بيتنا القديم

نادية أحمد محمد محمود

على باب العمارة وضع ساقاً على أخرى؛ دلّى رأسه على صدره وراح في تعسيلة اعتادها حديثاً ولم تكن له من قبل، وجهه المغضن برتوش أيامه لم يظهر منه إلا العِمَّةُ التي كانت بيضاء ذات يوم، بينما فردة حذائه الباهتة االسواد التي ثنى كعبها فصارت كالشبشب ناعسة هي الأخرى بجوار أختها أسفل قدمه الأخرى.
قلت لنفسي وأنا أتابعه بعيني: هو وحده الذي أريده.. هو وحده الذي أعرفه، وأرجو أن يعرفني هو أيضاً.
- عم محمد
اقتربت منه وربت على كتفه مترفقاً، بهدوء رفع رأسه، صبغة الشيب أحالته شخصاً آخر لولا بقايا من روحه القديم، عيناه ضاقتا.. لونهما تحول إلى رمادية أو ربما بنفسجية باهتة؛ وصدغاه الممتلآن اللذان كانا يمنحان وجهه بهاءً.. غارا إلى الداخل ربما بفعل خلو فمه من الأسنان.
- من؟
- أنا محمود حسين
- أهلا بك، خير
حدقت في عينيه عله يبادلني التحديق فيتذكرني ويكفيني مؤنة تذكيره بنفسي، لم أر منه إلا نظرات محايدة ربما كان لا يقصد توجيهها لي أصلاً.
مر بخاطري لقب كان يطلقه عليّ قديماً وأنا ألعب بالدراجة أمام البيت منذ سنين طوال "حودة الجن"، كنت أقف على المقعد بقدمي والدراجة تجري بسرعتها، ثم أعود وأقفز جالساً على المقعد، أبدل قليلاً ثم أستند بكفي على المقود وأرفع جسدي ليتوازى مع جسم الدراجة وهكذا، صحيح كانت سقطاتي عنيفة لكن هذا لم يمنعني يوماً من الاستمرار، أؤجر الدراجة بالساعة وألعب بها طيلة النهار، وحتى لا يعاقبني أو يمسك بي وينالني منه ما ينال الآخرين الذين يتأخرون ربع ساعة أو بالكثير نصف ساعة، كنت أقف على بعد مائة متر تقريباً من دكانه وأنادي بأعلى صوتي:
- عم محمود ياعجلاتي
يطل من الدكان، أدفع العجلة بكل قوتي نحوه وأطير نحو البيت غير مبال بصراخه وسبابه وتطاير الرذاذ من فمه.
- حودة الجن ياعم محمد
- يامرحب، خير
بدأ الضيق يعرف طريقه لصدري، حدقت في وجهه باحثاً عن وسيلة لإيقاظ ذاكرته، بدا لحظتها لعيني مسالماً ناعم البال مسترخي الملامح في سلام، أذكر حتى الآن زمجرته حينما كان يغضب فتنطلق الكلمات منه بأسرع مما يمتلك مثلي أن يستوعبها أو حتى يتابع حروفها، كان ذلك حينما كنا نلعب الكرة أمام البيت، ويطالبنا باللعب بعيداً ونصرخ فيه أننا نلعب أمام بيتنا، ويجلس ذات جلسته كاتماً ضيقه حتى إذا ارتطمت الكرة به أو ضربت وجهه رغماً عنا اندفع مطلقاً حروفه العجيبة التي كنا لا نفقه منها شيئاً، وإن كان الزبد المتطاير من جانبي فمه يوحي لنا بأجلى وضوح أنه في أشد الغضب.
وكثيراً ما كانت الكرة تطير خلف سور بيت الشربيني المغلق ولا نستطيع الوصول إليها، كان طيباً وودوداً رغم كل شيء، كنا نتوسل إليه ونرجوه أن يفتح الباب ويأتي لنا بها فيعاند قليلاً، ثم ما يلبث أن يأخذ منا العهود على الكف عن مضايقته واللعب بعيداً ويقوم ليأتي بها، ويتكرر ما كان.
كان شاباً قوياً وكنا صبية صغاراً؛ خاصة أنا ومحمد حسين الذي جئت من أجله اليوم، سنوات طويلة قضيتها بالخارج قضت على مرحلة، ونقلتني إلى مرحلة جديدة تماماً تناسيت فيها آثار ومعالم ما كان، وكثيراً ما تساءلت جاداً من أنا، هل أنا حودة الجن الذي كان أم أنا المهندس محمود المغترب منذ عشرات السنين، وهل أنا محمود الذي كان قبل الاغتراب أم أنا محمود الذي خطفت أيامه الغربة وأبدلته مكانها قلباً يكسوه المشيب؟
تذكرت بعد عودتي محمد حسين والشلة، واشتقت أن أرى واحداً منهم لعلنا نجلس ذات يوم ونستعيد ولو بالكلمات زمناً نتمنى اليوم لو عدنا إليه.
اليوم ركنت عربتي بجوار بيتنا الذي تركناه منذ قديم، فقد استطاع أبي أيامها أن يحصل على شقة راقية بعدة جنيهات في الشهر كانت أيامها تشكل عبئاً على ميزانية أي بيت، لكن الترقية الجديدة غطتها، هكذا قال أيامها وهكذا أتذكر أنا ما قيل.
كنت في شوق وأنا أترك العربة إلى استنشاق عبير البيت ومن فيه، أدقق النظرات في الأماكن التي كنا نلعب فيها، والتي كنا نقف عندها نتجادل في أي شيء، وطريق البحر الذي كنا نختصره مهرولين نشاكس الرمال والموج ونسبح للصخرة القريبة، ونتبارى من فينا يمتلك الشجاعة.. بعدها يقفز أحدنا محاذراً من الابتعاد والدوامات التي تسحب والعمق الذي رغم جرأتنا نخشاه ونبتعد عنه، وشباك سعاد بنت عم عبده البقال التي كانت تنظر من نافذتها وتتابع لعبنا دون أن تجرؤ على مشاركتنا خوفاً من أبيها... وعدت لعم محمد:
- محمد حسين موجود؟
رفع إلي عينين شاردتين في ملكوت غير الملكوت، ملامحه محايدة وساقه ما تزال على الساق الأخرى، وفردة الحذاء تنتظر قدمه الحافية.
انتبهت ليد تربت كتفي برفق، استدرت لأرى عم محمد آخر لكنه شاب هذه المرة، اتسعت عيناي لوهلة لا تكاد تحسب بزمن وأنا أنقل بصري بين الاثنين، وقد وقر في إدراكي خلال هذه الوهلة أنه قد حدثت معجزة ما... عم محمد الشيخ ها هو يلتقي بعم محمد الشاب، وربما أتى عم محمد الرجل، ثم عم محمد الكهل وهكذا.. كان الذي أمامي الآن عم محمد من نسختين: نسخة شابة ونسخة متهالكة.
- أنت ابنه.
- حفيده.
- أسأل عن ساكن هنا اسمه محمد حسين.
- لا يوجد لدينا ساكن بهذا الاسم.
- كان منذ سنين يسكن هنا، ربما يعرف جدك مكان سكنه الجديد.
أدار نظراته نحوه وهو يقول بثقة:
- لم يعد يذكر شيئاً.
وتركني خارج العمارة ودخل في هدوء مثلما جاء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها