نوسه

محمد السيد عبد الباسط

نسمات الهواء تداعب وجهي وأنا أمارس عملي كموظفة مدنية بقسم الشرطة، استدعاني وزميلتي مأمور القسم، قال:
- قوما بتفتيش هذه المرأة تفتيشًا دقيقًا، حيث إنها تتاجر بالمخدرات. ثم تركنا وانصرف وأغلق خلفه باب الحجرة.

لم أكن قد انتبهت إلى ملامحها عندما دخلت، رمقتها عيناي بتفحص، أعرف هذه المرأة التي ترتدي ثيابًا باهظة الثمن جيدًا، إنها نوسه، كانت جارتي قديمًا قبل أن أغادر سكني القديم.

التقت عينانا، تذكرتني، قالت:

- أأنتِ زينب؟

- نعم، أنتِ نوسه؟

- صحيح.

وعانقتني، وألقت بهمسات الشوق في أذني، وراحت ذاكرتي النشطة تستدعي شريط الذكريات.

مشهدها يوم العيد، ونحن أطفال نتباهى بملابسنا الجديدة كفراشات ترف في سن البراءة، وهي بملابسها البالية القديمة، ودائماً هي بملابس قديمة.

أذكر يوماً ملأت الشارعَ ضجة، كنا عائدتين من المدرسة أنا ونوسه، لم نكن قد تجاوزنا التاسعة من عمرينا، هرولت نوسه إلى أبيها ورمت بنفسها في أحضانه، هو أيضاً احتضنها بشدة وراحت الدموع تسقط من عينيه، سمعت لها نشيجًا ورأيت لها بكاءً، كان جسم نوسه الصغير يهتز بشدة، ساعتها راق لدموعي أن تسيل ففاضت. لم أكن أدرك حينها كثيرًا، لكن المشهد أخذ بخوالج نفسي.
لم يمض شهران حتى سمعنا ضجة جديدة، أسرعت أمي إلى النافذة وتبعتها، سيارة شرطة ترابط أسفل شقة نوسه، كان الضابط يدفع أباها بعنف، ونوسه وأمها تتبعان رجال الشرطة، أمسكت نوسه بيد أبيها قبل أن يصعد إلى السيارة، توقف قليلاً وعيناه مركزتان عليها، راحت نوسه تبكي من جديد، سمعتها تصيح :
- أبي.. أبي.

أزاحها شرطي، أسرعت أمها فجذبتها، راحت نوسه تشهق وتزفر باكية بشدة، أدرك الآن أنها أدركت بفطرة عفوية أن أباها سيرحل من جديد، وستمر سنوات طوال من اللهفة والشوق والحنين والحرمان.

اندفعت السيارة وأطلقت خلفها دخانًا كثيفًا، لم يعرني ذلك اهتماماً، فقد كانت عيناي لا تغادر وجه نوسه، الذي استدر مني عطفاً عليها، ولم تترك في كلمات أمي أثراً حين قالت :
- إن أبا نوسه ضبط متلبسًا بالاتجار في المخدرات.

 ومرت السنوات، وبدأ جمالنا يتحدث، أعترف أن نوسه كانت تفوقني حسناً وجمالًا، والحق أقول إنها كانت تفوق كل البنات بالمدرسة الثانوية حسناً وروعةً.

تعودت عيناي أن ترى نوسه يتبعها شاب إلى المدرسة، كانت نوسه تطرب لسماع كلمات الغزل التي كانت تتدفق من ألسنة الشباب، وكم حدثت مشاجرات بينهم بسببها، وكانت تنتشي بذلك، كان هذا يرضي غرورها.

وذات مرة تشاجر شابان بسببها، وتطور الأمر ووصل إلى إدارة المدرسة، يومها سمعت المدير يقول لها :
- أحضري أباكِ غدًا.

-......

- ألا تسمعين؟!

 -........

- انصرفي.

ظلت نوسه واجمة، اقتربت منها، ربتُ على كتفها، سمعتها تتمتم :
- أبي، يا أبي، كيف ستأتيهم يا أبي؟!

- لا عليكِ.

في الصباح دلفت نوسه وأمها إلى حجرة المدير، وخرجتا بعد قليل، ضربت نوسه الحائط ضربتين بقبضة يدها قائلة :
- لماذا أخبرتيهم أن أبي مسجون؟ وعندما سألوكِ عن السبب، لماذا قلت إنه كان يتاجر بالمخدرات؟

- وماذا كان يمكن أن أقول؟

 - قولي له أي شيء.

لم يمضِ سوى يومين حتى ذاع الخبر بالمدرسة وانتشر، بدأ كثير من الطالبات يتجنبن الحديث معها وابتعدن، لكني لم أبتعد. في اليوم التالي جاءت نوسه إلى المدرسة وخلفها شاب يغازلها، كانت نوسه تتدلل في مشيتها متجاوبة، وعلى شفتيها ضحكتها الشهية، الأستاذ حمدي كان يرمق المشهد عن كثب، وكان هو مدرس الحصة الأولى.

وبدأت الحصة، نوسه ما زال يتملكها خدر الغزل وتزلف الشاب إليها، أمرها الأستاذ حمدي أن تقف، فوقفت، ثم سألها سؤالا دراسيًا، فلم تجب، فلطمها لطمتين بشدة، وقال :
- بالطبع، وهل لديك الوقت للمذاكرة يا ابنة الرجل الـ....

فاندفعت نوسه كنمرة شرسة، وهجمت على الأستاذ حمدي وهي تصرخ بشدة:
- مالك وأبي، مالك وأبي؟!!

ودفعته بشدة إلى الخلف، أخذت المفاجأة الجميع، لم ينتبه الأستاذ حمدي إلا والفصل يعج بالمدرسين والمدرسات، الأستاذ حامد كان أول من استدعاه صراخ نوسه، دفع نوسه بعيداً عن الأستاذ حمدي دفعًا، جرت نوسه إلى حقيبتها الدراسية، وأخرجت الكتب والكراسات وصارت تمزقها بعنف، كلمات المدرسين كانت تقرع سمعها قرعًا، لكن الأستاذة فريال هي الوحيدة التي احتضنتها- الأستاذة فريال هي الأثيرة لدينا، حبها يملك شغاف قلوبنا، راحت نوسه تبكي بحرقة، بللت عبراتها خمار الأستاذة فريال التي قالت:
- اهدئي يا حبيبتي

استشاط الأستاذ حمدي ومعه بعض المدرسين :
- أتأخذينها في حضنك؟! ما هي إلا ابنة....

صاحت نوسه من جديد، وهي تعض على شفتيها:
- مالك وأبي؟

 قالت الأستاذة فريال :
- لا شأن لك بأبيها.

وتبادلت معه الجمل المتعارضة، وذهبت نوسه إلى حجرة المدير، ثم تم فصلها.

في صباح اليوم التالي رأيت نوسه في طريق المدرسة يغازلها الشباب كالعادة، وهي تطرب لكلماتهم وتتدلل، وفي مفترق الطريق انحرفت يساراً، دخلنا المدرسة، لكن نوسه لم تدخل.

وفي موعد العودة لمحتها عائدة، شددت إليها الخطى حتى لحقتها، وسألتها :
- أين قضيت ذلك الوقت؟

نظرت إلي، ولوت رأسها، وانصرفت.

وتركت المدرسة الثانوية لألحق بالجامعة، بل تركت المدينة كلها إلى مدينة أخرى لتغير مكان عمل أبي، ولم أرها بعد ذلك حتى الآن.

أفقت من سيل ذاكرتي على صوت نوسه، وهي تقول:
- أرجو أن تعود صداقتنا ثانية.

وضعت نوسه يدها في جيبها، وأخرجت مبلغًا كبيرًا من المال، ودسته في جيب زميلتي التي نظرت إليّ وسكتت، وقد أدركت ما كان بيننا من صداقة قديمة، ظللت واجمة برهة أحاول أن أستوعب الأمر، بينما كانت نوسه تحد النظر إليّ، أخرجت نوسه مبلغاً كبيرًا آخر من المال ومدت يدها إليّ، وعلى شفتيها ابتسامة قلقة، وهي تقول :
- خذي.

رفضت المال، ومددت يدي إلى طيات ملابسها أبحث عما تخفيه، العدل أقرب إليّ من أي صديق، العدل يأتي قبل العطف أحياناً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها