ثورة اللغة الشعرية

جوليا كريستيفا

ترجمة: د. نعيمة البخاري

حاولنا أن نعطي وصفاً وتفسيراً سيميائياً عن اللغة الشعرية؛ لكي نحدد خاصياتها مثلما تمثل داخل النّصوص منذ نهاية القرن التاسع عشر.. إننا لن نتبع الإجراءات الميكانيكية لأجل هذه الغاية، التي تقتضي أن نطبق على خطاب ما الذي هو ممارسة دالة، خاصة المقولات والترتيبات القائمة لأجل اللغة باعتبارها موضوعاً للسانيات.
 

بداية؛ حددنا النص كممارسة دالة لكي نطرح، انطلاقاً من هذا الوضع الإبستمولوجي، أن نسق واشتغال اللسان يخضع فيه إلى تغييرات محددة تكون جهازاً سيميائياً. إذا لم تكن لنا وسائل أخرى لأجل وصف هذا الجهاز السّيميائي غير استخراجه داخل اللغة، وبالتالي، إذا كنا نلتجئ إلى الإجراءات اللسانية فلأجل بناء اشتغال عبرها لا يغطيها إطلاقاً، لكي نخصص أين يتقاطع الاشتغالان الاثنان. إذن؛ لا يشكل الجهاز السيميائي توسيعاً بسيطاً للنسق اللساني: إنه اشتغال مختلف، معارض لنسق اللسان؛ إذا كان يعيد جمع بعض شروط اشتغاله، فإنه لا يشتغل إلا داخل الممارسة الخاصة. هكذا، حين فتحنا نسق اللسان على التنافر الذي يتضمنه، حتى وإن لم يشتغل فيه دائماً، وجدنا غريزة العدوانية، الرفض، السلبية أو ما يسميه فرويد غريزة الموت، في أساس الفاعلية الدالة. هذه القوة التي يعتبرها فرويد صامتة ولا تتمظهر إلا داخل الاضطرابات الغريزية، تبدو لنا كقوة للغة نفسها ولكل ممارسة. إنها نفسها ما يتكلم أكثر، بعيداً عن أن تكون صامتة، غريزة الموت وتكرارها هو ما يتكلم؛ لأنها تجدد الكلام مع تهديده بالتغيير أو الإلغاء.

يمسك الفن والأدب، ما لم تعرف اللغة أن تحافظ عليه من هذه الغريزة، ويعيد تنظيمه داخل جهاز سيميائي جديد، ومن هنا كذلك، فهو ليس سداً لأجل السلبية المؤثرة على الجسد والهيكل الاجتماعي، بل هو الميكانيزمات التي بها يعيد المجتمع بناء تنظيمه- الذاتي الدال، بحيث إن الاقتصاد الذاتي لعناصره يتعرف عليه داخل ممارسات دالة مقبولة اجتماعياً. هكذا، يتبوأ الفن بالقانون الاجتماعي- الرمزي، بوضعه كموقع جدلي بين النسق الرمزي والتنافر الغريزي الذي يؤثر فيه بتهديده، ويبين إمكانية خرقه في نفس الوقت. إنه يمفصل الاقتصاد الغريزي للذوات في سنن مقبول اجتماعياً. نقول إن هذه الجدلية هي شرط للمتعة نفسها، وأن "الشعر" هو الذي يمثلها عبر نسق اللغة.

لكن، بلغ هذا الاقتحام الغريزي منذ الثورة البورجوازية، وعلى الخصوص عند نهاية القرن التاسع عشر، وهذا الهجوم للسلبية ضد القانون الاجتماعي- الرمزي، أبعاداً مجهولة للمجتمع الغربي. وتغيرت داخل نفس الإجراء، الوظيفة الجدلية للفن لتأكيد متعة الذوات عبر إمساك ونفي المحرم.

وفيما يخص اللغة الشعرية، هذه الجدلية لم تعد تعرض من الآن داخل تنظيمات قبل واعية التي يعالجها العروض. وعموماً العروض التقليدي، بل أصبحت تمس ميكانيزمات لاواعية عميقة: انفعال الغرائز. إذن، يستنتج نص منها يعطى كجهاز سيميائي يقلب معيارية لغة التواصل: معجمها، تركيبها، علاقتها السياقية، محافلها الذاتية. لكن، لا تعمل كل هذه التغييرات إلا على تسجيل انقلاب عميق داخل وضعية الذات المتكلمة. لم تعد محتملة وضعية السيطرة المتعالية للفعل التخاطبي: المحفل الثابت لذات غائبة عن قولها، متأكدة من هيمنتها، وهو موضوع كإجراء، إذا كانت المخدرات والجنون تمثل هذا الوضع كإجراء تحت الشكل الأكثر عنفاً، يميل النص إلى إنتاج جهاز سيميائي، ينخرط في هذا العنف مع مجمعته.

إذن؛ إنه يتموقع كوسيط بين اقتحام الرفض، وتوحده الجديد المؤقت والزائل. هكذا، يجدد أنواع التلفظ الجديدة، وينتج منها أخرى تتلاءم مع الوضعية الجديدة الغريزية والاجتماعية. تمس هذه الممارسة عبر الموضوع المتضمن فيها -رغم كونها تغييراً سيميائياً- الأماكن العصبية للجهاز الاجتماعي. ويسائل، كل من الاختلاف الجنسي، والوظيفة الأبوية، والمتعة التناسلية وعبرها العائلة، والمجموعة الاجتماعية، والسلطة الدولية، والسلطة الدينية... ولم تكن اللغة الشعرية، التي تغير علاقة الموضوع إزاء المحفل الرمزي - الأخلاقي، وإزاء الوحدة والسيطرة، لغة بالمعنى العادي إطلاقاً لتشكيل يساعد على التواصل. ومن الآن، ستصبح أكثر من أي وقت مضى وسيلة للفعل داخل إجراء التحول الاجتماعي، في نفس الوقت الذي تسجل هذا الإجراء.

تشكل المتعة لا نهائية للمعنى: إمكانية لفتح إجراء لانهائية الدلالة باقتحام الغرائز داخل وضعية المعنى نفسها، التي تقوم هنا بوظيفة الحد والوصل. في إطار تكوين نموذج ذاتي، تحقق التناسلية هذه اللانهائية في الحدود التي تعقب الوضعية القضيبية /أو امتلاك السيطرة الرمزية. ينتج عن ذلك أن النص بما أنه لا نهائية للمعنى، يكون له جزء مرتبط بالتناسلية: إنه لغتها، الدراما والبرهان المشترك.

 لكن، تكون التناسلية داخل بنية كل مجتمع -قطيعات لا نهائية للسنن- مسننة في الحدود التي تؤكد إعادة إنتاج الجنس. هذا يعني أنها مسننة بشكل مفارق بحسب وجهها القابل للدلالة باعتبارها أساساً نهائياً للاجتماعية. إذن، يشد النص الانتباه إلى مكبوت هذا الشرط الأولي للاجتماعية الذي هو إعادة الانتاج، بقدر ما يعيد الاعتبار للا نهائية المعنى والتناسلية التي يتضمنها. هكذا، يدخل في تناقض معها، في نفس الوقت الذي يرتبط مع تجديده. ويكون ذلك على مستوى الأساس الاجتماعي نفسه: تظهر السلطة المركزية بكل هشاشتها الصنمية، العائلة، إعادة الإنتاج، حيث داخل دولة كدولة الجمهورية البورجوازية الفرنسية، هذا الرابط (العائلي، لإعادة الإنتاج) يبدو كاضامن أخير للاجتماعية: يقاس به مبدئياً النص، داخل اقتصاده السيميائي بل في مدلوله كذلك. ولن يمنع مثل هذا الميول الموجود منذ الحكايات الشعبية، لرابلي أو ساد، من ملا حظة أن نتاجه يدمر وحدة الموضوع نفسه، ونسق اللسان في نهاية القرن.

تؤكد علاقات إعادة الإنتاج بقاء الرابط الاجتماعي الفصامي بالرأسمالية. وهذا يعني أن الأم، تستعد لأجل أشكال اللاوعي، امتياز البقاء والسلطة الاجتماعية. لكن حينما تعرف هذه السلطة؛ فإنها تنتظم بجانب الرمزي، والمؤسسات، والأجهزة وبالبنيات التي لا تعترف بـ"الخصوصيات الأنثوية" التي تخضع إشكالية إعادة الإنتاج للإنتاج. داخل هذا الفضاء الرمزي، تكون الأم- المرأة نكرة أو مصنمة: تسقط متعتها تحول وتفتقد، وتبقى الوجه الآخر لوظيفة إعادة الإنتاج، بل المتعة كاقتحام غريزي ولا نهائية للمعنى، غير قابل التدليل عليها. يحاول وحده النص، بموسقة اللغة، أن يستكشف هذه المنطقة بتنظيم الحركة التي بها يحقق موضوعه سيرورة الاختلاف الجنسي باعتبارها اقتصاداً للغة. لكن، يبقى هذا الاستكشاف متقارباً مع مرجعه، لاسيما وأن مدلول النصوص، المتحفظ، والثمين، لا يدل بتعابيره الخاصة على التحول النموذجي، الذي تخضع له الذات داخل التناسلية وفي المتعة.

هاهي الشروط الموضوعية مجتمعة لكي يصبح النص مكاناً للتقديس -ومخزوناً لسلطة رمزية مهملة من طرف الدين فيما بعد- وبالتالي تضمن التحول البطيء، ضد القطيعة الاجتماعية. وأمام جدليته، نفاد الصبر الثوري يبقى غير مشبع. لا تحتفظ المتعة الأنثوية المذكورة من النص، إلا بقطيعات الرمزي، بل إنها لا يتعرف عليها لا داخل التلفظ (دائماً ثانوية، غريبة بالنسبة للسيميوزيس الغريزية)، ولا داخل القوة التقديسية للفنان (دائماً من جانب التمثيل المتشاكل، حيث إن المرأة لا توجد بما أنها كذلك).



التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها