أحمد عبد المعطي حجازي.. النورس حين يغني ضد الموت

د. أحمد علي منصور

 



وفي هذه القصيدة التي لم تنشر بعد في ديوان، حلَّق النورسُ الأبدي حول شاطئ المذبحة المروعة التي راح ضحيتها (عشرون شابًا وشابًا) من أقباط مصر المتغربين عن الوطن في ليبيا، خطفهم الهمج المتوحشون من جماعات القتل، وذبحوهم جميعًا على شاطئ البحر، في مشهد فجيع شاهده العالم أجمع آنذاك. وباعتقادي أن مَن لم يقرأ قصيدة "أيقونة قبطية" فكأنما لم ير شيئًا من الحدث الرهيب؛ لأن المشاهد لم تكن لتكتمل إلا بما رآه حجازي، ولم يره أحد مثله. فالشاعر الأستاذ، وهو المتأثر بالحدث حدَّ الهلع، استطاع أن ينفُذ إلى أعماق المشهد أبعدَ مما نتصوَّر، فحوَّل المذبحة إلى أيقونة بديعة، فحوَّل أشدَّ القُبح إلى أجمل الجمال. وهو يعلم حقيقة ما يرى ويدركه، ليختم القصيد واصفًا روعة التفاصيل بقوله: (وأنا لم أشاهد جمالاً كهذا الجمال).

فمن ذا يتصور جمالاً لا كمثله جمالٌ، على شاطئٍ يتحول مذبحةً ودماءً تفور على صفحة المياه، وتلقي بها الأمواج فوق الرمال، 21 شابًا يُنحرون بأيدي الفجار ذوي القلوب الغليظة الفظَّة، في مشهد سينمائي مصنوع بعناية وتقنيات فائقة وفقًا لسيناريو متقن، أدهش العالمَ بما انطوى عليه من إشارات ورسائل، تتجاوز الغرضَ المباشر على المستوى السياسي أو الطائفي.

لكن حجازي بعد أن التقط ما ظهر وبطن من تفاصيل المشاهد، ورسمها كأبدع ما يكون التمثيل التصويري، غاص عميقًا فيما وراء المشاهد، وحلَّق بعيدًا ليرى ما لم نَرَهُ، وما لم يَرَهُ القتلة الذين أخرجوا هذا المنتج السينمائي البغيض، ثمَّ عاد لينشد علينا قصيدته الأيقونية، بقراءة مغايرة للمشهد، فجَّرت ينابيعَ الجمالِ حول شواطئ الدم، وأحالت الأنينَ والفزعَ إلى صلاة، والقُبحَ الشنيعَ إلى جمال لا كمِثله جمال، في اختزال عبقري لصراعات الوجود وأضداده.

وقد عاد ذلك النورسُ ليقول إنّ الشعر لن يغيب في أُتون هذا الصراع الدمويّ الأَبِيد، ودائمًا سيعود للأبرياء بشيرًا، وعلى الهمج المتوحشين نذيرًا؛ حيث ينتصر الجمال والحق على القبح والضلال فيدمغانهما، وينتصر الشعر على النِّصال، لتنتصر الحياة على الموت، وتهزم الأغنية اليأس والقنوط. ليس أدلَّ على ذلك من هذه القصيدة التي لم تنكسر أمام جلال الحدث، فلم تَنُح وتصطَرِخ، إنما غنَّتْ وصَلَّتْ وتبتَّلتْ بكلماتها وإيقاعاتها، فجاءت مشرقة وضيئة شفافةً، لا كآبة فيها ولا نَكَد، ولا غمَّ ولا انكسار للشعر أمام جبروت الإجرام. ولا أدلَّ من تصوير هؤلاء الشباب سائرين للموت في أُبَّهةٍ وجلال، ورضىً وسلامٍ وتسليم، يُتمتمون بالصلوات في سرِّهم، ولا تأخذهم من الموت إلاّ رهبة جلال هذا الجمال الكوني:
وهُمُ في الطريق إلى موتهم
يرفعون له جبهةً متهيِّبةً دونما وجلٍ
ويُصلُّون في سرِّهم
ناظرين لما لا يُرَى
خطوُهم هادئٌ
ليس بالمُتعجِّل، فالوقتُ رحبٌ
ولا هَو بالمُتباطِئِ، فالموتُ منتظرٌ.
وهُمُ وطَّنوا النَّفسَ أنَّهُمُ سيُلاقونَهُ
حيث ينعقُد الصَّمتُ من فوقهم فجأةً
وتموتُ الظلالْ!
ربما اتجهوا نحونا
دون أن يعرفوا أننا سنراهم ونعرفهم
وهُمُ في الطريق إلى موتهم
شاخصين كأنَّهُمُ يتلقوْن وحياً
وراضين ممتثلين لأقدارهم
مطمئنين مستشهدين كأنَّهُمُ
عبروا البرزخَ الصَّعبَ
أو أصبحوا في الكنيسة أيقونةً
أصبحوا في الفضاء العريض الذي صعدوا فيهِ
سربًا من الطير
يعبر في وَهَجٍ واشتعالْ
أو يرفرف في حُلُمٍ أو خيالْ
وأنا لم أُشاهد جمالاً كهذا الجمالْ

وكما تقول الكلمات، يراهم الشاعر شهداء ارتفعت أرواحهم سربًا من الطير يتوهج مشتعلاً بالضياء، ويرفُّ بين الحلم والخيال. وكما يقول في الإهداء التكريسي، يعتبرهم (شهداء أبرارًا)، ويشير في الأبيات إلى أنهم صعدوا لربهم في رحلةٍ لملكوت الخلود، بينما يرفرف الصليب والهلال من فوقهم، كأنَّ الرمزين يتوحدان في تحدٍّ للافتراءات الطائفية التي تُلوِّثُ الأديانَ ورموزَها بأيدي المتطرفين، والأديانُ والمُتديِّنُونَ منها براء:
أنا شاهدتُهم من بعيد
وقد حملوا معهم في الطريق إلى موتهم
أهلَهم، ومنازلَهم، وقُرَاهم
وشدُّوا الرحالْ
والصليبُ يرفرف من فوقهم
والهلالْ

ولا بد أن يشير شاعرنا الكبير إلى القَتَلَة، وإلى مشهد القتل، لكنه يعبُرُ عليهم سريعًا بلغة غاضبةٍ ملتاعة، على أنها تريد التسليمَ للقدر على شاكلة الشهداء القدِّيسينَ، فتظل الأيقونةُ الملكوتية محتفظةً بنقائها بغير بشاعةٍ من هولِ اللحظة الرائعة:
أنا شاهدتُهم
في ثيابِهمُ البرتقاليةِ اللونِ
عشرونَ شابًا وشابًا يسيرون للموتِ
أرواحُهم في السماءِ مُحلِّقةٌ
والأكُّف مقيدةٌ بالحبالْ
ومِن خلفهم رُسُلُ الموتِ
عاصفةٌ من عصور الظلامِ
وجوهٌ مُفخَّخَةٌ
وأكفٌّ مُلَّطخَةٌ
ولِحىً أُفعوانيَّةٌ
ومُدىً ونِصالْ!
وأنا.. أنا والبشرُ الآخرونْ
نرى بشرًا يُذبحون
نرى في منازلنا بشرًا يُذبحونْ!

وعلى الرغم من عبقرية الأداء الشعريِّ الخلاَّق، المُترع بالفلسفة الوجودية المشبعة بالتصوُّف، ولا تخلو من إشارات تاريخية وسياسية واجتماعية، إلا أن القصيدة قصيرة مكثفةً، لم تتعد أبياتها اثنين وستين سطرًا تفاعيليًا قصيرًا، لكنها جاءت مشحونة بكل ما ينبغي الإشارة إليه من الملابسات والتصورات والهواجس المحيطة بالحدث الكوني الكبير. وتلك هي عبقرية الشعر والشاعر، حين ينصهر الكون والإنسان باللحظة الشعرية الخالدة، والتي فُطِرَ نورسُنا الخارقُ على القدرة الفائقة على اقتناصِها، والفوزِ بها كشفًا جديدًا من كشوفات أحمد عبد المعطي حجازي، يهديه للإنسانية في كل زمان ومكان.

وعلى الرغم من كل ذلك، فالقصيدة مكتوبة بلغة بسيطة سهلة، كأنها لغة الحياة اليومية، لا تقعير فيها ولا انزياحاتٍ فنيةٍ غريبة تفارق المألوف من لغة السَّرد، ولا ألفاظَ عتيقة مُستغربةً قد تعوق سلاسة التلقي بغير داعٍ، ولا تراكيب معقدةً على مستوى الجمل أو الفقرات القليلة، ولا على مستوى التشكيل الشعري لبنية القصيد. إنما دفقات قليلة موجزة، شفافة وهامسة وخفيفة الوقع، عزيزة البوح، لكنها موحية نافذةٌ بكل شحناتها الفنية والدلالية المتوهجة في بواطنها الخصيبة الثريَّة بكلِّ ما يتوق إليه العقلُ من روافد الفكر والجدل، وما تتوق إليه الرُّوح من الوَضاءة والبهاء، وما يتوق إليه الفنُّ من براعةٍ وإبداع وإدهاش.

تلك هي قصيدة حجازي الأخيرة، يتلقاها كما يتلقاها بتلقائيته وعفويته، وحكمته وحنكته، وقدرته على تثمين النفيس من الزَّائفِ من ذهب الكلام الشاعر، فيقتنص قصيدتَه، ويعرضها بكرًا طروبًا، طبيعيةً نديَّةً ملساء، برائحة الوحي، وأنفاس الإلهام، وعبق الفيض الكوني الذَّكي الأصيل، خالية من بهرج الفن، متخلية عن الحِلَى والوَشْيِ والبُهرج الفتان. وكأنه أدرك أن مقام الصَّلاة يتطلّب نزع الحِلَى، ومسح الأصباغ، والتجرّد في هذا المقام الجليل. وأظن الشاعر والقصيدة قد خلعا نعليهما، وتجردت قلوبهما وهما يصغيان إلى همسات الصلاة الكونية الرهيبة على شاطئ البحر، تلقاء الفضاءات والنهايات المترعة بالسحر والجمال، والشعر الراهب في مقاومة الموت والانتصار للحياة والبقاء بالحرف والأغنية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها