ما بعد الإنسانية أو حينما يسلّم الإنسان قدره للآلة

د. سعيد عبيدي

خلال السّنوات القليلة الأخيرة أصبحت البشرية تمتلك القدرة على إعطاء شكل آخر للوجود وللإنسان؛ إذ أصبح في الإمكان تعديل الجسد وتطوير إمكانياته تطويراً مذهلاً بل حتّى الإضافة إليه باستخدام التّكنولوجيا والتّقنية الرّقمية، باختصار إنّنا نعيش زمن "ما بعد الإنسان"1. بعد أن عشنا زمن "ما بعد الماركسية" وزمن "ما بعد الحداثة" وزمن "ما بعد التّاريخ" وزمن "ما بعد الصّناعة" وغيرها، فالاستخدام المتكرّر لكلمة "ما بعد" يعكس تلك النّزعة "المتأصّلة في مجتمعات الأمم المتقدّمة لـ"المراجعة" المستمرّة لما يكون قد ترسّخ في ثقافاتها من مسلّمات وأفكار وتصوّرات عن الواقع المَعيش، ولا تقتصر هذه المراجعة على ما ثبت خطؤه أو قصوره من أفكار، بل تمتدّ لتشمل حتّى تلك الأفكار التي أثبت صحّتها مردودها الإيجابي على أحوال المجتمعات التي تبنّتها، ولا تنحصر نتائج تلك المراجعات وآثارها على مجتمعات المنشأ، بل نراها تمتدّ لبقيّة المجتمعات لتؤثّر في أحوالها بشكل أو بآخر، لذا لا يكون مستغرباً إن أطلقنا على زماننا اسم "زمن الما بعد"2.

إنّ زمن "الما بعد" هو زمن تجاوز ما استقرّ في عقولنا من أفكار حتّى تحجّرت فيه كمسلّمات غير قابلة للنّقاش، وزمن تجاوز ما اعتدنا عليه من مؤسّسات ونظم اجتماعية والتي تجمّدت في ممارساتنا حتّى أصبحت غير قابلة للتّغيير، وزمن تحدّي منظومة قيّم رفعناها إلى درجة القداسة حتّى أصبحت أيّ دعوة لمناقشتها من المحرّمات، ففي هذا الزمن الذي تلاشت فيه الحواجز التي تحدّ من انتشار المعلومات والأفكار بفعل الإنترنت والفضائيات لا منقذ لنا من موجة زمن "الما بعد" إلا بالانفتاح على ما تحمله إلينا التّكنولوجيا والتّكيف مع معطياتها، ولا يتأتّى هذا إلا بمناقشة ما نعتبره من المسلّمات، وبمراجعة ما استقر عليه المجتمع من بنى ومؤسّسات، وبتنقية منظومة قيّمنا، ممّا يحد قدرة مجتمعنا على الانطلاق.

ففي ظلّ هذه التّغيرات والمراجعات المتسارعة ظهرت حركة "ما بعد الإنسانية" أو "ما بعد الإنسان"، والتي كانت نتيجة لمراجعة فكرة "عملية التّطور البيولوجي للإنسان" بهدف تحرير "الإنسان من بطء إيقاعاتها وضيق خيّاراتها، والتي تقوم على الاستخدام المكثف للمعرفة العلمية والابتكارات التّكنولوجية، فـ"ما بعد الإنسان" من منظور هذه الحركة ستجعل هذا الأخير يتمتع بقدرات عقلية تفوق عباقرة إنسان اليوم، وسيكون قادراً على مقاومة الأمراض، ويسيطر على الشّيخوخة ليتمتّع بشباب دائم، هذا بالإضافة إلى قدرته الفائقة على السّيطرة على مزاجه وغرائزه التي لا تنقضي"3.

فمنذ وقت ليس بالقصير "سرت إشاعات على أنّ عصر الإنسان قد سلم مقاليده إلى عصر "ما بعد الإنسان"، ليس الأمر أنّ الإنسان قد مات، ولكنّ الإنسان بوصفه مفهوماً قد تطوّر درجة أو درجات، فالإنسان ليس نهاية الطريق، إذ يبزغ من خلفه السّايبورغ (Cyborg): الكائن الهجين المخلوق من تزاوج الكائن البيولوجي والآلية السايبرنيتيكية. وفي حين أنّه من الممكن أن تنظر إلى الإنسان بوصفه ظاهرة طبيعية بلغت النّضج بوصفها نوعاً من خلال الانتقاء الطّبيعي والتّطور الجيني التّلقائي، فإنّه لا مكان لهذه الأوهام في السايبورغ، ذلك أنّه كائن مركب منذ البداية: كائن تكنولوجي يجمع ثنائية الطبيعي واللاطبيعي، المولود والمصنوع "4.

وفي هذا السياق لا بد أن نشير إلى أن المفهوم "ما بعد الإنسان" ظهر أوّل ما ظهر في كتابات الغربيين أمثال تيرانوفا تيزيانا (Terranova Tiziana) في كتابه: " posthuman unbourded : Artificial Evolution And High-tech subcultures"
الصّادر سنة 1996، وهالبرستام (Halberstam) في كتابه: "Judith and Livingstone" الصّادر سنة 1995، وغراهام إلين (Graham, Elaine) في كتابه: "Representations of the post human" الصّادر سنة 2002، وفكوياما (Fukuyama) في كتابه: "Our Posthuman Future: consequences of the biotechnology revolution" الصّادر سنة 2000، وبادنتون نيل (Badminton Neil) في كتابه: "Post humanism" الصّادر سنة 2000، كما تحدث عن هذا المفهوم الكاتب حسن إيهاب في كتابه: "Prometheus as Prerformer : towars a Posthumanist culture?" الصّادر سنة 1977، والذي قد يكون أوّل من تحدّث عن هذا المفهوم.

إنّ مفهوم "ما بعد الإنسان" ما هو إلا دعوة صريحة إلى "تفكيك" هذا المخلوق، "وإعادة تجميعه وتشكيله وفق مفهوم جديد يفقده جوهر هويّته الجامعة التي رسخت في الوجود منذ بدء الوجود، فيفقده اسمه ولا يجعله إنساناً، بل "ما بعد إنسان" يبحث لنفسه، أو يبحث له، عن مصطلح آخر يلتقط سمات مكوّناته الجديدة ويدرك علاقاتها الممكنة فيضفرها في إهابه، ويتعرّف على جوهره العميق فيسمّيه، ويبدو جليّا أنّ عمليات تفكيك الكائن البشري وإعادة تشكيله إنّما تتمّ عبر سياقات ومسارات وخطوط إنتاج تلغي الحدود المعروفة بين العوالم الكونيّة والثّنائيات، المتجاوبة أو المتعارضة، حيث هنا يصير هذا الـ"ما بعد إنسان"، أو هذا الكائن المعاد تشكيله والذي يأتي مقرونا بـ"ما بعد حداثة أو بـ"ما بعد بعد حداثة"، كائنا تقانيّا (نسبة إلى التقنية) مركّبا من ثنائية ملتحمة تضفر الطبيعي باللاطبيعي، والمطبوع بالمصنوع، والمولود الطبيعي البيولوجي بالمصنّع التّقاني الافتراضي، أي تضفر الإنسان بالتّقانة، أو تزاوج بينهما في سياق تركيب كان مجرّدا، أو كان محض تصوّر خياليّ علميّ أو غير علميّ، ولكنّه لم يعد كذلك، إذْ هو يمعن، منذ زمن ليس بقصير أبدا، في تجسيد نفسه وترسيخ حضوره في الحياة عبر تمظهرات نلمسها في كلّ لحظة، وفي كل حيّز اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ، وفي كلّ مجال معرفيّ، وفي كلّ بؤرة اهتمام ومكان وحين"5.

إنّ مفهوم "ما بعد الإنسان" يختزل تلك النّظرة المزدرية للوضع الإنساني، والشغف بالقوّة المتميّزة والفائقة، فمفهوم "ما بعد الإنسان" هو تجديد للصّراع القديم بين العلم والدّين؛ حيث العلم يحتفي بتفوّقه وقدرته على تجاوز وتقويض مسلمات الدّين، وهو دعوة صريحة للدّخول في عصر جديد يسلّم فيه الإنسان قدره للآلة الفائقة الذّكاء والقادرة على خدمة الإنسان وتمكينه من قهر الطبيعة؛ بل دعوة كذلك للتخلّي عن الخصائص المتميّزة للإنسان والاستسلام لعوالم ما بعد الإنسانية، والانتشاء بلذة التّفرد والتّميز. إنّ الفكر "ما بعد الإنساني" الذي هو في طور التّشكل، لم يظهر من فراغ، وإنّما هو استمرار لفكر قديم كان مفتوناً بفكرة الخلود، وبالتّالي فتجديد هذا الفكر الآن قد ارتبط بسياقات جديدة6.

إنّ فكرة "ما بعد الإنسان" ما هي إلا قفزة على ما ألفناه واعتبرناه مقدّساً في دواخلنا، فأصحاب هذا التّصور يرون أنّه إذا استطاع الإنسان بناء "كيّانات تكنولوجية تتفوّق عليه في الذكاء، فإنّ العالم يدخل بذلك إلى نظام جديد، سيلفظ في غمضة عين كلّ القواعد السّابقة على وجوده، ويصبح مختلفًا بصورة جذرية عن النّظام القائم الآن، حيث ستزداد وتيرة الإنجازات التّقنية بصورة تقضي على أيّ أمل في السّيطرة عليها، وسيمكن عند ذلك تحقيق إنجازات –كان يستغرق تحقيقها عدّة قرون- في ساعات معدودة، ولكن في نفس الوقت سيصبح الإنسان نفسه بلا حول ولا قوّة أمام تلك الكيانات التّكنولوجية التي تتفوّق عليه، تماماً مثل ما حدث للحيوانات عندما ظهر من هو أكثر منها ذكاء، فسخّرها لخدمته، وربّما تقرّر الحكومات حينئذ أنّه لم يعد هناك حاجة للمواطنين، فالكيّانات التّكنولوجية تفعل كلّ شيء. لهذا قد يبدو الأمر في أوّل وهلة كأنّه خزعبلات علمية، أو صورة من صوّر الخيال العلمي، لكنّ أصحاب هذا التّصور يقولون: ومن كان يصدّق أنّنا سنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، والذي كان ينظر إليه أجدادنا كخيال علمي؟"7.


الهوامش
1. يراد بما بعد الإنسان ذلك الكائن الإنساني الذي ستحوله التكنولوجيا إلى إنسان مركب من قطع غيار متعددة، مصنعة في المختبرات فهو "إنسان" معدل وراثياً، يصطلح عليه بـ Cyborg؛ وهو إنسان آلي أو شبه آلي يتجاوز النقص البشري. (FUKUYAMA, F ; the World’s most dangerons idea: transhumanism; Foreirg Policy; 2004;P: 42 – 43
2. السيد نصر الدين السيد، خرابيش: تأملات عن المحروسة في زمن الهوجة، دار العين للنشر، الإسكندرية، 2015، ص: 6.
3. نفسه، ص: 7.
4. أماني أبو رحمة، أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع، دمشق، 2014، ص: 78. بتصرف.
5. عبد الرحمن بسيسو، الإنسان وما بعد الإنسان، صحيفة العرب، العدد 10282، بتاريخ: 21/05/2016، ص: 16.
6. خالد ميار الإدريسي، ما بعد الإنسان: قراءة نقدية واستشرافية للإفراط التكنولوجي وتأثيره على الوضع الإنساني، موقع مسارات للرصد والدراسات الاستشراقية نقلاً عن مجلة مآلات، الرابط http://www.massarate.ma/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9
7. جبريل العريشي، عصر ما بعد الإنسان، صحيفة عكاظ، العدد 4749، بتاريخ: 18 يونيو 2014.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها