السلال الفارغة

سريعة سليم حديد

انحسرت مياه الطوفان، فغصَّت الأرض بالرخاوة واللزوجة، ارتفعت حرارة الشمس تمتصُّ الرطوبة تاركة خرائط بيضاء من شقوق متقاطعة امتدَّت على اتساع جوانب البحيرة.

تنهَّد الصبح حين قدمت النسوة الثلاث يحملن السلال، فبدون تحت غلالة الضباب الكثيف أشباحاً متباعدة متنافرة، وقد أبهج قلوبهن منظر قبّعات الفطر البيضاء المنتشرة بكثافة في أماكن متفرِّقة.
انفردتْ إحداهن بواحة وافرة من الفطر تجمعه، تقذفه في السلّة بمتعة، تنظر بعين اللهفة إلى ملئها بسرعة. امتدَّت خطواتها داخل المساحة الرخوة، لم تشعر إلا والأرض تشدُّ قدميها إلى الأسفل لم تبالِ، تابعت عملها، انغرزت بخطوة قويَّة حتى الركبتين، حاولت التخلص بالعودة، فلم تستطع، راحت تنزلق رويداً رويداً في الرخاوة المذهلة والرائحة المتقلـِّبة، انطلق صوتها بالصراخ، ازداد توتُّراً عندما وصل الطمي خصرها، أحسَّت بثقل غريب، وصعوبة الانتقال في مدار خطوة واحدة، تسمَّرت الدهشة تشهد تقهقرها، صرخت مستنجدة.. بكت.. وهي تتخبّط في لجّة الطين، انتبهتْ إليها المرأة الثانية، ركضت نحوها، وقد راعها المنظر، اقتربت منها بخطوة واثقة على أرض جافّة، أمسكت بيدها وبعزم الخوف واللهفة، راحت تشدّها، إلا أنَّ المرأة المستغيثة لم تستطع الخروج، انداحت تنزلق ببطء حتى وصل الطمي صدرها، والفطر المحيط بها ينقلب ليغوص معها، ربما كان بودِّه أن يشكِّل عثرات تمنع جسدها من الانغماس، فغرق يلهث معها، وهي تصرخ: ساعديني أرجوكِ، قوَّة هائلة تسحبني نحو الأسفل. أحسَّت بقسوة السنوات الطويلة التي سُحقت في معالجتها للعقم تضغطها كلما حاولت رفع جسدها إلى الأعلى، وحبل العلاقة الزوجيَّة الشائك يلفُّها ويئدها بعنف.
صرخت المرأة الأخرى: إنّك تسحبينني نحو الموت، اتركيني، لن أقدر على إنقاذك، واشتبك صراخهما بقوَّة غريزة حبِّ الحياة، لم تنتبه إلى نفسها إلا وقد انزلقت في الرخاوة اللزجة الباردة، وهي تنظر إلى المرأة كيف تصارع الموت بلا مغيث، جاحظة العينين، محمرَّة الوجه، متشنِّجة اليدين، تزدرد صوتها، تنفر من عينيها الدموع، والأرض تبتلعها بهدوء، لم يبق منها سوى منديل رأسها الملوَّن طافياً فوق رغوة دوائر الجسد الغائر، مطرَّزاً بلهاثها الحار، ورائحة الموت المفاجئة، بينما المرأة الثانية التي لم تفلح في إنقاذها راحتْ تشيِّعها بلهيب نظرات الحزن والدموع والأسف والرحمة، بدأت الرخاوة تشدُّ قدميها إلى الغوص بجانبها، وهي تومئ إلى المرأة البعيدة بالإسراع إليها تصرخ مستغيثة.. تتلجلج في بركة الطين، وصوتها يتحشرج في صدرها، فلم يكن بمقدورها تحمّل منظر المرأة وهي توأد أمامها بين أيدي الفطر والضباب، ارتخى جسدها منزلقاً نحو الأسفل بقوَّة سنوات حياتها الزوجيَّة الملوَّثة بطين القهر وظلام الخيبة، ترفعها إلى الأعلى ملامح وجوه أطفالها ودموعهم وحاجتهم إليها، لكن أية محاولة في التجذيف كانت فاشلة، هاجت في لجَّة أفكارها فاعتصرها ضغط غريب، لم يعد بوسع جسدها الارتجاف لأنه ملبس بكتل طينيَّة هائلة حتى صدرها.
جذب صراخها المرأة الثالثة ركضتْ ملهوفة، عندما وصلت إليها كانت تخاف الاقتراب من لجَّة الطين، لكن صراخ المرأة المستغيثة دفعها إليها بقوَّة، وضعت قدمها على حجر ناتئ، ازدادت كثافة الضباب، عندما انغمست في اللزوجة، أحسّت بخطورة التقدّم، لم تبالِ، شدَّت أحزمة الثبات والحذر ممسكة يد المرأة المستغيثة التي جذبتها نحوها بقوَّة الخوف المتدفقة على أطفالها، صرخت الأخرى مذعورة:

إني أنزلق معك، اتركيني، وإلا متنا معاً، انهارت قواها هاجت في نفسها رغبة التراجع، ولكن هيهات، وجسدها يشدُّه ثقل غريب، راحت تغوص فجأة، وكأن بحراً من الطمي انداح تحتها، اعتراها رعب شديد، تدفَّقت الدماء في أوصالها، وطفا ظلم في أعماقها على فوات العمر مع رجل مزواج عقر حياتها بكيِّ القهر والفشل، فلا أمل يرفعها، ولا ولد يبكي عليها، راحت تغوص ببطء، تتخبَّط، وهي تنغمس في قلب الطين نبتة ذابلة، يمتصُّها الموت بهدوء.
التقت نظراتهما فوق المنديل الملوَّن الذي كان يشدُّهما وصاحبته إلى قيد رجل قاسٍ، هامت فوق المكان غربة ودهشة بأن تشرب الزوجات الثلاث آخر قطرات الموت معاً وبكأس واحدة، اختنقت الأصوات داخل لجَّة الطين، وطفت على وجه الأرض رائحة قهر وحكايات ذابلة.
دار مثلث الموت دورته، ليس مثلَّث (برمودا) بل هو قبضة من تراب، سوَّاها الخالق، نفخ فيها روح زوج، سحق فيهن أحاسيس أزاهير نضرة، وقف في موطن الحكاية يشهد جنازة صامتة، تغور بهدوء يشيّعها هودج الضباب، ورائحة البرودة، وقبّعات الفطر الملطخة برذاذ الطين المقهور، ينظر إلى القبر الموحَّد، كيف ينزف صراخاً وعذاباً تحت الغصَّة المرَّة؟! وهو يبتلع نظرات الحزن في أعماقه الهائجة، يبحث عن عذر للطمي المستباح في أعماقه.

غادر يجر القهر والخيبة، تاركاً شاهدة ملوَّنة خرساء كُتب عليها ثلاثة أسماء لنسوة كنَّ له زوجات، وثمة سلال فارغات مقلوبات انغرسن حتى خصورهن في الطين، ورياح راحت تردد نحو البعيد صدى موال حزين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها