"لوركا".. والخَيالُ الرّمزي!

قِراءةٌ نفسيّة في مسيرته التّشكِيليّة

الزبير مهداد



انجذب لوركا نحو الفنون في حداثة سنّه، فتعلّم العزف على البيانو، وردّدَ الأغاني الشَّعبية، وشخّص المسرحيّات، واهتم بالرسم أيضاً. شرع لوركا في الرسم حين كان طالباً يسكن في إقامة الطلبة بمدريد، حيث التقى مع خوان خيمينيث، وماتشادو ودالي وبونويل، احتكاكه مع هؤلاء المبدعين، حفّزه على ولوج عالم الفنِّ، وطرق أبواب الإبداع الشعري، والموسيقي والتشكيلي والمسرحي، فكان يزين مذكراته ورسائله ومخطوطاته برسوم مفعمة بالخيال والاستيهامات الغريبة، كما وجه، أو تبادل مع كثير من الكتاب الإسبان المعاصرين له عدة رسائل، زينها بتوقيعاته الفنية والرسوم الأيقونية، والتخطيطات النباتية، التي كانت تشخص براعم تنبثق منها أوراق وزهور نمطية صغيرة.
 

في عام 1921 أصدر لوركا باكورة أعماله الشعرية "كتاب الشعر Libro de Poemas"، وكان عمره آنذاك 22 سنة فقط، زين النسخة التي أهداها لأحد أصدقائه برسوم تمثل مشاهد من مدينة غرناطة وقصر الحمراء.

واصل لوركا تخطيط وتلوين رسوماته الخيالية والفطرية التي كان يقدمها لأصدقائه. بعض شخصيات رسومه مستوحاة من شخصيات مسرحياته، التي استلهمها من الأغاني الشعبية القديمة من القرنيْنِ الرابع والخامس عشر، والتي كان من عادته أن يغنّيها أثناء عزفه على البيانو.

زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العشرينيات، أحدثت انقلاباً ثقافياص هاماً في حياته، وطبعت فعاليته الثقافية بطابع جديد. فأسس عام 1931 مسرح العرائس، ثم المسرح الجامعي الجوال، الذي سماه "البراكة" (La Barraca)، وهو اسم كان يطلقه الأندلسيون العرب على الكوخ. أسهم لوركا كثيراً في رسم ديكورات المسرحيات، وتخطيط الملصقات الإعلانية.

لوركا رافقته رسوماته طوال حياته، في تصميمات ديكورات مسرحه، وإهداءات كتبه، وفي الرسائل والبطاقات البريدية التي كتبها لعائلته وأصدقائه، وأقام المعارض بشكل فردي، كما شارك في معارض جماعية مع فنانين آخرين.

يشمل عمل لوركا التصويري العديد من الموضوعات والأشكال التي يعبر من خلالها عن الواقعية والسوريالية. في رسومه، تبرز هواجسه النفسية، وروحه الطفولية وفطريته التي تتجلى في التفاصيل. فالرسومات تُستخدم كوسيلة للتعبير عن المشاعر الأكثر قمعاً في اللاّوعْي، فمن خلالها تظهر معالم شخصيته، وحالاته المزاجية، بالإضافة إلى حاجته إلى التواصل. إن الرسم يُظهر العاطفة والمزاج، وهو طريق للتواصل مع الخارج، ومظهر من مظاهر الداخل.

في المسيرة التشكيلية للروكا، يمكن التمييز بين مرحلتين:
1- المرحلة الأولى؛ بدأت عام 1923 مرحلة القلق الوجودي، تجسمه سلسلة من الرسوم والتخطيطات، تجسد مضامين قصائده الشعرية في "أغاني الغجر"، و"قصائد الغناء العميق"، ومجموعة متنوعة من الموضوعات.
2- المرحلة الثانية؛ وهي مرحلة تأكيد الذات، تبتدئ من يوم عودته من رحلته إلى الأمريكتين، وفي هذه المرحلة طغى الطابع السوريالي على رسومه، التي عبر خلالها عن رفضه للحضارة الحديثة والهيمنة الأمبريالية.

كما في الشعر، يؤكد في رسوماته على استخدام الاستعارات، ورؤيته الدرامية، وأساطير الجماعة. الرموز وفيرة في أعمال لوركا، وخاصة تلك المتعلقة بالموت، مثل القمر، والمياه، والدم المسكوب، والنباتات، وغير ذلك من الرموز التي تعد رسائل أيقونية تحمل دلالات شتّى.

الرسومات الأولى

إن الرسومات التي أنجزها لوركا في "الأغاني الغجرية"، و"قصائد الغناء العميق"، لها خصائص مشتركة. في هذه المرحلة، عانى لوركا التضييق الذي مورس عليه بسبب مواقفه الثقافية وميولاته الذاتية، ولكنّه أظهر المزيد من الصلابة والتوتر العاطفي. وهو ما يترجمه بقوة في رسومه لـ"سوليداد مونتويا"، و"أنطونيطو إل كامبوريو".
 

سوليداد مونتويا، 1928:

تضمن الديوان الغجري قصيدة الألم الأسود التي تصف حياة البدوية الغجرية سوليداد مونتويا، التي تشرح لمحاورها آلامها التي لا تنتهي. في القصيدة يتم تمثيل فكرتين اجتماعيتين. فسوليداد تمثل الجنس الأنثوي، والصورة النمطية الخاطئة عنها، باعتبارها كائناً عاطفياً غير عقلاني، ورمزاً للإثارة الأنثوية الآثمة، ما يحتم على المجتمع أن يقوم بدور المراقب لكبح جماحها، ومنع أي سلوك يتعارض مع التقليد الاجتماعي، في حين يمثل محاورها العقلانية التي تفتقر إليها.

رسم سوليداد مونتويا يتصدر المشهد، الخطوط منحنية تعزز السمات الأنثوية، والحس الجمالي، وروح الأمومة، والعاطفية، وحساسية الشاعر. أما الخطوط المستقيمة التي يمكننا رؤيتها في الجزء الأيمن العلوي من الرسم، وفي الهامش الأيمن من الورقة؛ فإنها تحتوي على بعض التموجات التي قد تشير إلى بعض التوتر والقلق.

تبدو سوليداد مونتويا جامدة كما لو كان محبوسة في عالمها، محرومة من حريتها. والرأس الذي يرمز إلى موضع الأنا، العقل، جعله الرسام صغيراً، بشكل لا يتلاءم مع حجم الجسد، إشارة إلى الإحباط الذي تعانيه سوليداد، إلى الصورة النمطية الخاطئة التي تقدمها ككائن ناقص، عديم الكفاية العقلية. هذا الرأس تميله سوليداد جهة اليسار، تعبيراً عن الحنين إلى الماضي لعله أكثر سعادة.

الجسد يرمز إلى العاطفة، الكتفان عريضان وقريبان من الجسم الذي يتجه للأمام، ما يشير إلى الاستعداد لمواجهة العالم.

هناك بعض التفاوت في الجسم، فالوركان مكتنزان، والخصر وهو الحد الفاصل بين الجنسي والعاطفي، جعله الرسام ضيقاً، ما قد يشير إلى تقييد قسري للحركة، وصراع نفسي للسيطرة على الغرائز.

في الخلف صليب كبير مثبت على الجدار، وعبارة hombre (رجل) متراكبة، يمثل الضغوط والقيود التي تعانيها النساء في مجتمع تقليدي ذكوري محافظ، كما تبدو حانة داخل الدرب تظهر من الباب الخلفي المفتوح. وهلال. وكلها تفاصيل تحمل رموزاً تدل على الخيال الغني للشاعر، وارتباطه بعالم الغجر البوهيمي.
 

أنطونيطو ​​ إل كامبوريو (1928):

خصص الشاعر في ديوان الغجر قصيدتين لأنطونيطو إلـ كامبوريو، تحدث عن اعتقال الجنود للشاب الغجري المسالم أنطونيطو في طريقه إلى إشبيلية، واغتياله بدم بارد، بدون جرم ارتكبه، سوى أنه غجري. وتعد من أجمل قصائد لوركا التي تدين لا تسامح السلطة والمجتمع، وقمع الأفراد والأقليات من حقها في الاختلاف.

الحادث شخصه لوركا من خلال عدة رسوم، كرّرَ فيها ملامح أنطونيطو بشكل نمطيّ في وضعيات مختلفة، ضَمَّنَها السمات التي يمكن على ضوئها تخيل غجري لوركا الشاب الوسيم ورسم ملامحه.

يحتفظ تصميم أنطونيطو إلـ كامبوريو بخصائص تصميم سوليداد مونتويا، طويل القامة وصلب، الرأس مائل إلى اليسار والعينان والحاجبان والشفتان بارزة للغاية، والرقبة عريضة.

تبدو ملامح الصلابة على الشخصية، والجسم موجه للأمام، بينما الرأس مائل إلى اليسار، دلالة على الليونة. الصدر يتسع نصفه الأعلى، للتعبير على الشباب والفتوة، واللباس يحمل زخارِفَ تقليدية من التراث الأندلسي، أما سمات الوجه فتعبر عن الطبع المسالم لصاحبها.

من خلال النسخ العديدة التي أنجزها لوركا للصورة النصفية لأنطونيطو، ثَبَّتَ الرسام المشهد النهائي لصورة الغجري في رسومه، في صورة غجري أصيل، يمثل أنموذجاً للجمال والاعتزاز بالذات، والقيم الممثلة في القصص، سمات يمكن تطويرها لتحديد هوية قومية أندلسية. ويجسد الموروث الرومانسي للقرن 19، بقبعة مخروطية، وقميص مزرر، ومعطف قصير، وقميص دائري العنق، بما يحمل من زخارف الدانتيل، فلوركا الغرناطي كان وفياً لمدينته، ومن خلال رسومه وقصائده كشف الغطاء عن الثقافة الغرناطية المهمشة بدفئها وحيويتها وسحرها، والتي لم يعن بها أحد.
 

المرحلة الثانية (النيويوركية)

الشاعر في نيويورك 1929

أنجز لوركا خلال إقامته في نيويورك رسوماً على الورق، منها مجموعة بعنوان "بورتريه ذاتي في نيويورك"، أنجزها بالحبر الصيني أكثرها بدون ألوان. تحمل مسحة من التلقائية وحرية تعبير متخلصة من قيود الوعي.

هذه الرسوم تترجم مضامين قصائده "شاعر في نيويورك"، التي يكشف فيها عن إدراكٍ ووعْي جديديْن بذاته، ويدين فيها الظلم والتمييز الاجتماعيين، وينتقد تجريد المجتمع الحديث من إنسانيته.

 في أحد رسومه، شخص ناطحات السحاب التي تعج بها نيويورك، والمزدانة بالنوافذ، التي استبدلها أحياناً برموز حروفية. أما في صدارة الرسم فنشاهد وجهاً بيضاوياً، مع حواجب غزيرة، وعيوناً بدون بؤبؤ، ورأساً بلا جسد، مختزلًا في ملامح تنتهي باليدين. يواجه أربعة حيوانات تتحرش به، يحاول حماية نفسه منها بيدين نحيلتين على وجهه.

لعلّ الحيوانات ترمز إلى المخاطر التي أضحت تهدد الإنسان في العصر الجديد، بسبب التضخم الحضري الصادم الذي عاينه في نيويورك، رمز الهيمنة التكنولوجية المعاصرة، التي دمرت البساطة الطبيعية للإنسان. بل ورسخت الثقافة التي تضطهد الملونين والأقليات في المجتمعات الحديثة.

الحيوانات موضوع متكرر في رسوم لوركا خلال هذه المرحلة، ولا يمكن تحديد نوعها، ولا جنسها، كما لو كانت هجينة تحمل ملامح حيوانات مختلفة أو متحورة.

يمكن تمييز حيوانات تحمل ملامح حصان، أسد وكلب في آن، بأقدام قصيرة، وشعر شائك، وخطم، وعرف، ومخالب وغيرها.

نلمح حيواناً بارزاً، يبدو كالحصان، ولكن أقدامه تحمل مخالب حيوان جارح، ورسم لحيوان شبيه بالكلب، لكن بأقدام قصيرة، وشعر أشعث، وأنف خرطومي وخطم أسطواني.

هذه الحيوانات والرموز، يمكن ربطها بذات لوركا وهواجسه، وعملياته النفسية، فقد كان الشاعر طيلة حياته، يدافع عن نفسه واختياراته بالفكر والإبداع، وواجه بفكره تنكر المجتمع التقليدي المحافظ، بل ولعلّ إهمال ملامح الوجه يدل على ميل إلى الانطواء، وعزوف عن العلاقات الاجتماعية.
 

لوركا المبهر

عاش لوركا مبدعاً، مبهراً، في رسومه، كما في أشعاره، وفي ومسرحه أيضاً، ترجم عناء وآلام ومكابدات الناس البسطاء.

كان لوركا نفسه يشعر بقلق كبير بسبب التحولات السياسية العميقة التي كانت تشهدها إسبانيا آنذاك، والتي أودت بحياة العديد من الأبرياء، وضيقت على المبدعين. لذلك؛ نجد في أعماله، حُزْناً أسود وحضوراً للدم والمآسي، لكنّه قدمها من خلال صور أكسبت شعره قوة وتميزاً. فقد استطاع بمهارة أن يصور المآسي بشكل يثير التعاطف، مع حرصه على تفادي المباشرة والتبسيط. فقد كان لوركا بروحه المبدعة يبصر ما لا يبصر الناس عادة. وكان، وهو الذي يجد عسراً في الكلام أثناء اللقاءات، يعبر بطلاقة وفصاحة نادرة، وينقل الفكرة بوضوح قل نظيره.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها