قيمة الجمال في التراث الفلسفي؟!

د‭. ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الصواف

شكلت قيمة الجمال على مر العصور، أبرز الحقول التي عرفت حضوراً عميقاً وعريقاً في ثقافات الأمم بشكل عام، حيث تحضر بشكل قوي في مخيلة المجتمعات وإن بأشكال مختلفة، هذا الحضور نجده مؤطراً داخل مجموعة من العناصر الثقافية المشكلة للذاكرة الجماعية. وقد انطلق الفلاسفة في تفسير ماهية ومحددات قيمة الجمال انطلاقاً من توجهات ورؤى مختلفة، والإحاطة بها جميعاً تجعلنا نفهم تصورات المجتمعات السالفة لهذه القيمة.

ما هو الجمال فلسفياً؟ متى يكون الشيء جميلاً؟ هل الجمال طبيعي أم ذاتي؟
 

نبذة فلسفية عن القيم ومرجعياتها

إن الاهتمام بالقيم لازم الإنسان في حياته، على اعتبار أنه لا يمكنه الوجود والعيش والاستمرار بدون القيم فتساءل متفلسفاً عن ماهية القيم؟ وعن مصدرها؟ وبحث في أساسها السيكولوجي والسوسيو أنتروبولوجي... لكن قبل أن ننتقل إلى عرض رهانات القيم -الجمال نموذجا- لابد أن نوضح وبشكل سريع المفهوم معجميا، ففي «لسان العرب» ورد مفهوم القيمة أي واحدة القيم وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء، والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، نقول تقاوموه فيما بينهم، ويقال كم قامت ناقتك أي كم بلغت...1.
أما في المعجم الفلسفي فنجد قيمة « «valeurالشيء في اللغة قدره، فالقيمة مرادفة للثمن وتطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء اقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً وجمالياً...2.
أما في «موسوعة لالاند الفلسفية» القيمة تستعمل في كل مفاهيمها سواء بالمعنى المجرد (ذو قيمة) أم بالمعنى العيني (يكون قيمة)، فمعناها الأول وهو معنى ذاتي كامن في الشيء لكونها مقدرة ومرغوبة نسبياً لدى شخص أو جماعة، ولقد أطلق الفيلسوف ورجل الاقتصاد الإنجليزي «آدم سميث» مصطلح القيمة الاستعمالية للشيء في مقابل القيمة التبادلية له، فالأولى تعني كل شيء له نفع حقيقي كالماء والهواء أو على الحالة التي يحددها الفرد للشيء، أما القيمة التبادلية فهي ما لشيء معين في المجتمع من ثمن يسمح بتداوله بين الناس، وهو معنى اقتصادي بكون الشيء قابل للتبادل مع العلم أن ثمنه لا يرجع إلى منفعة الشيء ذاته بل إلى ما للناس فيه من مآرب، أما القيمة من الناحية الموضوعية فهي سمات الشيء القائمة على ما يستحق من تقدير3. بذاته كالخير والحق والجمال، وميز الاقتصاديون بين القيمة الذاتية للشيء والقيمة المضافة إليه التي تنشأ عن العمل المبذول في إنتاج وصنع الشيء كما قال ابن خلدون4.

وفي «معجم ومصطلحات الثقافة والمجتمع» أشار أصحابه إلى أن سؤال القيمة كان محل نقاش فلسفي منذ «أفلاطون» حتى «دريدا» مرورا بـ«ماركس»، نقاش ظهر على إثره التجميعين الذين ينظرون للقيم نظرة كلية والتشطيريين الذين ميزوا بين أنواع القيم. ولقد شكل في هذا الإطار «نيتشه» استثناء فرأى بضرورة تقويم القيم، وتحدث المثاليون عن القيم النهائية ذات الطابع اللامادي وهي كنز دفين يولد القيمة المضافة وبذلك فهي تحرك التاريخ الاجتماعي5، فتكون لها دلالة سوسيولوجية باعتبارها قد تحدد رهانات المجتمع والأفراد والتداخل والصراع والمنافسة والمواءمة والتكيف والاستيعاب والتمثل من أجل ضمان النصيب الوافر في الرأسمال الرمزي الذي تقومه الجماعة باعتباره قيمة يمكن أن يضمن للفرد انطولوجيته داخل الجماعة. ولها دلالة أنتروبولوجية باعتبار القيم تعكس الثقافة السائدة، ومن ثمة الرموز القيمية والطقوس كسلوك جماعي أو فردي محكوم بأعراف الجماعة وبقيم هذه الجماعة.
وفي إطار هذا النقاش الفلسفي برزت نظريات علمية وفلسفات كثيرة، بل ونجد مثلاً مبحثاً فلسفياً عرف «بالأكسيولوجيا» رافق التفكير الفلسفي في تاريخه، حيث اهتم الإنسان بقيمة الأشياء كشعور ذاتي أو المشتقة من ذات الشخص المتفاعل مع خبرته6، ومن هنا المنظور الذرائعي البراجماتي، فإذا كان أفلاطون يرى بأنه لا سبيل إلى إصلاح المدينة اليونانية إلا بالمثل العليا الثلاث: الخير والحق والجمال كأعلى قيم، باعتبار الحق في جانب العلم والمعرفة، والخير في جانب الأخلاق والسلوك، والجمال في جانب الفن والتناسب7، وما دام الناس يتحدثون في حياتهم عن هذه القيم فرأى أفلاطون أنه لا يمكن أن تكون في حياة الحس المملوءة بالزيف والأغلاط فلن تكون مصدر الأفكار العليا، فهو يرجعها إلى عالم المثل العليا كعالم أبدي وأزلي وغير متغير ومطلق، فالقيم الإنسانية خارجة عن التجربة الإنسانية متواجدة في عالم المثل.
وقد اتبع بعض المناطقة المثاليين الأفلاطونية «كجورج إدوارد مور» حينما قال بأن الخير لا يعرف فبأي حاسة ندركه؟ فقط نكتفي بقول إنه خير لأن الخير كما أنكر ذلك الحدسيون لا يمكنه أن يتطابق مع الكيفيات الثانوية8. بلغة أرسطو، وفي المقابل كيف يمكن تحديد قيمة الشيء بمعزل عن الشخص وتجربته؟ ومن الذي يقيم كل شيء؟ هل الإنسان مجرد مثال أفلاطوني إذن؟ إن القيم لا تنشأ من الفراغ وليست ثابتة ولا أبدية بل هي نسبية، فالقيمة مصدرها سلوك الإنسان وتفاعله مع خبرته فالتقييم تعبير عن انفعال المتكلم إزاء شيء ما، فنجد «دوركايم» يعارض موضوعية القيم، حيث قال ليس هناك أية علاقة بين خصائص الشيء الكامنة فيه وبين القيمة التي تنسب إليه، فالمعبود مثلا قد يكون مجرد قطعة حجر لا تضر ولا تنفع، أي أنها أشياء لا قيمة لها في حد ذاتها، ومع ذلك يشعر القوم نحوها بالتقديس ولم تخلو حقبة تاريخية من عبادة الإنسان لأشياء تافهة فكم قدس الإنسان حيواناً لا ينفع9.
إن عملية التقويم يرى فيها البعض إدراكاً عقلياً وتجريدياً نابعاً من الفهم، غير أن فريقاً آخر يرى أن القيم أعقد من ذلك وطرح صعوبة تعريفها، فالقيمة فقط أحكام يصدرها واقع تأثيرنا في الأشياء، والقيمة توجد في الشيء عندما نكتشف فيه حاجة أو رغبة. ومن الناحية الأنتروبولوجية والسوسيولوجية يعتبر التقويم، عملية اجتماعية وثقافية. فالمحيط السوسيوثقافي هو الذي يؤثر في التقويم، فالإنسان يكتسب القيم إما من ثقافته أو من خلال دخوله في علاقات اجتماعية وتفاعلية، فقال «دوركايم»: نحن نعرف أننا لسنا سادة تقويمنا فنحن في هذا مقيدون مجبرون والذي يقيدنا هو الضمير الجمعي10. إن القيم بهذا المعنى منتوج اجتماعي بها يراقب المجتمع ويضبط سلوك الأفراد.

فلسفة قيمة الجمال

يعتبر مفهوم الجمال من المفاهيم التي لقيت اهتماماً واسعاً داخل مجموعة من الحقول المعرفية، مما جعل من إمكانية تحديد تعريف موحد لهذا المفهوم صعبة للغاية.
فالجمال في «لسان العرب» من مصدر الجميل، والفعل جمل، وجمله أي زينه11.
أما في «موسوعة لالاند الفلسفية»، "يكون جميلاً كل ما يكون - بلا تجريد- موضوع إرضاء للعقل والروح"12.
وقد برزت في التفكير الفلسفي مجموعة من الأفكار الجمالية الواضحة والمتميزة، حيث ذهب "فيتاغورس" بمنطقه الرياضي إلى أن الأشياء والموجودات عموماً جميلة حسب تناسق الأعداد وتدرجها. أما "سقراط" فكان يلح على أن الجمال الحقيقي هو الجمال الباطني. وآمن "أفلاطون" بوجود الجمال المطلق في عالم المثل. في حين اتجه "أرسطو" اتجاهاً واقعياً فذهب إلى أن التناسق والانسجام والوضوح هي أهم خصائص الجميل13. وقال عنه "هيغل" في كتابه المدخل إلى علم الجمال: "إن الجمال يتدخل في جميع ظروف حياتنا، فهو الجني الأنيس الذي نصادفه في كل مكان، وعندما نجيل الطرف حولنا لنتبين أين وكيف وبأي شكل يتجلى لنا، يتضح لنا أنه يرتبط منذ القدم بأوثق الروابط بالدين والفلسفة"14.

ففي العصر اليوناني، ارتبط مفهوم الجمال بالقيم المطلقة العليا والمثالية، أما عند فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين فقد ارتبط مفهوم الجمال عندهم بفكرة القداسة والرمز الديني، وبوجه خاص عند مسيحيي عصر النهضة الذين ارتبط الجمال في تصورهم بالإبداع الفني والعبقرية المستمدة من الإله، ولهذا فقد ظهرت في معظم الأعمال الفنية لفناني هذا العصر وهي تجسد صوراً ورموزاً دينية كالعذراء وتمثال داوود... وإذا تخطينا العصر الوسيط وألقينا الضوء على اتجاهات الجمال في مطلع العصر الحديث وجدنا اهتماماً فائقاً بالفلسفة الديكارتية العقلية وما تبعها من الاتجاه إلى احترام العقل، والتأكيد على النزعة الموضوعية التي سادت عند القدماء، والتي كانت تنحو إلى مطابقة الجمال بالحق ومن ثم يصبح ما هو جميل في تصورنا على غرار ما هو حق15.
لذلك يذهب «ديكارت» إلى القول بأنه لا وجود لما يسمى بالجمال المطلق، لأن ما يجوز إعجاب البعض منا قد لا يجوز إعجاب البعض الآخر.

من هذا المنطلق، يظهر لنا تناقض واضح بين مفهوم الفلسفة القديم للجمال، ومفهومها الحديث، فالأول كان يعني أن الجمال قيمة مطلقة عليا توجد باعتبارها حقيقة موضوعية لها وجودها في الخارج. أما المفهوم الثاني فإنه يحط بقيمة الجمال المطلق، ويخلع عنها حقيقتها الموضوعية، ويرجعها إلى الذات الإنسانية المشخصة، ويجعل الأحكام الجمالية نسبية تتوقف على الحالات الفردية16.
وفي هذا الطرح أيضاً تختلف الآراء وتتعدد حول مفهوم الجمال، فيرجعه البعض إلى قيم الفرد الأصيلة باعتباره تجربة فردية خاصة لا يعبر إلا عنها، في حين يراه البعض الآخر تعبيراً عن الروح والشعور بالجماعة كما يذهب إلى ذلك عالما الاجتماع "إيميل دوركايم" و"ليفي برول" فقد أكدا على الطابع الاجتماعي المميز للظاهرة الجمالية والفنية، وغالا في طمس دور الأصالة الفردية في مجال الإبداع الفني17.

وبالتالي يمكن القول، إن فكرة الجمال شديدة التجريد والغموض والتعقيد، وحول هذه المسألة تطرح عدة تساؤلات:

هل الجمال ذاتي أم موضوعي، فينا أم في الأشياء؟

هل الجمال نموذج أزلي خالد ثابت كالحقائق الرياضية؟

وإذا كنا نصف زهرة أو بناية أو قصيدة بصفة الجمال، فعلى أي أساس يمكن تعميم هذا الوصف؟ وما هو الشيء المشترك بين الجمال؟

هل يمكن تعريف الجمال؟ هل يمكن أن نصل إلى بعض المعايير أو الشروط العامة التي تحدد لنا ما هو الجمال؟


وكمحاولة للإجابة على هذه الأسئلة، نستحضر مفهومين أساسيين اتخذا كمعيار لتفسير الجمال:

مفهوم الوظيفة كمعيار لتفسير الجمال

يذهب أصحاب هذا الاتجاه، ولعل على رأسهم سقراط إلى أن كل شيء يكون جميلاً حينما يؤدي على نحو أتم الوظيفة التي يراد له أن يؤديها: فالجمال وفقاً لهذا التصور يعني أن تصميم الشيء أو صورته ينبغي أن تعبر عن وظيفة ما، وأن الشيء ينبغي أن يبدو كما لو كان قادراً على أن يؤدي الوظيفة المنوطة به18.

مفهوم المتعة كمعيار لتفسير الجمال

ذهب بعض فلاسفة الجمال إلى اعتبار أن الجمال هو ما يجلب متعة للحواس. واتخذ هذا الموقف كلا من: "جورج سانتيانا" و"سيجموند فرويد"19.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نقول إن أغلبية النقاد والباحثين والفلاسفة قد اختلفوا في تعريفهم لطبيعة القيم الجمالية ومقاييسها، فقد يرجعون هذه القيم إلى عالم مثالي يفوق الواقع، أو يرون أن مرجعها شعور للإنسان مرتبط بالذهن والحواس20.
 


الحواشي:
1. ابن منظور: لسان العرب، المجلد 12 حرف الميم دار صادر بيروت، ص: 500-502.
2. جميل صليبا: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، الجزء الثاني باب القاف، دار الكتاب اللبناني للنشر 1982، ص: 212.
3. أندريه لالاند: الموسوعة الفلسفية، المجلد 3 ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت ط2 2001، ص: 1521-1523.
4. جميل صليبا: المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ص: .213
5. طوني بينت: لورانس غروسبيرغ، ميغان موريس، مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة سعيد الغانيمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1 2010 ص: 547-550.    
6. فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط2 1970 ص: 31.
7. فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، مرجع سابق ص: 32.
8. المرجع السابق، ص: 33.
9. المرجع السابق، ص: 34.
10. المرجع السابق، ص: 48.
11. لسان العرب، ص: 120.
12. موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول، ص: 131.
13. عبد الحكيم كرام: "محاضرات في علم الجمال"، وثيقة مقدمة للدعم البيداغوجي للطلبة، المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية، قسطنطينية، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، السنة الجامعية 2005-2006، ص: 5.
14. هيغل: المدخل إلى علم الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1988، ص: 10.
15. راوية عبد المنعم عباس: القيم الجمالية، كلية الآداب جامعة الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1987، ص: 77.
16. المرجع السابق، ص: 29.
17. المرجع السابق، ص: 31.
18. عبد الحكيم كرام، مرجع سابق، ص: 10.
19. المرجع السابق، ص: 12.
20. أميرة حلمي مطر: مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن، دار المعارف، الطبعة الأولى 1989، ص: 9.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها