البعيد والقريب!

قصة قصيرة لـ"توماس وولف"

ترجمة: د. محمد محمود النزلاوي



:: القصة المترجمة ::
 

في ضاحية مدينة صغيرة تقع على ربوة مرتفعة انحسرت خلف السكة الحديدية، يقع كوخٌ صغيرٌ أنيق من ألواحٍ بيضاء مزخرفة بستائر خضراء زاهية، وعلى أحد جوانب المنزل توجد حديقة مصممة بدقة بمساحات من خضراوات نامية، وشجيرة عنب استوى في وقت متأخر من أغسطس، وأمام المنزل توجد ثلاث أشجار بلّوط ضخمة احتوت المنزل بظلها النظيف المتسع في الصيف، وعلى الجانب الآخر، يوجد سورٌ من أزهار مبهجة.. المكان كله ينعم بنسيم من الأناقة والنظام والراحة المتواضعة.

كل يوم بعد الثانية ظهراً بدقائق قليلة، يمر القطار السريع المحدود بهذه البقعة بين المدينتين، وفي تلك اللحظة، بعدما التقط القطار الكبير أنفاسه في مدينة قريبة يبدأ في إطالة مهمته بهدوء، ولكنه لم يصل إلى سرعته القصوى بعد، حيث يتأرجح القطار بتروٍ واضح، يدفع خلفه بحركة متمايلة قوية للمحرك قعقعة منخفضة ناعمة لعرباته الثقيلة على الفولاذ المضغوط، وبعدها يختفي في الطريق. وللحظة يمكن تمييز تقدم المحرك بخوار الدخان المتصاعد، الذي يفور على مسافات متباينة من حواف المروج الخضراء. وأخيراً، لا يسمع شيء سوى إيقاع الدمدمة القوية للعجلات، الذي ينخفض في السكون الهادئ بعد الظهر.

 يومياً؛ ولأكثر من عشرين عاماً، عندما يقترب القطار من المنزل ينفخ سائق القطار في صفارته، وبمجرد سماع هذه الإشارة تظهر امرأة في الشرفة الخلفية للمنزل وتلوّح له. في الماضي، كانت لها طفلة صغيرة تتشبث بتنّورتها، والآن كبرت هذه الطفلة في أنوثة كاملة، ويومياً تأتي الفتاة مع أمها في الشُرفة الخلفية وتلوّح أيضاً.

كبِر سائق القطار وشاب شعره في الخدمة. كان يقود قطاره الكبير، محمّلاً بأوزان من الأرواح يقطع الأرض بها عشرات الآلاف من المرّات. كبر أطفاله أيضاً وتزوجوا، ولأربع مراتٍ في حياته كان يرى أمامه على مسارات القطار نقطة مأساة مروّعة؛ وكأنها قذيفة مدفع تلتقي بنهايتها المرعبة في رأس المرجل، ضوء ينبعث من شاحنة مليئة بالأطفال بها عناقيد من وجوه صغيرة مذهولة: سيارة رخيصة الثمن تعيق المسارات، مليئة بأشكال خشبية لأناس شلّهم الخوف؛ متشردٌ محطّم يمشي بجوار قضبان السكة الحديدية، كبير في السن أصم لا يسمع تحذير الصافرة، شبح ألقى بنفسه من نافذته وهو يصرخ، كل هذا رآه السائق ويعرفه. لقد عرف كل أشكال الحزن والفرح، والخطر والمشقّة التي يعرفها إنسان مثله، لقد كبر مململاً مهترئاً في خدمته المخلصة، والآن تعلم صفات الإخلاص والشجاعة والتواضع التي كانت حاضرة في عمله، لقد كبر سنه وتحلى بالعظمة والحكمة التي يتحلى بها أولئك الناس.

وبغض النظر عن حجم المأساة والخطر اللذين عرفهما؛ فإن رؤية المنزل الصغير والمرأتين تلوّحان له بحركة ذراع حرة جريئة، ثابتة في عقل السائق كشيء جميل وراسخ، شيء يفوق كل تغيير وتلف، شيء يبدو كما هو لم يتغير بغض النظر عن أي حادث، أو حزن أو خطأ، قد يكسر هذا الروتين الحديدي لأيامه.. ورؤيته للمنزل الصغير وللمرأتين منحتاه سعادة غير عادية لم يعرفها من قبل، فقد رآهم في ألف ضوء ومائة طقس، عرفهم خلال الضوء القاسي للون الرمادي الشتوي عبر بقايا الأرض البنّية المتجمدة، ورآهم مرة أخرى في سحر إبريل الأخضر.

وقد شعر تجاههم وتجاه منزلهم الصغير الذي كانوا يعيشون فيه بحنين، كالذي يشعر به الإنسان تجاه أطفاله. وعلى امتداد الأيام كانت صورة حياتهن محفورة بشدة في قلبه، حتى إنه شعر أنه يعرف حياتهن كاملة، في كل ساعة ولحظة من اليوم.. حتى انتهى به الأمر أنه عندما تنتهي سنوات خدمته يوماً ما سوف يذهب، ويجد أولئك الناس ويتحدث معهم: أولئك الذين انصهرت حياته في حياتهن.

وقد جاء ذلك اليوم.. أخيراً خطا السائق من قطار إلى رصيف محطة المدينة، التي عاشت فيها السيدتان. لقد انتهت حياته على خط السكة الحديدية، والآن أصبح بالمعاش في شركته، لا عمل لديه لكي يعمله. خطا السائق بطيئاً داخل المحطة وخارجها، وفي شوارع المدينة. كل شيء بدا له غريباً كأن لم يره من قبل، وكلما مشى زاد إحساسه بالحيرة والارتباك. هل هذه المدينة التي مر بها آلاف المرات؟ هل يمكن أن تكون هذه المدينة التي مر بها عشرة آلاف مرة؟ هل كانت هذه هي نفس المنازل التي شاهدها كثيراً من النوافذ العالية في قاطرته؟ كل شيء بدا غير مألوف له، ومزعج مثل مدينة في حلم، وزادت حيرة روحه كلما استمر في السير.

والآن، تضاءلت البيوت في المستوطنات المتناثرة في المدينة، وتلاشى الشارع إلى طريق ريفي، الطريق الذي كانت تعيش فيه السيدتان. وكان الرجل يترنح ببطء في الحرارة والغبار. وقف طويلاً أمام المنزل الذي يبحث عنه. عرف على الفور أنه وجد المكان المناسب. رأى أشجار البلّوط الضخمة أمام المنزل، وأحواض الزهور، والحديقة وشجيرة العنب.. وبعيداً عن وميض القضبان.

نعم، كان هذا هو المنزل الذي بحث عنه، والمكان الذي مر به مرات عديدة، والوجهة التي كان يشتاق إليها بهذه السعادة. ولكن؛ الآن وقد وجدها، الآن أصبح هنا، فلماذا تعثّرت يده على البوابة؟ لماذا بدت المدينة، والطريق، والأرض، والمدخل لهذا المكان الذي أحبه غير مألوفة، كمنظر طبيعي في حلم قبيح؟ لماذا شعر الآن بهذا الشعور من الارتباك والشك واليأس؟ وبعد فترة دخل من البوابة، وسار ببطء على الممر، وفي لحظة صعد ثلاث درجات سُلّم قصيرة تؤدي إلى الشُّرفة، وكان يطرق الباب. سمع الآن خطوات في الصالة، فُتح الباب، ووقفت امرأة أمامه.

وعلى الفور، وبشعور من الفقد والحزن المريرين، ندم على قدومه. كان يعلم على الفور أن المرأة التي وقفت هناك تنظر إليه بعين الريبة هي نفس المرأة التي لوحت له آلاف المرات. لكن وجهها كان قاسياً وهزيلاً. تدلى لحم وجهها بضجر في ثناياها الشاحبة، ونظرت إليه العيون الصغيرة بريبة وشكوك.. فالحرية والشجاعة، والدفء والعاطفة الذي كان يقرأه في إيماءاتها، تلاشى جميعاً في اللحظة التي رآها، وسمع لسانها اللاذع.

والآن بدا صوته غير واقعي.. وهو يحاول شرح وجوده؛ ليخبرها من هو، وعن سبب قدومه. لكنه تعثر، وظل يقاتل بعناد ضد أهوال الندم والارتباك واليأس، التي تصاعدت في روحه، وأغرق كل فرحته السابقة، وجعل كل صنيع للأمل والرقة يبدو مخزياً له.

وبعدها دعته إلى المنزل على مضض، ونادت ابنتها بصوت حاد شديد. بعد ذلك، وبفترة وجيزة، جلس الرجل في صالون صغير قبيح، وقد حاول التحدث، بينما كانت المرأتان تحدقان فيه بعدوانية فاترة ومربكة، وبتحفظ متجهم خشن.

أخيراً؛ غادر متلعثماً بوداع فظ.. مشى بعيداً في الطريق، ثم على طول الطريق المؤدي إلى المدينة. فجأة عرف أنه كبِر في السن.. قلبه الذي كان شجاعاً وواثقاً عندما نظر على طول المشهد المألوف للسكك الحديدية، أصبح الآن مريضاً بالشك والرعب؛ لأنه رأى وجه الأرض الغريب وغير المتوقع، الذي كان دائماً على مرمى حجر منه، وجهاً لم يره أو يعرفه من قبل، وكان يعلم أن كل سحر ذلك الطريق البراق المفقود، ومشهد هذا الشعاع المشرق، والركن المتخيل من رغبة الأمل لهذا الكون الصغير الطيب، لا يمكن استعادته مرة أخرى.




 المصدر 
The Complete Short Stories of Thomas Wolfe, USA, 1987 (Pp 271-273)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها