، هذه المدينة التي اقترنت بذكريات سيئة، لذلك اضطر إلى إرجاء الأمر قليلاً وبمجرد وصوله إلى كالكوتا قرر أن يكتب خطاباً لهيمناليني يخبرها بحقيقة العلاقة التي تربطه بكمالا، وأنه قرر أن يتخذ من تلك المسكينة زوجة حقيقية له. وبينما هو متسلل إلى بيت والدها لكي يسلم الرسالة إلى أحد خدامه، وجد الباب مغلقاً وأخبره الحارس بأن الفتاة رحلت من المدينة رفقة شاب يدعى نالين فعاد رامش مباشرة إلى غازيبور.
وبعد ثلاثة أيام اتجه إلى مدينة الله أباد لتسجيل اسمه في محاكم الإقليم في تلك اللحظة كانت كمالا منهمكة في شغلها المنزلي فإذا بأومش الطفل الصغير الذي تبنته كمالا يأتيها بالرسالة التي سقطت من رامش بسبب إهماله العجيب، فشرعت تقرأ الخطاب بإمعان لتتبين لها الحقيقة كاملة رغم أن الرسالة لم تكن تحمل صفات المرسل إليه، فعادت بذاكرتها إلى الوراء واقفة على كل التفاصيل الدقيقة لينفذ الخزي إلى قلبها.

عاد رامش من مدينة الله أباد لكنه لم يجد أثراً لكمالا فاتجه نحو النهر، فوجد بعضاً من القماش الذي كانت ترتديه فظن أن النهر الذي منحه إياها عاد ليبتلعها استجمع قواه ودهب إلى كالكوتا وتحديداً منزل هيمناليني فأخبره الحارس بأنهم اتجهوا نحو الريف، وبأن نالين لا تربطه بهم أية علاقة، أما جوجندرا فلم يسافر لالتزامات معينة، وقد استقبله هذه المرة بعد فراقهم إذ لا يجد مانعاً في ذلك ما دامت هيمناليني غير موجودة وأخذ رامش يحكي له قصته كاملة وما إن فرغ من حديثه حتى نهض الصديقان وتعانقا.
في تلك الفترة كان الطبيب نالين وأمه يعيشان إلى جانب هيمناليني ووالدها في الريف، فاقترحت عليه والدته الزواج من هيمناليني فرفض الفكرة لكن إصرارها جعله يبوح لها بسر مفاده أنه في يوم من الأيام أغلق عيادته، وقرر أن يسافر إلى كالكوتا، وبينما هو في طريقه التقى صديقاً له ودعاه إلى بيته، وبدأ يحدثه عن فتاة تدعى كمالا، وما إن رآها حتى أغرم بها وزاد تعلقه بها نتيجة سوء المعاملة الذي تحظى به، فقرر الزواج منها، وبينما هما عائدان على متن قارب خشبي انقضت عليهم ريحاً لافحة، فغابت بسببه كمالا. ومنذ ذلك الحين عدل عن الزواج ظناً منه أنها قد نجت من الموت وبأنها ستظهر يوماً ما، انتهى حديثه مع أمه لتظهر كمالا في موضع جديد، حيث قطعت النهر وتاهت فلم تعد تتذكر بيت زوجها لكنها وجدت أمامها نابينكالي استقبلتها في بيتها فقط لانتمائهن لنفس الطائفة وهي البراهمة، وبعد مرور أيام قليلة، أصيب زوج نابينكالي بوعكة صحية فنادت على خادمها وأمرته أن يحضر الطبيب نالين، لكن الطبيب امتنع بسبب مرض أمه وما إن سمعت كمالا هذا الاسم حتى سارعت نحو الخادم ليقدم لها بعض المعطيات بخصوصه؛ لأن هذا الاسم ليس غريباً عنها لكن نابينكالي فطنت للأمر فطردت الخادم وظلت كمالا مرابطة بالمنزل، ولم تستطع الفرار إل أن التقت يوماً بأم نالين فأخذتها إلى منزلها وظل نالين يعاملها معاملة عادية كأنه لا يعرفها.
أبدت همناليني لوالدة نالين موافقتها على الزواج من ابنها رغم أن هذا الأخير لم يقتنع بعد بهذه الفكرة، وقبل أن يحددا موعد الزواج، أقبل جوجندرا ورامش واقترحا بطلب من والد هيمناليني مرافقتهم خلال اليوم الموالي إلى منزل نالين لتناول الفطور. في تلك الليلة، أخبرهم رامش بالحقيقة الكاملة والتقى بكمالا وشكرها على كل شيء وفرح لبقائها حية، فاتجهت هيمناليني نحوها هي الأخرى تخبرها بأنها ستعود رفقة عائلتها في اليوم الموالي إلى كالكوتا، أما هي فيتعين عليها مصارحة زوجها الحقيقي نالين ووضع الصورة كاملة أمامه، حينها وعدتها هذه الأخيرة بأنها ستفعل ذلك عندما تتاح لها الفرصة لذلك.
لقد كانت كمالا منذ التحاقها ببيت نالين تعتقد أنه لم يستطع التعرف عليها وما إن رحلت هيمناليني وعائلتها حتى قررت أن تصارحه، وبينما هي تبارح شغلها المنزلي، أخذت تسترسل في كلامها لكنه قاطعها بدعوى أنه يعرف كل شيء، فقررا أن يطويا هذه الصفحة نهائياً وأن يطلبا من أمه أن تبارك لهم هذه الحياة الجديدة.

نحو مناقشة الرواية

إذا كنا قد أطلنا الحديث في سرد أحداث الرواية فلسبب بسيط هو أن هذه الأحداث متسلسلة، فلا يمكن أن نقفز عن بعضها دون أن نُحدث خللاً في المضمون، فمن حيث المضمون يبدو أن الرواية قد تناولت مواضيع مختلفة كالوفاء للحياة الزوجية وتقديسها، وهو ما يظهر جلياً من خلال السلوك اليومي لكمالا إذ نجدها، وعلى الرغم من صغر سنها إلا أنها متحمسة لإسعاد رامش، أما هذا الأخير فيظهر بثوب الاتزان وعدم التسرع في اتخاذ القرارات، فضلاً عن إنسانيته العالية. وهو ما يظهر من خلال امتثاله لأوامر والده، وتعامله مع كمالا وصونه لها، وكل هذا يتم تصويره في ظل ما يعانيه العالم اليوم من مخاطر عظيمة، تتجلى بوضوح حول الإنسان الذي نجده أينما يمَّمَ وجهه على هذه الأرض إلا ووجد اختلالات كبرى في المنظومة القيمية التي طالت شتى المجالات الحياتية التدافعية.
أما الجوانب الشكلية، فالرواية مليئة بالأفكار الجذابة وخالية من التعقيدات اللغوية، تستحضر مختلف الأبعاد الاجتماعية والنفسية لجعل القارئ مشدوداً لإتمام القراءة، خصوصاً ذلك الصراع الداخلي بين إرادتين إحداهما تدعو إلى التملك والأخرى تعدو إلى التخلي، ومسايراً للمقاطع الدرامية الحاضرة بكثرة، وقد حافظ الكاتب على ترتيبها منطقياً ولم يغيب أي حدث كما يفعل بعض الروائيين الذين يتركون بعض الفراغات، ويحثون القارئ على ملئها اعتماداً على آلية الخيال، اللهم إذا استثنينا مصير سوسيلا الفتاة التي اختارها والد البطل زوجة لابنه، التي لم يحدثنا عن مصيرها.
كما اعتمد الكاتب على الحوار بشكل كبير، لكن لم يرق به إلى المستوى الذي نجده في المسرح. أما بخصوص الزمان والمكان فلعلّ ما أثار اهتمامنا في هذا الصدد هو اعتماده على الفلاش باك خصوصاً لحظة قراءة كمالا للرسالة التي كتبها البطل، بالإضافة إلى وصف دقيق لجغرافيا المجال الهندي، من خلال المدن والأقاليم المذكورة. ونشير في الصدد إلى أننا لم نذكر بعض الشخصيات المتضمنة في الرواية لأدوارها الثانوية أولاً، ولعدم تأثيرها في مجرى الأحداث ثانياً.


الهوامش
1 - رابندرانات طاغور: قلوب ضالة، ترجمة حلمي مراد، دار البشير للطباعة والنشر- دمشق 1998، ص: 5.
2 - يتحث طاغور في هذا الديوان عن حب الله للفقراء والتعساء والمحرومين، كما أنه يرى نور الله حيث يوجد العمال والفلاحون والناس البسطاء، ويرى بركته بين قطرات عرقهم ودموعهم .
3 - مدينة توجد في الجزء الشرقي من الهند؛ قيل إن دلالة هذا الاسم هي أرض الآلهة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها