شعرية التأمل.. عند لويز غليك Louise Glück

د. رضا عطية



يحمل شعر الأمريكية Louise Glück لويز گلیک (1943م) الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب للعام 2020 فلسفة للعالم، من خلال وعي الشاعرة وخبراتها المتراكمة وتجاربها التي خاضتها فيه، يمسي النص الشعري لدى گلیک فعلاً للتأمل الوجودي وممارسة للتفلسف عبر الإبداع الجمالي، فالشعر عند گلیک هو إعادة نظر في الأشياء وإعادة تعريف الوجود وصياغة أخرى جديدة لماهيات الموجودات.

في شعر لويز گلیک استبصار تأملي لعلاقات الذات بالعالم وأشيائه، كما في قصيدة بعنوان "الحديقة":
تحبك الحديقة
ومن أجلك تلطِّخ نفسها بالخضرة
وبأحمر الورود
لكي تدخليها مع عشاقك
أترين كيف أنشأت أشجار الصفاف
خيم الصمت الخضراء هذه
لكن ما زال ثمة ما تحتاجين إليه
جسدك ليّن جدًا.. حيّ جدًا
بين الحيوانات الحجرية
اعترفي أنّه من الرهيب أن تكوني مثلها
بمنأى عن الأذى

ثمة حضور طاغ للطبيعة في شعر لويز گلیک، فيتبدى أنَّ ثمة تمازجاً قويًّا بين الذات والموضوع/ الطبيعة حد التماهي بينهما، في تكريس لمبدأ "وحدة الوجود"، وفقًا لوعي شعري يعمل على تذويب الأشياء بالوجود ومنحها هوية تكاد تكون إنسانية، وبالمثل يكون تذويب الذات الإنسانية في الطبيعة.

تتشكل الصورة الشعرية لدى گلیک عبر سلسلة من الاستعارات المتدفقة التي تتابع في تصاعد متناغم كما في: (تحبك الحديقة/ ومن أجلك تلطِّخ نفسها بالخضرة/ وبأحمر الورود)، في استعارة تشخيصية تكشف عن جعل الذات نفسها مركزاً للعالم وغاية لأفعال الطبيعة، تقوم بجعل حركة الطبيعة ودورة الوجود تحقيقاً لأغراض الذات، كما تعيد بعض الاستعارات تمثُّل تشيكلات الطبيعة وتكويناتها، كما في: (أترين كيف أنشأت أشجار الصفاف/ خيم الصمت الخضراء هذه) في ميل للمآلفة بين العناصر (أشجار الصفاف)، وتمثُّلها في ترابطها وتلاحمها: (خيم الصمت الخضراء) بما يجدد الوعي بالطبيعة والعالم. وفيما يتبدى من تمثُّل الأشجار كخيم، أي ما يشبِّه المسكن ولو المؤقت أو غير المكتمل، ميل الذات الشاعرة إلى اتخاذ الطبيعة بديلاً عن البيت أو اعتبارها بيتًا آخر.

ويتجلى بوضوح اعتماد التلفظ الشعري لصوت القصيدة على ضمير المخاطب، كاستعارة عن الذات، التي في حالة انشطار نفسي، في تمثيل للمناجاة الذاتية التي تحاور من خلالها الذاتُ الفائضة أو القرينُ الشبحي الذاتَ الموضوعية في مواجهة بوحية وتدفق اعترافي.

تعمل لويز على تخليق مشاهد شعرية من مواقف دالة ولحظات فارقة، كما في تمثلها الرحيل مع أبيها على رصيف محطة القطار:
أبي واقف على رصيف محطة قطار
والدموع تتجمع في عينيه، وكأن الوجه الذي يومض
في النافذة وجه شخص آخر كانه ذات يوم لكنَّ هذا 
الآخر قد نسي ذلك
وفيما أبي ينظر إليه.. أشاح الآخر بوجهه وأسدل الستائر
وعاد إلى الكتاب الذي كان يقرأه
وهناك في أخدوده الغائر.. كان القطار ينتظر وهو ينفث
أنفاساً من رماد

تعمل الصياغة الشعرية للويز گلیک على تشعير اللحظات البسيطة واستبطان ما فيها من حكمة وجودية، واعتصار محتواها الرمزي، فمن خلال تأمل الذات الشاعرة للأب في وقفته على رصيف محطة القطار، بما يرمز إليه القطار ورحلات السفر من الانتقال المرحلي والتحوُّل من حال إلى آخر، كذلك يشي السفر بحالة بحث، ربما يكون قلقاً أو مستمراً للذات عما ينقصها وتفتقده، أو رحيل عن مكان لم يعد لها، ولم تعد تجد نفسها فيه. عند لويز گلیک تتحول الأشياء والأسطح إلى مرايا للتأمل الوجودي للذات المسافرة في حيرتها ودهشتها، كأسطح البحيرات والأنهار والمسطحات الخضراء كأرضية الحدائق ونافذة القطار، كما هنا، في هذه القصيدة، فتبدو الذات عند لويز مستغرقة في حالة من التحديق المرآوي. تستعمل لويز ألعاب الصورة لوجه الأب الباكي على رصيف المحطة، والوجه الآخر لجلاء الانفصام النفسي الحاد والانقسام العنيف الذي تعانيه الشخصية في اغترابها الوجودي، ذات قد اغتربت عن وجهها الذي كانته، في شعور أليم بفقدان الأصل الهوياتي. ثم تنتقل الكاميرا الشعرية إلى القطار الذي تؤنسنه في استعارة: (كان القطار ينتظر، وهو ينفث أنفاساً من رماد)، تبدو إسقاطية أو إحالية لما تعاينه الذات من شعور بالضجر والقلق والترقُّب وما يعتمل بداخلها من اضطراب نفسي وتوترات محتدمة.

تشغل علاقة الذات.. المرأة مع الآخر (الزوج أو الحبيب) مساحة واسعة من الخطاب الشعري لشاعرة نوبل، بين التعبير عن الاحتياج لهذا الآخر أو الارتباط به، وكذلك الألم لخسارته وفقدانه بأثر حياتها الشخصية وانفصالها عن زوجها.
يتبدى وجود الآخر في حياة الذات كضرورة تعبِّر عنها في تأكيد على إمكانية استمرار الشعر أن يعبِّر عن الموضوعات الإنسانية الكبرى، كمشاعر الحب والعلاقة مع الآخر:
لا تحسبن أنَّني غير ممتنة للمسات الحنان البسيطة التي
تمنحني إياها
أنا أحب لمسات الحنان البسيطة
والواقع أنّي أفضلها على الحنان الهائل المبالغ فيه
الذي يظل يحدق إليك طوال الوقت، مثل حيوان ضخم
رابض فوق البساط
إلى أن تُختزل حياتك بأسرها إلى مجرد الاستيقاظ من 
النوم، يوماً تلو الآخر، منقبض الصدر. والشمس الساطعة
تسكب ضوءها على أنيابه

في صوت لويز گلیک نبرة غنائية واضحة تحمل وجهة نظر خاصة في الحياة، لكنّ للبناء الموسيقي والنسق التركيبي دوراً لديها في الإنتاج الدلالي للنص الشعري، كما في تكرار دال (الحنان) لثلاث مرات، تأكيداً على الاحتياج إليه، أما تشبيه الحنان الهائل المبالغ فيه بأنَّه (مثل حيوان ضخم رابض فوق البساط)، فيعكس انطباع الوجدان الشعري المؤثِّر في فاعلية التخييل بصك الطبيعة له، ما يجعل طغيان الترجمة الحسية للمشاعر المجردة واضحاً في صور لويز گلیک.

لكن لويز گلیک تتعرَّض في عدد من قصائدها لتلك العلاقة المأزومة مع الآخر/ الزوج، كما تمثِّل لها في قصيدة بعنوان "فرس":
ما الذي تقدِّمه لك الفرس
ولا يسعني تقديمه لك؟
أراقبك حين، وحيدًا،
تمطيها في الحقل،
وتغوص يداك
في عرفها الأسود.
(....)
رأيتك في المنام تمتطي الفرس
في الحقول الجافة
ثم ترجلت: وسرتما معًا؛
أنت والفرس..
لم يكن لك ظلٌّ في الظلام
لكنَّني شعرت أنَّ ظلك يتجه نحوي
لأنَّه في الليل يذهب أينما شاء
إنَّه سيد نفسه

يمتاز شعر لويز گلیک بالتمثيل النفسي لأحوال الذات ومراوحتها بين حالتي الصحو والغفو (النوم)، وعالمي الشعور واللاشعور، وتبدو (الفرس) هنا رمزاً لغريم ما يباعد بين الذات وآخرها (الزوج أو الحبيب)، وتستثمر گلیک بلاغة التساؤل الاستهلالي لقصيدتها تعبيراً عن حيرة الذات لموقف الآخر منها ونأيه بعيداً عنها، ويبدو أنَّ ما تتمثله الذات من أفعال الآخر.. الزوج أو الحبيب إزاء الفرس هو ما تفتقده منه نحوها، أما الشطر الآخر من القصيدة، حيث رؤيا المنام، التي هي تمثيل لأغوار اللاشعور، فثمة اختلاف واضح عما رأته الذات في الواقع، يتبدى في وسم الحقول بالجافة، على عكس ما يُفترض أن تكون عليه، هو فعل ذاتي مضاد من الذات الحالمة/ الذات الشاعرة، يعكس رغبتها في أن يكون العالم أو الفضاء الذي يمضي فيه الآخر/ الزوج أو الحبيب من دونها جدبًا ومقفرًا، جزاء تخليه عنها وتركه له، لكنَّ تمثُّل الذات لظل آخرها متجهًا نحوها هو تجسيد للرغبة في استعادة الآخر (الزوج أو الحبيب)، والشعور بأنَّه ما زال يحمل لها بقايا من المشاعر والعواطف التي يمكن أن تعيده إليها مجدداً، فيتجلى تشعير لويز گلیک للأشياء وتحويلها رموزًا ذات أبعاد نفسية دالة، جامعة بين بساطة التركيب الصوري في قصيدتها وسهولة اللغة ويسر المعنى وعمق الدلالة معاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها