سرديات الواقع في الخطاب الروائي العربي!

رواية ''بلاد القائد'' لعلي المقري نموذجاً

إبراهيم الكراوي

تشتغل رواية ''بلاد القائد'' للروائي اليمني علي المقري على تمثل مفهوم بلاغة الواقعية الجديدة في الرواية المعاصرة، كما يتجلى من خلال رمزية البناء في الخطاب الروائي والأنساق الدالة. فالبناء في هذه الرواية، ليس مكوناً معزولاً عن المادة الروائية، بل هو تَجَلٍّ رمزي للواقعة الروائية، وعامل أساسي في تشكل الخطاب الروائي. وهكذا يظهر أن الخطاب الروائي تمثيل لسردية الانتقال من مكون الواقع بوصفه محتوى أيديولوجياً، إلى سرديات الواقع بوصفها تشكل محتوى ينسج روائية النص.
 

إن جماليات السرد في ''بلاد القائد'' تنطوي على محاولة سبر الواقع، وتحويله إلى شكل محتوى ينسج روائية النص. وبالتالي تنطلق سردية الرواية من كون الواقع بنية روائية تشتغل على إنتاج أنساق المعنى، من خلال النص المتعدد والعابر للأجناس.
وفي ظل هذا التعدد والحوارية بين الأجناس في الرواية، تظهر الوظيفة الروائية المهيمنة التي تتجلى فيما يمكن أن نسميه هيمنة شعرية حبكة في سرديات الواقع. وهي الوظيفة التي تظهر من خلال رمزية بنية الفصوص من جهة، ووضعية السارد المشارك في الحكي وما يتبع ذلك من مكونات أخرى؛ كما سنعاين من خلال الأنساق الرمزية الزمكانية، والعلاقات بين الشخوص ورمزية البناء وتشاكله مع مكون الواقع.

وبناءً عليه، يتجلى الواقع في النص الروائي، بوصفه مادة قابلة للإدراك، ولكن من حيث كونها شكلاً للخطاب يتشكل من خلال علامات لانهائية، ويتحول إلى بنية روائية. وهذا ما يمكن أن نستشفه انطلاقاً من نسق العلامة المرجعية العنوان ''بلاد القائد''، وعلاقاته الجدلية مع أنساق العناوين الفرعية التي تتمثل في صورة الفصوص، فكل فص يمثل مساراً تصويرياً سردياً يرتبط بفضاء وفئات من الشخوص.

ولذا نجد العلامة المرجعية ''القائد'' بؤرة الحكي ترتبط مع أنساق علامات شخوص، تتوزع إلى ثلاث فئات؛ يحكمهما مبدأي الانفصال والاتصال. وهذه الفئات تتوزع إلى:
‣ فئة شخوص تمثل حاشية القائد التي سرعان ما تنقلب مواقفها مع اندلاع الثورة، مما يكشف النزعة الانتهازية التي تميز هذه الفئة.
‣ وفئة شخوص مُعارضة لشخصية القائد، والتي تتوزع إلى شخصية ''سَحَر'' المرأة المثقفة المتشبعة بقيم الثورة والحرية، وهي تقطن بأمريكا، ثم نادية ضحية ذكورية وبشاعة السلطة، والقائد بشكل خاص، والتي تضطر إلى إخفاء أفكارها خوفاً من بطش القائد.
وهذه الفئة الأخيرة، تعكس الأنساق الدالة داخل الخطاب والمتمثلة في السلطة والحرية (القائد، وسحر)، المثقف والسلطة (السارد والشاعر محمدين والقائد)، الذكورة والأنوثة (القائد، والطالبات، ابنه المعتز والراقصات، ابنته شيماء التي تتحول إلى نسق ذكوري بفعل الاستلاب الأنثوي الذي تعيشه في ظل سلطة الأب والسياسي، وهو ما يكشف عن صورة علاقتها بالسارد المثقف-الشخصية والذي تعمل على استدراجه كلما سمحت الفرصة بذلك). ولذا يغلب طابع التوتر على بنية العلاقات بين الفئتين.

ولقد جاء التبئير الداخلي على فئة شخوص في فضاء دار الضيافة كاشفاً التوتر داخل الواقع، وهو توتر يظهر من خلال الأمكنة المغلقة التي تستلب الحرية والأنوثة: دار الضيافة، غرفة نوم القائد، وغرف شيماء والمعتز.. وأمكنة مفتوحة تؤشر إلى الحرية والرغبة في التحرر شوارع العاصمة، فضاء أمريكا الذي يحتضن المعارضة سحر.

وفضلاً عن ذلك، يكشف التحول من التبئير الداخلي على شخصية السارد إلى التبئير على شخصية القائد بينة التوتر داخل الخطاب ذاته، كما يتجلى من خلال التوتر بين الدال والمدلول.

فالسارد المشارك في الحكي يستهل السرد بضمير الغائب، من أجل إلقاء الضوء على الحافز المُولد للسرد، وتَفكيك هذه العلاقات وثنائيات الحاكم والمحكوم، السلطة والمثقف. وتحت تأثير الفقر ومرض زوجته سماح، سيضطر السارد المثقف إلى قبول عرض صديقه الشاعر محمدين، وهو كتابة سيرة القائد بعد أن أوعز له بأن القائد يحب رواياته. ولذا يرتبط الفعل الروائي برغبة في تحقيق حلم الذات– الكاتب: "وجدتها فرصة لتجاوز أحوالي المعيشية؛ ولأصبح قادراً على الكتابة في ظروف أفضل ..." [ص : 10].

إن التوتر داخل الواقع يتحول إلى أنساق رمزية روائية، كما يتجلى من خلال التوتر بين الدال والمدلول داخل الخطاب، وكما عاينا التوتر بين المغلق والمفتوح، بين الداخل والخارج؛ بالإضافة إلى التوتر الذي يكشف عنه مكون الفص بوصفه يؤشر إلى رمزية بناء الرواية.

ولعل أبرز تجليات التوتر بوصفه نسقاً يساهم في تشكل روائية الخطاب هو رمزية بنية الفصوص. ففي الوقت الذي ننتظر اكتمال سيرة القائد تطفو على سطح الخطاب انتفاضة تخلق انزياحاً سردياً داخل الخطاب.

وفي هذا الإطار، سينتقل بنا السارد إلى وضعية محاولة الاتصال بالقائد من أجل تحقيق الرغبة إلى الانفصال عنه، وهو ما يخلق بنية توتر. فيضعنا السارد داخل مشهد انطلاق رحلة وقائع ومغامرات، تنتفي فيها المشاهدات والوصف كما نعهد في الرحلة، لتَحضر الوقائع. وهو ما يبرر وتيرة إيقاع الأحداث المتسارعة التي سيتم سردها، والتي ستتيح للسارد استعارة أسلوب القصة القصيرة في الحكي، حتى إنه يمكن قراءة كل فص مستقلاً عن الآخر باعتباره مُحَدَّدًا ضمن وحدة الزمان والمكان والخبر السردي.

إن الانتقال من فضاء القاهرة إلى فضاء طرابلس سيترتب عنه ظهور حبكة يتجلى من خلالها استثمار الواقع وتحويله إلى بنية روائية. فبعد أن يشرع السارد في كتابة سيرة القائد كما يخطط لذلك، سيجد نفسه متورطاً في كتابة سيرة هذا القائد الديكتاتور، كما وجد نفسه متورطاً في علاقته بشيماء ابنته التي تمثل صورة للشخصية المستلبة، والمفرغة من كل حس إنساني نتيجة ممارسات هذا القائد. فهي تعيش استلاباً مزدوجاً؛ أي أنثوياً وسياسياً تضطر معه إلى قمع رغباتها الأنثوية بما يتماشى وموقعها في هرم السلطة بوصفها ابنة الرئيس.

وستتعمق الوضعية التراجيدية للسارد الشخصية حين يتم الانتقال من ''فص الاكتمال'' وفص القذى إلى داخل أحداث تراجيدية، ستَضع السارد في وضعية الانفصال الحتمي وتغيير الرؤية للعالم.

وتأسيساً على ذلك تتحول وظيفة التبئير الداخلي على شخصية الحاكم بوصفها تُعري تناقضات الواقع، إلى التبئير الداخلي على الشخصية المحكومة يعري اللاوعي الجمعي، ورغبته في التخلص من شبح الديكتاتور.

إن جماليات السرد تتجلى من خلال الوظيفة الروائية المهيمنة في ظل التعدد والحوارية بين الأجناس. فالرواية تتشرب أجناساً متعددة بتعبير ميخائيل باختين، فننتقل من الروائي إلى الرحلي والسيري الكاشف لفضاء طرابلس ولزمن الربيع العربي ووقائعه، مروراً عبر الشعري الذي يعري عن أنساق السلطة التي تكتفي بإبراز صورة مقدسة عن وجودها، لنعود مرة إلى فضاءات تراجيدية تصور لحظة التنكيل بجثة القائد.

وهكذا يتحول الواقع في رواية ''بلاد القائد'' من بعده المرجعي إلى أنساق رمزية، تكشف الانتقال من المادة الواقعية إلى جماليات السرد، وذلك من خلال محاولة سبر أغوار هذا الواقع، من حيث هو تشكل محتوى كما نستشف من خلال رمزية بناء الفصوص، والأنساق الدالة والأجناس العابرة للنص، والتعدد اللغوي؛ إننا في هذا المقام بصدد الانتقال من الواقع إلى سردية الواقعية في الخطاب الروائي المعاصر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها