أحمد عنتر مصطفى، يكتب الشعر منذ أكثر من أربعة عقود، تناول تجربته نقاد عديدون بحفاوة نقدية، منهم عز الدين إسماعيل والدكتور عبد القادر القط وصالح جودت، وما زال يواصل مسيرته مع الإبداع مبحراً في فضاءاته حتى بعد صدور أعماله الكاملة عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، الذي يشغل فيه عضوية لجنة الشعر، التي يتزامل فيها مع أحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم أبو سنة، والشاعر الراحل فاروق شوشة.
الشاعر أحمد عنتر مصطفى، مدير متحف أم كلثوم بمصر، يتحدث في الحوار عن تاريخه مع الكتابة منذ ستينيات القرن الماضي، والمشهد النقدي المعاصر وغياب النقد العضوي عن الساحة الأدبية والكثير من القضايا الأخرى. ويؤكد أن النجومية في الشعر غاية المهووسين، وهو مع المعيار الفني، وليس الزمني في تحديد الأجيال الشعرية.
***
تنتمي إلى جيل السبعينيات الشعري، الذي حمل الراية من شعراء الموجتين الأوليين للحداثة، شعراء الخمسينيات، صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ثم الستينيات فاروق شوشة وإبراهيم أبو سنة وأمل دنقل.. مـا الذي حاول رواد جيلكم تقديمه بصورة مختلفة عما فعل شعراء المراحل الأولى؟ وهل استطاعت قصيدة السبعينيات أن تُرسِّخ وجوداً مختلفاً لنفسها في إطار منفرد خارج الجماعات الأدبية كـ«أصوات» و«إضاءة» وغيرهما؟
• أعتقد أن كل الأجيال تتلاقى، وهذا التقسيم الحاد - والذي لديَّ تحفُّظَات عليه - ويضع المبدع في إطار زمني محدد دون مراعاة أن تجربة الشاعر قد تستمر لأكثر من عشر سنوات، فمثلاً قد تبدأ التجربة الشعرية فنياً في الستينيات والسبعينيات وتتطور معه وتمتد إلى الثمانينيات حتى تكتمل أو تنضج، ولهذا أنا ضد التصنيف الزمني وأفضِّل أكثر، التصنيف على أساس فني، وليس على أساس زمني، ولكن طالما اتفق النقاد على أن هناك تقسيماً للأجيال؛ فأنا بالفعل أنتمي إلى جيل السبعينيات، على الرغم من أن أول ديوان لي صدر عام 1981، ويرجع تأخر صدور الديوان لعدة أسباب، فأنا كنت أكتب القصيدة الكلاسيكية حتى نهاية الستينيات، وكانت كتاباتي مبشِّرة وفق عدد من شعراء الكلاسيكية في ذلك الوقت مثل صالح جودت، والذي استاء مني بشدة عندما تم نشر أول قصيدة تفعيلة لي. وكانت تُنشَر لي القصائد العمودية في جريدتي «العربي» الكويتية و«الجمهورية» المصرية، ولكن بعد نكسة 1967 شعرت بأن هذا الإطار العمودي انكَسَرَ مع الهزيمة، وشعرت بأن هناك العديد من الأشياء التي أريد قولها، ولكنها لا تصلح للخروج في ذلك القالب، الأمر الذي دعاني للتوقف عن كتابة الشعر لمدة تجاوزت العامين قليلاً، وكنت على خلاف مع الدكتور عبد القادر القط في ذلك الوقت، والذي كان يؤيِّد حركة الشعر الحديث، وحركة شعر التفعيلة بشدة، وهو من نصحني بقراءة شعر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم أبو سنَّة، ثم تعرفت بعد ذلك إلى صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأبو سنة وتعمقت علاقتي بهم وبالشعر الحديث، ثم كتبت أول قصيدة تفعيلة لي عام 1969، ولكن هذه القصيدة حملت ظلال وروح ومفردات العمودي الكلاسيكي وتركيباته الشعرية، لم تكن بالحداثة الكاملة فظهرت بشكل قصيدة حديثة من حيث السطر الشعري والتفعيلات، ولكن بروح الشعر العمودي القديم، وفي عام 1971 كتبت قصيدة ونشرتها في مجلة «الآداب» في بيروت، وكانت هذه القصيدة هي الطريق والدليل لي في شعر التفعيلة، ومكثت عشر سنوات كاملة في الفترة ما بين 1971 و1981 أنشر كل قصائدي في المجلات العربية بالوطن العربي، وكنت معروفاً في الأوساط الأدبية في الخارج دون أن يكون لي ديوان.
:: ثلاث موجات ::
هل استطاع جيلك أن يرسخ وجوداً مختلفاً عن جيل صلاح عبد الصبور وجيل أمل دنقل؟
• لنكن واضحين؛ هناك تقسيمة فنية يجب أن نضعها في الاعتبار عندما نتحدَّث عن شعر التفعيلة، شعر التَّفعيلة مرَّ بثلاث موجات من التطوُّر، الأولى بدأت مع صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وما يقرب من 85 شاعراً آخر ذَكَرَهم الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه «الشِّعر العربي المعاصر»، ومنهم كامل أيوب ومجاهد عبد المنعم مجاهد وكامل سعفان، هؤلاء كانوا أكثر ظهوراً في المشهد، وكانت هناك أوساطٌ أدبيةٌ تحتفي بهم، وهؤلاء اصطدموا بلجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة حالياً)، والتي كان يترأسها عباس محمود العقاد، وبَدَأ الصِّراع بين الشعراء المجددين رافعي لواء الحداثة وبين رواد المدرسة القديمة، حتى استطاعت قصيدة التفعيلة إثبات وجودها، ولا نستطيع أن نسمي ذلك «انتصاراً»، لأنه ليس هناك شكلٌ أدبيٌّ ينتصر على الآخر، فحتى الآن تتم كتابة القصيدة العمودية والتفعيلية وقصيدة النثر، لأن الأجناس الأدبية تتعايش معاً، ولا يُوجَد جنسٌ أدبيٌّ يلغي جنساً أدبياً آخَرَ، الشعر لا يلغي القصة أو الرواية ولا الرواية تلغي الشعر، وهذا التعايش سمة من سمات المجتمع والإبداع، ولذلك أقول لمن ينحاز إلى شكل أدبي ويهاجم الآخر: اتركوا كل الزهور تتفتح فحديقة الشعر تتسع للجميع، وهذا موقفي من قصيدة النثر أيضاً؛ في نهاية الأمر انتهى الصِّدام الذي حدث بين «الحرس القديم» للقصيدة الكلاسيكية والموجة الأولى من شعراء قصيدة التفعيلة بريادة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وغيرهما من شعراء الوطن العربي الذين رسخوا قصيدة التفعيلة، مع استمرار انحسار وقلة حضور شعراء القصيدة الكلاسيكية الذين يهتمون بروح الشِّعر وجوهره، ثم جاءت الموجة الثانية من شعراء قصيدة التفعيلة وفي طليعتهم إبراهيم أبو سنَّة وأمل دنقل وفاروق شوشة، واستطاعوا أن يرسِّخوا لقصيدة التفعيلة، وأصبح هناك أبناء للجيل الأول، وبالتالي تأكد وجود الآباء مع عطاء أبنائهم، وأصبح كل شاعر منهم ينهل من فضاءات أبو سنَّة ورومانسيته الشعرية وإيقاعاته الهادئة ولغته القوية، ودنقل الذي استلهم التراث الشعبي والعربي وشخصياته، سواء في ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» إضافة إلى شخصيات «المتنبي» و«عنترة» وغيرها من الشخصيات التي استدعاها دنقل، وبالفعل استطاعت الموجة الثانية أن ترسِّخ بعض الملامح، وأكَّدت عليها، منها البعد القومي في القصيدة، ثم جاءت الموجة الثالثة من موجات شعر الحداثة، والتي أنتمي لها، وأيضاً الشاعر حسن طلب وغيرنا، ولكن هناك من رأى في نفسه أنه لن يستطيع أن يضيف إلى قصيدة التفعيلة، لذلك اتجه لقصيدة النثر. وبهذا ذهب بعض شعراء السبعينيات إلى قصيدة النثر، واتهموا شعراء قصيدة التفعيلة بالتقليد دون التجديد. في ظل وجود قصور في النقد على الساحة الشعرية، وعدم وجود حركة نقدية جيدة ومتابعة، تفرز الجيد من الرديء من الشعر، وهو ما أوصلنا لما نحن عليه الآن من فوضى في ساحة الشعر.
أنت تكتب المقالة النقدية إلى جانب القصيدة التفعيلية، إلى أي حدّ يلتقي الشاعر والناقد فيك، ألا ترى أن تقاطعهما يحمل تناقضاً ما، وما حدث مع «الشاعر» الدكتور عبد القادر القط نموذج لذلك؛ حين غادر مصر إلى لندن شاعراً ليدرس الدكتوراه، ثم عاد منها ناقداً، وقد غادره الشعر هناك؟
• كل شاعر بداخله ناقد، فما يقوله الشاعر لم يأتِ من فراغ، وإنما هو نتاج قراءاته للشعر وإلمامه بالتراث، متابعته للساحة الشعرية الموجودة، لتتكون لديه ما تُسمَّى الذائقة الشعرية، ولهذا عندما يقوم بكتابة قصيدة ينتقي الكلمات من ناحية المعنى والدلالة، حتى عندما تكتمل يكون راضياً عنها إلى حدّ مَا، وهذا يعدّ تفاعلاً نقدياً مع النص الخاص به، وهو تفاعل بسيط، ولكني لا أطلق عليه «ناقداً»، ولكن بداخله ناقد ومراقب ذاتي، فيرى سطراً أفضل من آخر، وكلمة أفضل من أخرى، ولهذا فهو ناقد، ولكن بشكل بسيط وأوليّ، وعلينا أن نضع في الاعتبار أن النقد الحقيقي نوعان: نقد انطباعي، ونقد منهجي، النقد المنهجي هو أن يكون للناقد قضية ومنهج نقدي يتوجه به في أي نص يناقشه من خلال النصوص، وهذا النوع نجده غالباً عند أساتذة الجامعات والأكاديميين، وهناك النقد الانطباعي المعتمد على الذائقة الشعرية والأدبية لدينا، ولكنه ليس نقداً موضوعياً ومنهجياً، بالنسبة لمقالاتي النقدية فإنني أمزِجُ بين المدرستين الانطباعية والمنهجية، وأصبح لديّ رؤية كيف تكتب القصيدة وعناصر الجمال فيها، وعناصر القبح فيها، وبالتالي استطعت أن أوازن بين الرؤيتين الانطباعية والمنهجية، وأنا لا أكتب عن نصٍّ إلا إذا أعجبني بشدة أو أثار استيائي بشدة، أما النصوص العادية فلا أقف أمامها كثيراً.
نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 35)