الذكاء الاصطناعي والفن.. العلاقة والأثر [3]

Artificial Intelligence and Art, Relationship and Effect (part 3)

علاء شقير


الأثر والعلاقة المتبادلة بين الذكاء الاصطناعي والفن

في هذا المقام هنا لا يمكن أن نحيط بأثر الذكاء الاصطناعي على الفن، ولا حتى بشكل جزئي؛ إنما سنقف على أهم التمفصلات في الأثر والعلاقة بما مهدت له هذه المادة في الجزأين الأول والثاني.

تعود مسألة الفن التي لا يهتم بيير داميان هويغ بالابتعاد عنها، كما لو أن من المستحيل عليه تصوّر التقنية خارج الاستعمال الجمالي وبالتالي خارج طريقة تأملية في التفكير فيقول: "في كل مرة يظهر جهاز جديد في التاريخ الإنساني، توشك طريقة المحسوس أن تفقد توازنها"1؛ أي أننا في فضاء كبير لا نرى فيه ما نريد بقدر ما فيه من إمكانيات، وهذا ما تقدم فيه هويغ عام 2004 في كتابه الخلاف الجمالي، حين حلل بطريقة إجمالية الرابط الحميمي بين الوجود (existence) والتقنية: "القول إن الفن يكوِّن ترسيمات تحتاج إليها تقنية ما لكي تتحرر من استعمالاتها، وتتمفصل على فكرة ما، يعني، في سياق التحليل الراهن، أن ما يُحذف لدى كل دفعة تقنية أو تجهيز جديد للعالم، بواسطة فن الترسيمات القديمة والتمفصلات القديمة للتجربة مرتبطٌ دوماً بصورة ما، بالمكان والزمان؛ أي بشكل شامل للحساسية... إذ ها هنا يمكن اعتبار دفعة تقنية ما حاسمة بالنسبة إلى حقبة ما: إنها تغير طبيعة الكائن في العالم (فهي تمس الوجود الخاص بالكائن)؛ لأنها تمس الفضاء الزمني لهذا الكائن أي (شكل كينونته)"2.

الفن أولاً

قبل أن نستطرد في أثر التقنية (الذكاء الاصطناعي)، أو الجديد على كينونتنا ومظاهرها الفكرية، والنفسية والجمالية والفنية، لا بد أولاً من إيفاء هذا الفن بمختلف تجلياته شيئاً من حقه في أسبقية الأثر، وقدرته على فهم المستقبل والتنبؤ به، ورسم ملامحه وإشكالياته المعرفية والأخلاقية والجمالية، فقبل أكثر من مائتي عام تناول الأدب فكرة الرجل الآلي، أو الآلة بصفات بشرية كما في أعمال الكاتب الألماني أرنست هوفمان، ومنها قصة (رجل الرمال)؛ إذ يقع البطل في غرام فتاة رقيقة ثم يكتشف أنها آلة. أو كما في قصته العالمية (كسّارة البندق وملك الفئران).

وإن كانت الروبوتات قد غزت عالمنا منذ عقود قليلة، إلا أن المصطلح أو الاسم (Robot) كان من ابتكار الأدب، واستخدمها للمرة الأولى الكاتب والمخرج والمسرحي التشيكي كارل تشابيك في مسرحيته (رجال روسوم الآلية العالمية)، كأحد شخصيات المسرحية (والتي تعني في التشيكية العبد) عام 1921، منتقداً في مسرحيته التقدم التقني، ومتخوفاً منه نحو مجتمع منافق.

ونكاد نجزم أن الفنون البشرية والأدب خاصة كان المصمم الأول لمعظم أشكال التقنية ووظائفها البنيوية، ولم يتوقف الأمر عند تحديد الملامح الخارجية، بل تجاوزه نحو الملامح الإيديولوجية والأخلاقية للحقبة التقنية المُتنبأ بها، ونجد في السينما وأفلام الخيال العلمي الأسبقية في الفكرة المستقبلية المجردة، والوقوف على محكاتها الأخلاقية، وتحديد الأشكال التي سيعمل عليها علماء ومصممو التكنولوجيا لاحقاً.

وتكاد الأمثلة لا تنتهي كفيلم الخيال العلمي (I robot) أنا روبوت، المأخوذ عن رواية للكاتب الأمريكي إسحق اسيموف كتبها عام 1950، وتم إنتاج الفيلم وطرحه عام 2004. ولعل الاقتباس: (من لم يكن منكم روبوتاً فليرمهِ بحجر) من فيلم (AI: Artificial Intelligence) يفتح مصاريع أسئلة وجودية، حول شركاء جدد على هذا الكوكب أسرع منا وأذكى، وبأعداد وقدرات متزايدة. حتى شريحة نيورالينك ( Neuralink- 1024) التي أذهلت وأقلقت البشرية، وقد أعلن عنها أيلون ماسك عام 2020 كان الفن قد سبقه في تحديدها وتوصيف إشكالاتها التقنية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية، وذلك ضمن حلقات المسلسل البريطاني black mirror الذي بدأ عرضه عام 2011. ولا يخفى على أي قارئ أو متابع لتاريخ الأدب، وأفلام الخيال العلمي هذه الأسبقية للفن على التقنية.

إبداع أم تخريب للذائقة الفنية؟

"إن حرية الفن تبقى على ارتباط وثيق بشروط الاقتصاد السلعي. أما الأعمال الفنية التي تنفي صفة البضاعة في المجتمع، فقد ظلت في الوقت نفسه بضائع: وبقدر ما شكل مقتنو الأعمال الفنية حتى القرن الثامن عشر حماية للفنانين تجاه السوق؛ فإن هؤلاء كانوا بالمقابل تحت وصاية مقتني الأعمال الفنية ومع أهدافهم"3.

كان هذا مع سيطرة وسائل بسيطة في قدرتها للوصول إلى الجماهير، ولم يغب مثل هذا التوجه الفلسفي في عصرنا الرقمي بعد التضاعف القوي لقدرة التقنية في التحكم والتوجيه، وسلطتها النافذة من خلال احتياجات الناس التي صارت قادرة على خلقها وتجديدها، وضبط التوجه الفني بما يخدم أسواقها "يمكننا أن نفهم بطريقةٍ أفضل لماذا يُفرض على الفنانين العمل وفقاً لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعملياتهم الإبداعية"4.

وبالتالي كلما تورط الفن في الاقتصاد والحياة اليومية، كلما قلت حمولته الروحية والجمالية. وبعد أن كان اصطلاح الفن التخريبي يُطلق على الفن الذي يتحدى الأفكار ذات العلاقة بالمؤسسات الاجتماعية الراسخة، يوظفها آلان دونو بمعناها الحرفي لتصبح (الفن التخريبي المدعوم من السلطة)، ففي حديثه عن أحد العروض الفنية في مدينة مونتريال عام 2015، يصف العمل بالتخريبي ضمن نطاق الحدود المقررة من قبل مؤسسات الفن المُمَوِل "هذه التخريبات النمطية المُدارة بأجهزة التحم عن بعد، لها أيضاً أثرٌ أكثر عمقاً وإقلاقاً؛ إننا نشعر بالتقزز من دون أن نعرف سبباً واضحاً لذلك. هل لأنها تبدو كنكات الطلبة السيئة؟ هل يتعلق الأمر بافتقار الفنان للشجاعة؟ الشعور بأن الأمر يتعلق بألفة الرؤيا؟ ربما كانت الإجابة توجد في القُرب الخَطِر (للتخريب) من (الانحراف)"5.

مَعيَرة الجمال رقمياً

في الوقت نفسه بعيداً عن سلطة التقنية، لا يمكن إنكار الشكل الفني وأناقة المنتجات التقنية، بدءاً بأيقونات البرامج والواجهات الرقمية، وليس انتهاءً بالتصاميم المدهشة للأشكال الخارجية للمنتجات التقنية، ويذهب البعض إلى تجلي الحالة الفنية في عمل المُبرمج، ففي الوقت الذي انتُقِدتْ فيه مُخرجات الذكاء الاصطناعي الفنية، بأنها محاكاة تفقد صفة الغائية أو نية الإبداع، وبالتالي تنتفي عنها صفة الفن، ذهب آخرون إلى أن نية الإبداع كان يحملها فريقٌ من المُبرمجين والفنانين، وأن هذه النتاجات ليست من عمل فنان واحد، ولا تلغي دور الفنان. "يُمكن للورانس ليسيغ أستاذ القانون بجامعة ستانفورد أن يقول عن ريتشارد ستالمان (مُبرمج أمريكي ناشط في حركة البرمجيات الحرة):

لكل جيل فيلسوفهُ، كاتبهُ أو فنّانهُ الذي يملأ أفق زمنه. بعض الأحيان يتم الاعتراف بالفلاسفة بما هم كذلك، وغالباً ما يتطلب الاعتراف أجيالاً. لكن سواء تم الاعتراف بهم أم لم يتم، هناك زمن يَسمهُ أناسٌ يتحدثون فيه عن مثلهم العليا، إما في همس قصيدة، أو في انفجار حركة سياسية، جيلنا له فيلسوفه، وهو ليس فناناً ولا كاتباً محترفاً، إنه مُبرمج"6.

ويصف الكاتب هذا المبرمج بأنه فنان عصره، ويدافع عن التقنية كقيمة فنية وثقافية تم تهميشها في الأوساط الفلسفية والثقافية، فيأتي على قول جيلبير سيموندون "تبدو الثقافة مُختلة؛ لأنها تعترف ببعض الموضوعات كالموضوع الجمالي، وتمنحه حق اللجوء في عالم الدلالات، في حين أنها تُقصي موضوعات أخرى، ولا سيما الموضوعات التقنية إلى عالم بلا بنية لا يمتلك دلالات؛ إنما يملك استعمالاً ما ووظيفةً نافعةً ما"7. إن الكائنات الرقمية تدفعنا إلى تكوين إدراكات جديدة، ويرى الكاتب أنه آن الأوان كي تستكمل الفلسفة وعيها، من خلال قبول الثقافة التقنية كخارج يمكنه أن يُغْني الداخل، كما يدافع عن تحالف التقنية والفن، وإدراك العنصر الإبداعي في التكنولوجيا، ويخلص" فيال" في أحد المواضع إلى أن:
1. التقنية لا يمكن أن تكون شيئاً آخر سوى مُمارسة لتكوين فُلكنا الوجودي، وبهذه الصيغة لا يمكن فصلها عن فعاليات التصميم – الابتكار.
2. إذا كانت التجربة بناءً ظاهراتياً تقنياً؛ فإن عمليتها البنّاءة هي على وجه الدِّقة، تلك التي تعتمد على هذه العمليات التصميمية الابتكارية الفنية8.

التلاعب بالمعايير الجمالية

بدايةً لا يمكن تبرئة خوارزميات الذكاء الاصطناعي بوصفها إيديولوجياً أسواق لا ترى في البشر إلا زبائن أو سلع (انطلاقاً من المقولة: حين لا تدفع ثمن سلعة فأنت السلعة)، ولا تفتقر تقنيات الذكاء الاصطناعي ببياناتها الهائلة على الشبكة العنكبوتية، وقدرتها على التحكم بالتفضيلات الإعلانية، وتحكمها بما تُريد أن يصل للقارئ أو المشاهد، بما لديها من تقنيات ومواد التحكم في السلوك، والتحكم في الشخصية وصولاً إلى تنافر إدراكي يعمد إلى تغيير السلوك، بما يتناسب مع الاعتقاد وليس العكس. "المعرفة سلطة، ومن المفارقة أن الأمر وصل ظاهرياً إلى أن علماء الطبيعة والتقنيين قد اكتسبوا قوة هائلة ومتنامية في مجال توجيه العالم وتغييره، كي يعيش الناس مُدانين ومتنعمين بالامتيازات"9.

بالتالي لا يمكن تبرئة الخوارزميات الذكية من تحويل الفن والفنان إلى سلعة ضمن سوقٍ، الهدف فيه من السلع الثقافية تشكيل الجماهير، الذين يمثلون كتلة الزبائن والداعمين، لتكون القرارات المتعلقة بما يجب استهلاكه هي المحدد لإنتاج خطوط التجميع. "ذلك الهدف الذي دعاه فيتشه بوصفه (تحويل المعرفة إلى آثار إبداعية) لا يمكن أن يتحقق في يومنا هذا في المجال الخاص للتربية؛ إنما فقط على المستوى العام سياسياً لترجمة المعرفة القابلة للاستثمار تقنياً في سياق عالم حياتنا"10.

الانتقال من الحالة الجمالية للفن إلى الوجه الوظيفي

وذلك بالسعي المتنامي في خلق احتياجات تتحكم التقنية في بداهة رونقها، بما يتماشى مع أهداف السوق نحو استهلاك مظهري، ينقلب على نفسه بعد كل تطوير بما يخلق احتياجات جديدة، ويُذكرنا الأمر بفن "الكيتش" kitsch الذي يعرفه جاك رانسيير: "أي الفن المتعلق بالأغراض التزيينية السيئة الذوق، والتي ينتج عن تراكمها خليط من عناصر غير متجانسة، وغير متوافقة مع المعايير الجمالية، والتي يبلغ من شيوعها أن تكون من الرخص، بحيث تُدمج في الحياة اليومية فتصبح جزءاً من إطارها"11.

وتمطرنا عمالقة الشركات بالمنتجات التقنية برونقها الفني الذي يبهت ليصبح خردة، بعد طرح الجيل التالي منهُ في خلطة تقنية، يضيع فيها الوجه الجمالي بالوجه الوظيفي. وبالتالي تسطيح وتنميط الحالة الفنية والانتقال منها بوصفها طريقة للتواصل والوصول إلى نتائج تُطرح على الجمهور، بتناسخ برّاقٍ رديء تحت مسمى التقنية أو الثقافة، لتعوم هذه المنتجات بقالبها الفني غير الأصيل بوصفها الأصل (المُبهرج والمُبتذل).

في اضمحلال الموهبة وظهور المهنة

لم ينجُ الفنان نفسه من نظم السوق الذي تتحكم فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي وأدواته، وفي طريقه لتحرير هذا الفنان من أذواق الأكاديميات والمؤسسات الثقافية، زُجَّ الفنان في سياق سوق العصر والممولين والمستثمرين، وديناميكيات السلطة داخل المؤسسات وتوجهات وصولها، ولكي ينجح في تسويق نفسه وفنه صار لزاماً عليه مجاراة السوق الرقمي ومعاييره، على حساب عملياته الإبداعية الخاصة "إن الفنانين الذين يقدّرهم المستثمرون الآن هم من يحاولون أن يكونوا (خالقين) بلغة المستثمرين الخاصة، فمثلاً يُنظر إلى كل من المغنية سيلين ديون وسيرك الشمس على أنهم حققوا (نجاحاً) دولياً ليس وفقاً للمعيار الجمالي؛ وإنما بما يتلاءم وخطة العمل التجاري الخاص بهم"12.

على الجانب الآخر.. تطور أدواتي وفني واندثار فنون

يقف العديد من المفكرين على العنصر الإبداعي في التكنولوجيا، وعلى أن المُبرمج هو فنّان عصره، وينادي ستيف جوبز بأن "التقنية بمفردها غير كافية، فعندما ترتبط التكنولوجيا بالفنون الليبرالية والإنسانيات، حينها تستطيع أن تُطرب عقولنا"، وأن للتقنية كقيمة ثقافية وكقيمة أداتية الفضل في ظهور أنماط حديثة من الفن، أو ما يسمى في يومنا هذا الفن الرقمي، كالرسم الرقمي، والتصوير الرقمي، والموسيقى الرقمية، وتقنية الهولوغرام13، والطباعة والصور ثلاثية الأبعاد، كضروبِ محاكاة رقمية في عوالم وسيطة وعوالم كائناتٍ عاقلة.

كما برزت مفاهيم جديدة كالأدب التفاعلي الرقمي، الذي يحمل مواصفات حضاريّة لم يكن الأدب قادراً على أن يخبرها في أيّ مرحلة من مراحل تطوّره، إلاّ حين حلّ عصر التكنولوجيا والمعلوماتية -الإمفوميديا- واستخدام الحاسوب وتقنياته، كوسيط فاعل في مجمل مناحي الحياة، بما في ذلك التجارب الأدبية (الشعريّة والنثريّة)، التي وجدت في هذه التكنولوجيا سبيلاً للجمع بين أشكال وفنون مختلفة، كالأدب وفنون التشكيل والموسيقى، والإنشاد والنحت والفوتغراف، فضلاً عن التقنيات الإلكترونية الواجب حضورها، ليتمكّن المبدع من جعل هذه العناصر تتفاعل جميعاً في إنجاز نصّ جديد يسمّى (بالأدب التفاعلي والرقمي). كما وضعت التقنية الأدوات المتعددة (كماً ونوعاً) بين يدي الفنان، وبكلفة أبسط في الغالب.

وفي هذا العصر الرقمي تطورت العديد من الفنون بشكل متسارع، كفن التصميم الذي عُرف منذ العام 1849، وتطور في العقود الأخيرة بقفزات مدهشة في فضاءات جديدة، كما لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبه الذكاء التقني في صناعة السينما، ليكون هذا المجون التقني في تحولاته التي فاقت بسرعتها مساحات وعينا، انقلاباً في مفاهيمنا وإرباكاً لإدراكنا ومعاييرنا الفكرية والثقافية والجمالية.

وعلى الجانب الآخر انقلبت هذه التقنية على بعض أنواع الفنون، كالتصوير الفوتوغرافي الذي كان له الفضل في إظهار الكائنات وفق تقنية ملائمة للظاهراتية الطبيعية للعالم. وفي الحالتين –الفوتوغراف القديم والفنون الرقمية الحديثة- كانت الآلة ومعرفة الفنان بقدراتها، ومن ثم قدرته على توظيفها في الحالة الفنية تخضع لرؤية وذائقة الفنان القادر على التقاط الحالة الجمالية الخارجة عن المألوف "ليس القول ببساطة مع باشلار إن التقنيات العلمية تنتج الظاهراتية المادية، أو مع بنجامين، إن التقنيات الفنية تنتج الظاهراتية الحسية؛ وإنما القول أن مجموع الإجراءات التقنية لحقبة ما، باعتبارها معرّفة وموحدة في نسق تقني محدد تاريخياً، تُنتج الظاهراتية العامة المتفردة التي تصنع عالم هذه الحقبة في ميزته الأونطوفانية"14.

السيلفي بين الفن والتفاهة

هذه الإرسالية الدّالة دائماً من دون مدلول في العلاقة المعقدة، بين الذات والآخر والجمهور "لقد تحوّل المجتمع شيئاً فشيئاً إلى حلبة لعرض أنواتنا، وهي لعبة لا يمكن أن نتجاهل داخلها أبعاد الوّد والصداقة التي يتميز بها السيلفي، يتعلق الأمر بغريزة حياتية (أيروس) تعبر عن ثورة أيروسية، ومع ذلك لا يمكن لأيروس أن يستحضر دون تاناتوس (غريزة الموت): فللسيلفي نصيب في ثقل العزلة التي يخفيها، في تجاوزاته المرضية، إنه يكشف عن ثورة سادسة، هي ثورة مرضية"15.

تقف الكاتبة والباحثة إلزا غودار بين السيلفي بوصفه إرهاصاً نفسياً وابتذالاً، يغير إدراكنا وفهمنا في عالم جديد، من دون أن تُنكر الحالة الفنية "يمكن النظر إليه باعتباره تعبيراً جمالياً؛ إنه عمل فني، دون أن يؤدي بنا ذلك إلى تجنب الأسئلة التي تثيرها هذه البوريتريهات الجديدة والتي تكون الغاية منها تقاسم شيء ما مع الآخرين، وخاصة الثورة الجمالية التي جاء بها"16، وفي سطوة هذا الانعكاس المِرآوي على ذواتنا مفاهيمياً وقيمياً ونفسياً، بوصفه جانباً مستحدثاً من جوانب هذا العصر الرقمي، الذي لم يمنحنا الوقت لبسط مسافة آمنة منه على أنواتنا وتقلباتها في ظله، تُفند غودار على نهج فرويد "إن الالتذاذ حاضرٌ بقوّة في السيلفي، إنه التذاذ نرجسي، والتذاذ أناني، والتذاذ جمالي، والتذاذ لعبي ... ولكنه التذاذ استمنائي أيضاً"17.

وما السيلفي هنا إلا المثال المبسط لقياس الانزياحات النفسية والاجتماعية والجمالية بين السوي والمرضي، وبين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح، هذه الانزياحات التي يمكن إسقاطها على معظم مظاهر هذا الذكاء الرقمي الذي اقتحم حياتنا وصولاً إلى موضوعنا الفني والجمالي.

في سنة 2015 خصص متحف الفن المعاصر في سالسبورغ عرضاً للسيلفي، وقبله عام 2013 أقيم في لندن معرضاً أطلق عليه اسم "الأروقة الوطنية للسيلفي"، دعي إليه عشرون فناناً ليتحدثوا عن السيلفي بوصفه بورتريه ذاتي، والكثير من المعارض على اختلاف تناولاتها وأفكارها أقيمت وكان مضمونها صور السيلفي. ومن تفاهة الصورة تتدرج الباحثة غودار إلى ثورة جمالية من المرئي إلى الرائي. ومن الصورة إلى الأيقون (الوجه المقدس) كوثن جديد للأنا الرقمية.

خاتمة

في هذا العالم المفرط في التواصل يعاني الجميع فيه من فرط العزلة، ويذهب الكثير من المفكرين المعاصرين إلى أن الاختلاف بين الواقعي والافتراضي هو اختلاف مزعوم؛ وإنما نحن نعيش في بيئة مزدوجة في آن واحد موصولة ومتقطعة، أصبح الإدراك فيها هو الاضطرار إلى التفاوض مع فعل الإدراك نفسه. وهذه التقنية التي أتينا بها لا يمكن التراجع عنها، إنما نحن بحاجة لعقد اجتماعي ثقافي جديد كتعبير عن رؤية جديدة، لا يمكن تجاهلها في المستقبل؛ من أجل ميلاد جديد يتكشف جوهره بأدوات الفن الحقيقي، كلاسيكياً كان أم رقمياً تتظافر فيه جهود البشر والتقنية.


المراجع والمصادر: 1. ستيفان فيال، الكينونة والشاشة، كيف يغير الرقمي الإدراك، ترجمة: إدريس كثير، هيئة البحرين للثقافة والآثار، مطبعة الكركي، بيروت، ط1، 2018. ص: 122.┇2. المرجع السابق، ص: 123.┇3. المرجع السابق، ص: 183.┇4. آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 2020، ص: 266.┇5. المرجع السابق، ص: 292.┇6. استيفان فيال، الكينونة والشاشة، كيف يغير الرقمي الإدراك، ترجمة: إدريس كثير، هيئة البحرين للثقافة والآثار، مطبعة الكركي، بيروت، ط1، 2018. ص: 55.┇7. المرجع السابق، ص: 45.┇8. المرجع السابق، ص: 233. ┇ 9. Aldous Huxly, Literature and science, 1963, p14
10. يورغن هابرماس، العلم والتقنية كـ"ايديولوجيا"، ترجمة حسن صقر، دار الجمل، ط1، كولونيا، ألمانيا، 2003. ص: 100.┇11. جاك رانسيير، سياسة الأدب، ترجمة رضوان ظاظا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012. ص: 89.┇12. آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، ط1، بيروت، 2020. ص: 267.┇13. الهولوغرام أو الصور المُجسَّمة تمتلك خاصية فوتوغرافية فريدة، تمكنها من إعادة تكوين صورة الأجسام بأبعادها الثلاثة في الفضاء، باستخدام أشعة الليزر.┇14. ستيفان فيال، الكينونة والشاشة، كيف يغير الرقمي الإدراك، ترجمة: إدريس كثير، هيئة البحرين للثقافة والآثار، مطبعة الكركي، بيروت، ط1، 2018. ص: 117- 118.┇15. إلزا غودار، أنا أُسيلفي إذن أنا موجود "تحولات الأنا في العصر الافتراضي"، ترجمة: سعيد بنكَراد، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب، 2019. ص: 29- 30.┇16. المرجع السابق، ص: 30.┇17. المرجع السابق، ص: 144.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها