بين وحدة الإنسانية.. وتعدد الثقافات؟!

د. رضوان العماري

لا جدال في أن موضوع الثقافات والحداثة ووحدة الإنسانية بحاجة إلى التناول بشكل منفرد، فقضية الثقافة تطرح نفسها اليوم بقوة أكثر في ظل العولمة، وما يرافق ذلك من إشكالات من قبيل الغزو الثقافي والاستيلاب الحضاري، أو الانفتاح والتعايش والتواصل الحضاري، ونفس الشيء يتعلق بالحداثة خصوصاً في ظل الدعوات إلى القطع مع التراث، أو إعادة قراءته كي يسير مواكباً لروح العصر بخطاب مغاير للسابق خصوصاً فيما يتعلق بتصور هذا التراث للآخر المختلف. والأمر يطرح مع مسألة الإنسانية خاصة في الوضع العالمي الحالي، الذي يعرف عنفاً وإرهاباً. ولتسليط الضوء على الموضوع وإثارته نتوقف مع الكاتب الفرنسي فيليب ديريبارن Philippe d'Iribarne، ورؤيته لقضية الثقافات والحداثة ووحدة الإنسانية.

يرى فليب ديريبارن في البداية أن فهم ما يتعلق بالثقافات واستمراريتها، والكيفية التي تأثر من خلالها على سير المجتمع يصطدم بصعوبات كبرى. فاستعمال مصطلح "ثقافة"، أو إثارة ما يتعلق بإرث القرون الماضية في حياة مجتمع ما، يتسبب في تدخل طفيلي لأسطورة مُؤسِسَة للمجتمعات المسماة "حديثة" في النقاش. وحسب هذه الأسطورة، فإن ظهور الأنوار أحدث قطيعة جذرية في تاريخ الإنسانية. يقول ديريبارن: "لقد تم رفض نظام تقليدي مرسوم بثقل الأفكار المسبقة الموروثة عن الماضي، والانغلاق داخل خصوصيات ما هو محلي. وحل محله نظام حديث هو ثمرة للفعل العقلاني للأفراد الذين تحملوا مسؤولية مصيرهم بأنفسهم، بفعل تحررهم من أغلال التقاليد، وولجوا بذلك رحاب الكونية". هذه قضية جوهرية كانت وستبقى دائماً موضوع النقاش؛ إذ إنه ليس كل ما هو تقليدي معيق وضد الحداثة، بل التقليدي مساعد كذلك على تبني ما هو حداثي، وهذا راجع إلى طبيعة التفكير والمفكرين.

هذا الأمر أكده ديريبارن؛ إذ يرى أن الذين يحتفلون بالتحرر الجذري للإنسان الذي يُفترض أن الحداثة أنتجته، يلتقون مع الذين يدينون نتائج هذا التحرر لتقديم تصور عن الحداثة لا يتطابق بالمرة مع الواقع. إن أحكام القيمة الصادرة عن الفريقين متناقضة بالتأكيد فيما بينها تناقضاً جذرياً. فالفريق الأول بحسبه ينظر إلى ثقل الموروث كعائق يحول دون تحرر كامل للفرد، وعائق دون تحقق عالم أفضل. أما الفريق الثاني فينظر إلى الموروث كعنصر مؤسِّس لحياة اجتماعية، وهو ما يقوده للنظر إلى فقدانه ككارثة ستصيب الإنسانية. ولكن الفريقين معاً، سواء عبر الاحتفال بالحداثة أو التأسف على قدومها، يقرنان الحداثة بتدمير الموروث. والفريقان معاً بتصورهما يمكن اعتبارهما معيقان في طريق الحداثة، بل ضد ما هو كوني، وضد تعدد الثقافات.

هذه القضية أي تعدد الثقافات حسب ديريبارن كان مؤسسو الأنوار واعين بها، ولم يتخيلوا أبداً أنه بالإمكان التخلص من هذا التعدد، بل كانوا يعتقدون أن على المشروع أن يتلاءم مع هذا الوضع.

هذا التمثل الخاص بالثقافة باعتبارها مجموعة من الأفكار المسبقة والعادات حسب ديريبارن، هو: تمثل حاضر حضوراً قوياً في أيامنا هذه في صلب العلوم الاجتماعية. وهو تمثل يطعم نقد "النزعة الثقافية"، وهو المصطلح الملائم لإثارة كل تمثل عن المجتمع يعزو دوراً معيناً لتأثير الثقافات الموروثة، وبدون تمييز دقيق. يعني الحديث عن الثقافة، بالنسبة لهذا التصور النقدي، تجاهل الدور الرئيس للفعل في وجود مجتمعات أي نسيان التاريخ، التغير الدائم للناس والأشياء، والانغلاق داخل تصور سِمتُه الجمود والثبات.

ولفهم ما يتعلق فعلاً بالعلاقات ما بين الحداثة والثقافات الموروثة، بعيداً عن الأسطورة، يرى ديريبارن بأنه يجب التمييز بشكل دقيق ما بين مستويين، فهناك من جهة ما يؤسس تعارضاً كبيراً له علاقة بالهوية، أي تصورات عن النظام الاجتماعي، إلى جانب صراع بدون هوادة فيما بين أولئك الذين يقدسون النظام التقليدي، وأولئك الذين يرفضونه. وعلى هذا المستوى؛ فإن حركة التحرير التي أتت بها الأنوار تمثل قطيعة أساسية، وهناك من جهة أخرى، المقولات التي يستدعيها كل فرد للتفكير في العالم، وما تدين به هذه المقولات، بدون علم من يستعملها لتصور موروث. وعلى هذا المستوى الذي من الضروري التعلق به إذا أردنا التفكير في تنوع العالم.

علاقة بالتنوع يتساءل ديريبارن: ما معنى أن يكون الفرد متحرراً؟ وفي جوابه يقول: "إن ذلك يعني، بالتأكيد، الانتقال من العبودية إلى الحرية. ولكن ماذا تعني العبودية بالتحديد؟ ما علاماتها؟ وفي ارتباط مع ذلك، ماذا تعني الحرية؟ لإدراك ما يعنيه كون الفرد متحرراً يجب امتلاك تمثل حول ما يشكل خاصية الإنسان الحر. في الكيفية التي تتجسد عبرها فكرة الحرية يتسرب تنوع الثقافات إلى أن يصل إلى الجزء الأكثر سرية، حيث يتكون فكر الحرية. ويظهر هذا بوضوح لما نقارن ما بين تصورات الحرية التي تقف وراء ديناميكية أولئك الذي يفترض أنهم الأكثر تحرراً من كل نزعة من نزعات الخصوصية الثقافية كيفما كانت، أي فلاسفة الحرية. فكل واحد منهم، وبالرغم من اعتقاده أنه يفكر في الحرية بالتطرق لماهيتها الكونية، يظل متأثراً بالبديهيات الخاصة بالثقافة التي تكون ذهنه بداخلها". فالرغبة في الحرية تتخذ معناها مثل بقية جوانب الوجود، في المشهد المرجعي الخاص بكل مجتمع. تتعلق الصيغة التي تظهر عبرها تلك الرغبة والتمثلات والممارسات المقترنة بها بالخطر الكبير الذي يتم الشعور به، وطرق الخلاص التي تعتبر قادرة على تجنب ذلك الخطر. وحسب المشهد المرجعي الذي يتم التواجد بداخله؛ فإن الأهم ليس هو نفس أشكال العبودية ولا نفس أشكال الاستقلال الذاتي.
 

وحدة وتعدد البشرية

انطلاقاً من هذه الفكرة يتساءل ديريبارن: هل يترتب عن تعدد الثقافات وجود العديد من الإنسانيات المتوازية، والتي تعيش في عوالم معان مختلفة جداً إلى حد أن كل تواصل حقيقي بينها يعتبر أمراً مستحيلاً؟ أم أن ذلك التعدد متلائم مع وحدة معينة للإنسانية؟ لكن إلى أي حد؟ يعلق ديريبارن بفكرة رائعة قائلاً: "في الواقع، فيما يخص جوانب الوجود التي هي موضوع التفكير هنا؛ فإن هذه الوحدة حاضرة فعلاً على مستويين، فمن جهة تشترك الإنسانية في المخاوف الرئيسية المشتركة، حتى وإن كانت مختلف الشعوب تركز على مخاوف مختلفة. ومن جهة أخرى، لا تنعدم رسائل ممكنة للخلاص بدرجات مختلفة تأخذ معانيها من سيادة المخاوف المتنوعة جداً".

 

وحدة التجارب القاعدية وتنوع الثقافات

حسب ديريبارن لقد جرب جميع الناس الإلقاء بهم في عالم يتجاوزهم، عالم ملغز ومقلق. وإذا اتخذ تخوف ما طابعاً بارزاً خاصاً، من بين العديد من المخاوف التي تنقض عليهم، فإن التركيز عليه يؤدي إلى وجود إمكانية تمكن، بتجنب ذلك التخوف، من تجنب –وبشكل شامل- القلق المتفشي الذي يلازم وجودهم في العالم. وتؤسس قدرتهم على الدخول في عملية من هذا القبيل –على صعيد المجتمعات- وجود التمثلات والممارسات التي تسمح بتجنب قلق منتشر، خاصة إذا كان هذا الأخير موضوع تركيز بالشكل المطلوب. يقول ديريبارن: "نمتلك هنا خاصية مشتركة للإنسانية، لا يمكن لأي مجتمع ادعاء أنه تجاوز صيغة الوجود في العالم للولوج لعلاقة عقلانية صرفة مع الوجود".

 

ثقافات ووسائل كونية للخلاص والقيم

وفقاً لرؤية ديريبارن تُستقبل العديد من الحركات الفكرية والديانات والإيديولوجيات، التي تطمح لمخاطبة الإنسانية بأسرها، في ثقافات جد مختلفة، وهذا الاستقبال يمر عبر إيجاد تسوية مع الطرق المحلية لمنح المعنى. لكن وجود هذا النوع من التسويات لا يعني أن الذين تلقوا نفس الرسالة داخل ثقافات مختلفة لا يشتركون في أي شيء. سيكون من المبالغ فيه القول بأنه لا وجود لأي شيء مشترك بين ما يقصده إنجليزي وفرنسي وألماني بـ"الحرية"، فبالنسبة لهم جميعاً يتعلق الأمر بعلاقة معينة ما بين فرد وشيء ما، إنها قوة توجد بمعنى ما خارج الفرد (حتى وإن تعلق الأمر بميولات شريرة ينظر إليها وكأنها تنتمي للذي يبحث عن التحرر منها). يتعلق الأمر بالصراع ضد تأثير هذا الكيان الخارجي، حتى وإن كنا لا نواجه، من ثقافة لأخرى، نفس الكيانات ونفس الكيفيات المستعملة لمحاربة تأثيرها.

وبصفة عامة يرى ديريبارن أن طرق الخلاص التي تقترحها الرسائل التي تقدم نفسها باعتبارها كونية هي قابلة لأن تتداخل، بكيفية متميزة، مع ما يُخلّص حسب اختلاف المجتمعات. يقول: "لا شيء يمنع بالتأكيد هذه الرسائل التي تسلط عليهم. ويمكن أن يتحول البعض تحولاً عميقاً بفضل هذه الرسائل بسبب "انفتاح طرقات في القلب". ولكن ينتظر من هذه الرسائل، على الأقل، أن تقوم بدور المجنب للأخطار، وهذا ينتج عن الكيفية التي تحصل عبرها على معناها، والكيفية التي تُلتقى بها".

وفي نفس السياق، يرى ديريبارن أنه يمكننا أن نستعمل من جديد نفس طريقة التحليل حين نتحدث عن القيم. فبعض القيم الكبرى المجردة توجد في مجتمعات متعددة (بل توجد بشكل كوني). يكمن أن نتحدث في العديد من الأماكن عن الحرية والمساواة والكرامة. وبمجرد ما نتساءل عما يترتب عن تجسيد قيمة ما، وعن تطبيقها، وعن إطار المعنى الخاص بكل مجتمع، تتدخل التجارب المؤسسة الخاصة التي ترمز في ذلك المجتمع إلى امتلاء الموجود من جهة، والحرمان من جهة من أي عون.

ومع ذلك، إذا تمكنت رسائل الخلاص الكونية من أن تتداخل مع ثقافات جد متنوعة، فإن رسالة محددة لا تتعايش في انسجام رغم ذلك في جميع الثقافات. يقول ديريبارن: "ويمكن أن نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى تجسّد الرسالة التحريرية الكبرى التي حملتها الأنوار في المجتمعات الأوروبية أو الثقافات الأوروبية. لماذا، إضافة إلى ذلك، اتخذ التجسّد شكلاً راديكالياً في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. لا ينفصل ذلك بدون شك عن الإحساس بأن شكلاً معيناص من أشكال الخضوع لقوة خارجية، في هذه البلدان هو بمثابة خطر كبير، والإحساس بأن الحماية من هذا الخطر هي طريق الخلاص بامتياز. وعلى العكس من ذلك، اعترضت صعوبات عدة تلقي هذه الرسالة، واعترضت تحقُّقَ ديمقراطية تعددية في مجتمعات مثل: الصين والبلدان العربية، حيت تم الإحساس بأن التفرقة هي التي تشكل الخطر الكبير. في هذه المجتمعات، يشكل حضور سلطة قوية تحظى بالإجماع (في الصين)، أو وحدة فكرية شاملة (في البلدان العربية) عناصر أساسية لطريقة الخلاص التي تم تفضيلها على غيرها. إن انتشار ديمقراطية تعددية يفترض اختراع أشكال مؤسساتية تأخذ بعين الاعتبار هذا العامل، وبالتالي فهناك عمل كبير يجب القيام به لتحقيق ذلك". إذن؛ فالطريقة التي يتم عبرها استقبال هذه الرسائل الكونية داخل كل ثقافة لا تتعلق فقط بخصائص الرسالة والثقافة المعينة، ولكنها تتعلق أيضاً بمدى نجاح عملية الربط الضروري بينهما.

أخيراً؛ يتضح جلياً أن التطرق لقضية الثقافات والحداثة ووحدة الإنسانية جملة واحدة، وربط بعضها بالبعض ليس بالأمر السهل، إلا أن ديريبارن يمكن القول إنه قد وفق في ذلك، حيث قدم الموضوع بهذه الطريقة والتي بها أبزر فعلاً تداخل المواضيع الثلاثة. ويبقى السؤال المطروح: هل يمكننا الحديث عن وحدة إنسانية في ظل تعدد الثقافات؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها