معهد الموسيقى بالقاهرة.. مُتحفٌ فني وصرح تعليمي

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

يُعتبر معهد الموسيقى العربية بالقاهرة أحد المعاهد التعليمية والمتاحف الفنية الرائعة، الذي يقدم نوعاً من أرقى الفنون وهو الموسيقى، ويمثل صالوناً أدبياً وملتقىً شعرياً، كما يضم المعهد متحفاً لأحد رواد الغناء والتلحين؛ وهو الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تتلمذ على يد أمير الشعراء أحمد شوقي.


وقد ارتبط الإيقاع والموسيقى بالشعر ارتباطاً وثيقاً، وصدق الأديب والشاعر ابن رشيق القيرواني بقوله: إنّ "الموسيقى حلّة الشعر فإن لم يلبسها طويت"1، واهتم العرب قبل الإسلام بفنون الموسيقى والغناء والعزف على الآلات الموسيقية على غرار شعوب الشرق الأدنى القديم؛ وذلك لإرتباط الشعر العربي بالبحور والإيقاعات الموسيقية المرتبطة بهذا الشعر، ويروى أن أهل اليمن كانوا أبرز منْ مارس هذا الفن، وأن أحسن الموسيقى وأجودها إنما كانت تأتي من اليمن، ومع بداية التاريخ الميلادي تركز النشاط الموسيقى في الحجاز، وبرز سوق عكاظ كمركز للمؤتمرات والاحتفالات للشعراء والموسيقين في حلقات تنافسية يتلون أشعارهم ويغنون قصائدهم، وأصبح مركزاً للفنون المحلية يتنافس فيه الشعراء والموسيقيون2.

فكرة إنشاء المعهد

بدأت فكرة إنشاء معهد الموسيقى العربية في عهد الملك أحمد فؤاد الأول عام 1913م، حيث كان يتردد على منزل حضرة صاحب العزة مصطفى رضا جماعة من هواة ومحبي شعر الموسيقى الشرقية، وبدأوا يفكرون في تأسيس صالون أدبي، ونادٍ يكون غرضه نشر الموسيقى العربية، والمحافظة عليها، وإيجاد بيئة لائقة تضم أنصارها ومحبيها من الأدباء والشعراء والموسيقين، وتم ذلك في 25 نوفمبر1913م، واهتم به الملك أحمد فؤاد الأول، وشمله برعايته لما يبذله هذا النادي في سبيل النهوض بالموسيقى الشرقية3.

وكان مقر هذا النادي في البداية داراً صغيرةً برقم (19) شارع محمد علي؛ حيث كانت أغراضه في بادئ الأمر متواضعة، وعندما اتسعت أعماله انتقل إلى دار أوسع في رقم (7) بشارع 26 يوليو4، ثم بدأ التفكير في إنشاء مدرسة نظامية للموسيقى، تتولى توفير وسط موسيقي راقٍ لتعليم الموسيقى العربية في مصر، ففكروا في بناء مبنى على الطراز الإسلامي، يعبر عن الهُوية والثقافة العربية الإسلامية ليكون مقراً لناديهم، ويكون أول معهد للموسيقى الشرقية، وتفخر مصر بأن تكون السابقة في إنشائه.

وتمّ تشييد مبنى المعهد بشارع رمسيس بالقاهرة5، ووضع تصميم مبنى المعهد الإيطالي أرنستو فيروتشي، واشترك مع فيروتشي المعماري بول كونين باستير، كما اشترك في بناء المعهد عدد من المهندسيين المصريين، منهم فرج بك أمين مهندس السرايات الملكية6.

وافتتح المعهد لأول مرة عام 1927م، ثم أعيد افتتاحه بحضور الملك أحمد فؤاد الأول يوم الخميس 26 من ديسمبر1929م، وتغير مسماه من نادي الموسيقى العربية إلى معهد الموسيقى العربية، وفي مايو 1933م تغير مسماه إلى المعهد الملكي للموسيقى العربية، وأصبح المعهد يمثل أكبر صرح تعليمي فني للموسيقى في الشرق؛ والدور المهم المنوط به هو النهوض بالفن، والحفاظ على تراث وموروث الموسيقى العربية، كما كان يعقد به مؤتمر الموسيقى العربية السنوي، والذي يجمع المختصين والمهتمين بالموسيقى العربية من جميع أنحاء العالم7، وقد عقد به المؤتمر الأول للموسيقى العربية في الفترة من 14 مارس إلى 3 أبريل 1932م؛ وحضر هذا المؤتمر عدد من علماء الموسيقى والشعراء من العرب، ومن شمال إفريقيا والشام ومصر وتركيا وأوروبا8.
 

وصف مبنى المعهد وطرازه المعماري

تبلغ مساحته حوالي 3200م2؛ وهو عبارة عن طابقين، ويحيط به سور حديدي يضم بداخله حديقة، وتطل واجهته الشمالية على شارع نادي الموسيقى، وتتميز هذه الواجهة بوجود رفرف خشبي لحماية المبنى من أشعة الشمس وماء الأمطار، أمّا الواجهة الشرقية فتطل على شارع رمسيس، ووضع المهندس المدخل بشكل رائع؛ حيث يأخذ ناصيتين عند التقاء شارعي نادي الموسيقى وشارع رمسيس، ويتوج فتحة المدخل عقد حدوة الفرس، ويزخرف كوشتيه جامتين تشبهان الرنوك المملوكية الكتابية تشتملان على تاريخ الإنشاء؛ ففي الجامة اليسري التاريخ بالهجري 1341هـ، وفي اليمني التاريخ الميلادي 1923م، ويعلو فتحة المدخل مشربية على الطراز العربي الجميل من خشب الخرط، ويتوج واجهات المبنى أشكال الشرّافات التي تأخذ شكل الورقة النباتية الثلاثية.
ويؤدي المدخل إلى بهو مستدير يتميز بالثراء الزخرفي والإبداع الفني، وأهم ما يشتمل عليه بهو المعهد؛ المسرح وهو عبارة عن خشبة مستطيلة يعلوها نص تأسيسي للمعهد نصه (شيد في عهد ورعاية صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول)، وعلى جانبي هذا النص سجل تاريخ الإنشاء بالتاريخين الهجري 1314هـ والميلادي 1923م.
وعلى يمين ويسار خشبة المسرح اثنين من البناوير الملكية مزخرفة بزخارف إسلامية رائعة، وعليها نحت بارز لشعار المملكة المصرية، ويوجد أيضاً عدد من البناوير الأخرى المخصصة لجلوس الضيوف للاستماع لحفلات الموسيقى.
ويشتمل الطابق الثاني على ممر له درابزين خشبي جميل، ويفتح عليه عدد من القاعات التي كانت مخصصة للتدريس والتدريب على الآلآت الموسيقية.

الطراز المعماري لمبنى المعهد

يتضح من خلال وصف المبنى أنه مصمّم على الطراز الإسلامي المستحدث9 على الطابع المملوكي؛ فجاء تصميم المبنى أشبه بتصميم العمائر الدينية المملوكية، وقد جاء هذا التصميم مناسباً لطبيعة المبنى ووظيفته لإحياء التراث الموسيقي الشرقي، وقد اتجه المعماريون خلال ق13-14هـ/19-20م إلى إعادة إحياء الطرز العربية المعبرة عن التراث القومي المحلي بعد غزو الطرز الأوربية بمدينة القاهرة، ونلاحظ مفرادات وعناصر العمارة الإسلامية بوضوح في مبنى المعهد؛ فاستخدمت المقرنصات التي تتوج نهايات الجدران وفي أشكال الشرّافات، وفي شكل القبة التي تعلو دهليز المدخل، وفي أشكال الجفوت اللاعبة، كما ظهرت تأثيرات مغربية في استخدام عقد حدوة، الفرس الذي يتوج فتحة المدخل وغيرها من الزخارف النباتية كالأرابيسك، والزخارف الهندسية كزخرفة الطبق النجمي وغيرها.
 

مشتملات المعهد ومحتوياته

يعتبر المعهد الآن مركزاً موسيقياً مهماً بوجود متحف محمد عبد الوهاب، ومتحف الآلات الموسيقية، والمكتبة الموسيقية، ومسرح معهد الموسيقى العربية.
 

◅ مكتبة المعهد

وهي مكتبة عامرة بالتراث الموسيقي والكتب الموسيقية النادرة، والمخطوطات المهمة التي تتناول تاريخ الموسيقى في مصر والعالم، والاسطوانات الكاملة لمؤتمرات الموسيقى العربية، وتحتوي على النسخ الأصلية للعديد من الاسطوانات والشرائط لمشاهير الغناء والتلحين بمصر والعالم العربي، وجميع أعداد مجلة الموسيقى العربية.

◅ متحف الآلآت الموسيقية

يحتوي متحف الآلات الموسيقية على مجموعة من الآلات الشرقية القديمة والتي تعتبر فريدة من نوعها، وخصصت لها القاعات المختلفة بالمتحف تبعاً لنوعية كل آلة؛ فتوجد قاعة لآلات النفخ، وقاعة لآلات الإيقاع، وأخرى للآلات الوترية، ويوجد بجوار كل آلة بطاقة استرشادية لاسم الآلة وطريقة استخدامها.

ويحتوي المتحف على بعض الآلات النادرة التي تميز فن الموسيقى في دول مختلفة، ومن أمثلتها: آلة الكوتو اليابانية، وآلة السيتار الهندية، وآلة السانتور التركية، بالإضافة إلى آلة البيانو الشرقي والعود، والذي يعتبر من أهم الآت الشرق الموسيقية10. وقد ذكر بعض الرّحالة المستشرقين أسماء هذه الآلآت بكثرة في كتاباتهم، وأنواعها واستخدماتها ورسموها في لوحاتهم11.
 

◅ متحف الموسيقار محمد عبد الوهاب

كان لمحمد عبد الوهاب دور كبير في إثراء الوجدان المصري والعربي بفنه الراقي، ودوره الوطني النبيل، وبفضله شهدت الموسيقى الشرقية انطلاقة كبيرة وصلت إلى العالمية، وكان قد قام بتلحين الكثير من القصائد الشعرية لكبار الشعراء أمثال أستاذه أحمد شوقي والشاعر أحمد رامي وغيرهما، وكان معهد الموسيقى العربية يشكل محطة رئيسة في مسيرة عبد الوهاب الفنية؛ فقد استقبله المعهد مغنياً عام 1929م أمام الملك فؤاد في حفل افتتاح المعهد، حيث قام بالاشتراك في الغناء مع أمير الشعراء أحمد شوقي في أغنية (الليل لما خلى)، واستقبله طالباً ثانيةً عام 1931م، ثم أصبح بعد ذلك أحد رموزه الفنية.

ولذا؛ تبنت وزارة الثقافة إعداد متحف يليق بعطائه، ويحكي قصة حياته تقديراً لفنه العظيم، وتخليداً لذكراه وتوثيقاً لتراثه الموسيقي، وخصصت مساحة تبلغ حوالي 300 متر مربع من الطابق الثاني من المعهد، وافتتح في 4 يونيو 2002م/23 ربيع الأول 1422م. ويعرض المتحف قصة حياة محمد عبد الوهاب منذ ميلاده وحتى وفاته، ويحتوي المتحف على مجموعة من الصور النادرة والمتعلقات الشخصية له، كما يعرض عدداً من غرف الفنان الخاصة مثل غرفة نومه ومكتبه الخاص، ومجموعة من قطع الأثاث المفضلة لديه، وبعض متعلقاته الشخصية والجوائز والأوسمة التي حصل عليها12. ويعرض كذلك بعض الآلآت الموسيقية النادرة التي عزف عليها كالبيانو والعود الخاص به، وأيضاً آلة الماندولين الإيطالية التي عزف عليها أغنية عاشق الروح في فيلم غزل البنات13.


الإحالات:
1. للمزيد انظر، الحسن ابن رشيق القيرواني (ت456هـ)، ‏العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ‏دار الجيل، ‏1972م.
2. هنري جورج فارمر، تاريخ الموسيقى العربية، ترجمة حسين نصار، المركز القومي للترجمة، العدد 1589، القاهرة، 2010م، ص: 10. وحربي عباس محمد، حسان حلاق، العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1995م، ص: 442.
3. مؤلف مجهول، المعهد الملكي للموسيقى العربية نشأته وأغراضه وأعماله، معهد الموسيقى العربية، ص: 3-14-59.
4. فتحي حافظ الحديدي، الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة والمرافق العامة بمدينة القاهرة، دار المعارف، القاهرة 2007م، ص: 53.
5. سهير زكي حواس، القاهرة الخديوية: رصد وتوثيق عمارة وعمران منطقة وسط المدينة، مركز التصميمات المعمارية، القاهرة 2002م، ص: 140.
6. محمد علي عبد الحفيظ، دور الجاليات الأجنبية والعربية في الحياة الفنية في مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دراسة أثرية حضارية وثائقية، رسالة دكتوراه، كلية الآثار، جامعة اﻟﻘﺎﻫﺮة، 2000م، ص: 17.
7. ذينب إسماعيل مرسي طلبة، الآثار الباقية في شارع رمسيس بالقاھرة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين "دراسة آثارية معمارية وفنية"، رسالة ماجستير، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 2010م، ص: 199-200.
8. كتاب مؤتمر الموسيقى العربية المشمول برعاية حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول المنعقد بمدينة القاهرة في سنة 1350هـ/1932م، وزارة المعارف العمومية، المملكة المصرية، المطبعة الأميرية 1933م.
https://ar.wikipedia.org/wiki/المؤتمر_الأول_للموسيقى_العربية
9. عصام الدين عبد الرؤوف، اتجاهات العمارة المصرية من التراث إلى المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الهندسة، جامعة الأزهر، 1976م، ص: 164.
Sakr, Tarek Mohamed Reffat, Early Twenty-Century Islamic Architecture in Cairo, the American university in Cairo press, 1992.
10. جيوم أندريه فيوتو، كتاب وصف مصر، الترجمة الكاملة، الآلات الموسيقية المستخدمة عند المصريين المحدثين، مج 9، ترجمة زهير الشايب، دار الشايب للنشر، القاهرة، 1994م.
11. إدوارد وليم لين، المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم، ترجمة عدلي طاهر نور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص: 307-318.
12. http://standards-ica.com/view_dist_des.php?id=46 
13. سليم سحاب، الآلآت الموسيقية الغربية في تراث محمد عبد الوهاب، ص: 155.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها