السحرُ الحلال.. لغابرييل غارسيا ماركيز!

مجموعة "عينا كلب أزرق" نموذجاً

د. محمد رمصيص

نشأ غابرييل غارسيا ماركيز مع جديه بعيداً عن الأبوين، ودرس في مدرسة داخلية. ولما صار يافعاً عاش بين المكسيك وأوروبا -رغم أنه كولومبي الجنسية- تفادياً لحروبها الأهلية. وبدءاً من خمسينيات القرن العشرين أقام بأوروبا، التي زادت من إحساسه بعزلة العالم الثالث الذي ينتسب إليه. عوامل كثيرة تضافرت لتجعل من وحدة الإنسان والشعور بالعزل موضوعاته المفضلة، كما في روايته "مائة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا". غير أن عيشه مع جديه بقدر ما أبعده عن دفء حضن الأم وحماية الأب، منحه خبرة الجدة بحكاياتها الشيقة، وقدرتها على الإدهاش بسبب خيالها البالغ الثراء. حكي اتصف بالغموض المقصود، فضلاً عن استثماره لاحقاً الذكريات العسكرية للجد، لكنه بقدر ما عاش العزلة في الواقع.. اخترقها بكتاباته إذ يمكن القول -دون مبالغة- إنه صار رمز أمريكا اللاتينية، بل ورمز قارة بأكملها بأسلوبه الخاص، الذي جعله يجتاز حدود مسقط رأسه وعالمه الثالث؛ ليسمع صوته الحكائي الخاص.

وفي هذا الأفق قالت عنه الكاتبة الشيلية إيزابيل أليندي في تأبينه: "هذا الصوت الذي روى للعالم ما نحن عليه، نحن الأمريكيين اللاتينيين، لقد دلنا على أنفسنا في مرايا صفحاته، عزاؤنا الوحيد أن أعماله خالدة".

 بالنتيجة ظروف تنشئته الخاصة؛ شكلت خلفية خياله الساحر في رسم شخصياته وهندسة مصائرهم وعوالمهم السردية. صحيح جداً أنه تأثر لاحقاً بفرانز كافكا، ودوستويفسكي، وأندري جيد، لكن الأساس الذي أمده بالمادة السردية الأولى هو خيال زمن البدايات الأولى مع الجدين. خيال بني على المزج بين الحقائق التاريخية والقصص الخيالية. توليفة تدخل عميقاً في الأفق الجمالي للواقعية السحرية، دون أن يعني هذا انصرافه كلياً لما هو جمالي، وترك القضايا الإنسانية الكبرى. يكفي أن نستحضر أنه بالموازاة لحصوله على جائزة نوبل للأدب سنة 1982. أصدر بيان إدانة تاريخي لمذبحة صبرا وشتيلا.. إلى جانب مناهضته للاضطهاد والعنصرية والديكتاتورية بالعالم، كما في "خريف البطريرك"، واهتمامه بالجمال والحب كسبيل أنجع لمحاربة الظلم والاضطهاد، كما في "الحب في زمن الكوليرا". فضلاً عن مناصرته لاستقلال الجزائر إبان إقامته بباريس، حيث تعرف على المناضلين الجزائريين بسبب سحنته التي تشبههم، والتي كانت سبباً في اعتقالاته المتكررة اعتقاداً من الشرطة الفرنسية أنه جزائري. دون أن ننسى بيان 2002، الذي أدان فيه اقتحام القوات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية في الضفة. بيان ندد فيه كذلك بصمت المثقفين المتواطئ مع العدو الصهيوني. والغريب في الأمر أن بعض الأنظمة العربية لم تكلف نفسها عناء تكريم الرجل لانشغالها بالكراسي حصراً.

غير أن الوجه القصصي لغابريال غارسيا ماركيز بقي غائماً عند جمهرة القراء، بسبب شهرته الروائية، والهالة التي يضفيها الجمهور على النص الروائي بسبب حجمه وملحميته الموحية بالجلال. قصصياً أصدر ماركيز أربع مجامع قصصية توزعتها أربعون قصة. مجملها كتبت على خلفية تقاطع السحر بالواقع، والتاريخ بالأسطورة. وقودها السحري خيال بلا قرار.. خيال يشتت الخط السردي، ويسخر من القيم، ويعري المسكوت عنه، مع توريط القارئ في ملء بياضات القص. ويتضح إيمانه الخالص بأسلوبه السردي الخاص في رفض عروض سينمائية سخية قائلاً: "أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتابي لشخصياتي كما يحلو له. أن يرسم ملامحها مثلما يريد؛ ليحلق في مخيلته دون قيود. أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة؛ فإن الشخصيات تصبح ذات أشكال محددة، هي الممثلون، وكما يود المخرج أن يصورهم، وهي ليست تلك الشخصيات التي يتخيلها المرء أثناء القراءة".
 

في هذه المقاربة سوف نُصوّب مجهر التحليل على مجموعته الأولى "عينا كلب أزرق"  (Ojos de perro azul)، التي اشتملت على إحدى عشرة قصة بنيت في مجملها على أحداث ما فوق واقعية: كزيارة الميت لقبره، وتداخل الحلم بالواقع، وتحقق المستحيل كالأشجار الاصطناعية التي تتمر مواسي ومقصات، والجثث المحافظة على حيويتها بل والموت المتكرر، والأجساد المعدنية التي تحب بعضها وما شابه ذلك. والقاص من خلف هذا الاشتغال استثمر خلاصات التحليل النفسي، متوسلاً الحلم والحدس، متجاوزاً صرامة العقل والترتيب المنطقي للأفعال والأشياء. تجريب تأسس على رؤية مغايرة للذات والعالم.

 

1. قدرة الحلم على تجاوز الواقع

 تفتتح قصة "الضلع الآخر للموت" باستيقاظ شخص منزعج بسبب حلم/كابوس، توهم فيه شخصاً ثانياً اقتحم عليه خلوته ليلاً، والواقع غير ذلك. والحلم الأول ذكره بحلم ثان رأى فيه أشجاراً تثمر مواسي، ومقصات وأدوات حلاقة ففكر في قص شعره. وهو على متن قطار إبان حلم ثالث انتبه لورم في أصبع رجله، فانتزعه بمفك فأخذته تداعياته إلى أننا لو أحللنا "الفورمول" محل الدم؛ لتمكنا من وقف تفسخ أجسادنا، لكنه سرعان ما تذكر بأن "الفورمول" بقدر ما يمنح الجسد امتداداً في الزمن، يأخذ منه حيوية ومرونة الحياة الطبيعية... وهو في هذا المسلسل من الأحلام والكوابيس المتداخلة، التقى بأخيه الميت الذي عاد للحياة دون سابق إخبار. منتهياً إلى أنه مرة يتخيل توأمه ليس إلا آخر، ومرة يتخيل توأمه/ أخاه الميت كائناً عصياً على التفسخ؛ بينما هو الحي تفسخ تماماً.

سلسلة من المفارقات اللامتناهية تجعل من الحلم جسراً لمعرفة عالم آخر مدهش غاب عنا استحضاره. وبسبب هذا اقترن الحلم بالأعماق والسر وطفولة البشرية. جسر يمنح الحالم فسحة لتحقيق رغباته المتعذرة في الواقع، وتجلية خبايا النفس. لكن هذا المآل ليس مطلقاً ودائماً.. صحيح أن الحلم الإبداعي خيار جمالي لمراوغة عجز الواقع، لكنه أحياناً يكون مخرجاً سلبياً، ومخادعاً لطبيعة الصراع، بحيث لا يعدو كونه إشباعاً زائفاً لرغبة حقيقية، وتحويراً لصراع يلزم حسمه على أرض الواقع. عند هذا المستوى من التحليل يمكننا طرح التساؤلات التالية: لماذا عاش الحالم حالة خوف مرضي من الآخر؟ ولماذا كان في حالة خوف دائم من المرض؟ بل ولماذا كان دائم التفكير في حل لوقف تفسخ الجسد؟ ولماذا تخيل الأخ الميت عصياً على التفسخ، بينما هو ككائن حي سريع العطب؟ هل هو بكل بساطة الخوف من جرح الموت الذي أرق الحضارة البشرية كاملة وليس الحالم فقط؟ لكن مع هذا فإن إحدى حسنات الموت أنه ألهم القاص في ترك أثر كتابي، بل وألهم البشرية في تأسيس الحضارة. والسرد في هذه الحالة لعبة لنسيان ذاك الألم القادم من المستقبل والمترسب في أعماق النفس، إنه الموت. تقول كلوديت كومبير: "إن الموت بالنسبة للإنسان ليس فقط حدثاً بيولوجياً، بل إنه كذلك حدث نفسي موسوم بالخوف من المجهول؛ فأن لا نهتم حقيقة بمشكل الموت فهذا يعني تجاهلاً منا لأسباب الحياة"1.

 بالنتيجة خوف الحالم من كل شيء يحيلنا على مثل "من خاف سلم"، لكنه مثل يؤكد الخوف ويؤصله كمنهج في الحياة. والخوف بهذا الشكل خوف مرضي وغير طبيعي وعاطفة سلبية. صحيح نحن لا ننكر هذا الانفعال الوجداني من حيث المبدأ وفق حالات تشترطه، لكن أن يصير قاعدة تحتوي الفرد فهذا أفق سلبي يخدم التراجع خلافاً للخوف اليقظ. يبقى مع ذلك هناك مبرراً لجذور خوف الحالم المنتسب لدول العالم الثالث، الذي نجحت فيه الأنظمة في زرع الخوف طوال عقود من السيادة. خوف يمنع من المواجهة والتقدم؛ إذ من الخوف ولد الطغيان وبدأ الخضوع.

2. شعرية الموت أو تسريد الفناء

في قصة "الإذعان الثالث" تذكر السارد أول مرة مات فيها، ورأى جثته وانتهى إلى أنها غير محسوسة، ولا تشغل مكاناً وأنه لا وجود له. تذكر جيداً أنه أيام كان جثة بنعشه وهو جاهز للدفن.. لكنه مع ذلك كان يعلم أنه ليس ميتاً، أو لنقل "موت حي". موت حدث منذ ثمان عشرة سنة خلت. مات وهو طفل لكن أمه أمرت بصناعة تابوت رجل بالغ كي لا يعيق نموه ويشوهه. والغريب أن الشاب اليافع في تابوته نمت له لحية زرقاء غزيرة الشعر، اعتادت الأم حلقها كي تراه بهيئة وقورة. بل إن أمه من فرط اهتمامها بعبوره سن اليفاعة كانت تغير زهور مزهرية التابوت يومياً، وتضيئه وتهويه لينعم قرة عينها بموت/حياة جيدة. أمر انتهى بنا إلى أن السارد كان حياً وهو ميت.. أو لنقل حي بصورة لا يمكن التعرف عليها.

في هذه القصة يصادف القارئ كينونة فرد غير مسبوقة: إذ ما معنى أن يخاف الميت من الدفن، ويكبر طبيعياً في تابوته. قصة تحيلنا رأساً –في مستوى أول- على طقوس الدفن القديمة.. طقوس تزرع الورود فوق القبور وترشها بالماء وتتصدق بالطعام.. أفعال تترجم لا شعورياً أن أهل الميت يرفضون قبول فكرة الانفصال النهائي عنه، ويفكرون في جعله على صلة بالحياة من خلال الماء والطعام المتصدق به.. وهذه الممارسات ترجع لاعتقاد قديم جداً كان يتصور أن الأشباح الشريرة تخرج من القبر ليلاً من أجل الحصول على الماء والطعام. بالنتيجة على امتداد تاريخ الإنسان كان للقبور مهابة تقديساً للموت. بل هناك اعتقاد في الأوساط الشعبية أن من عبث بها يصاب بالمس، إلا إذا قدم أضحية إلى أقرب ولي صالح وفرقها على الفقراء. مع الديانات التوحيدية امتلك مفهوم البعث قيمة نفسية وعلاجية لجرح الموت، علماً أنه بعث من أجل الحساب على أفعال الحياة الأولى.

المثير للانتباه في قصة "الإذعان الثالث" هو أن الميت اتصف بخاصيات الحي: ينمو ويتطور ويكبر، بل وهو مفارق للحياة يخاف الجرذان والظلام.. وهنا تكمن سحرية ماركيز الذي يتأمل الموت من الضفة الأخرى للحياة، وبذلك يجعله أقل صدمة وإيلاماً؛ لأننا في عالم الأدب نرسم شخصية لا تخشى الموت، وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت ولكنها تختاره لغيرها.. وبتأمل الموت المتخيل نقلل من صدمة رؤية جثة الميت التي تجسد اللحظات القصوى لاكتمال القسوة. فإذا كانت الإقامة البيولوجية في الموت مستحيلة لأن العقل يرتفع والجسد يتحلل؛ فإن الكتابة تمنحنا حظوة مصاحبة الموت باعتباره الدرجة الصفر في التلذذ.

إن بطل قصة "الإذعان الثالث" وهو يتذكر موته منذ ما يزيد عن ثمانية عشر عاماً خلت.. يخبرنا بعيشه بهدوء وطمأنينة وهو حي/ميت، والقاص من خلف هذا يجعل حدين وجوديين لا يلتقيان إلا في الكتابة (الموت والحياة). وهذه إحدى مظاهر الواقعية السحرية التي تجمع المتضاد وتقرب المتباعد.. فجمع القاص بين الموت والحياة يؤسس لدهشة تتأسس على تكرار فعل الموت الذي لا يقع في الحياة إلا مرة واحدة.. ولأنه حدث فريد فهو مزلزل للأفراد والجماعات.. خلافاً للكاتب الذي توفق في تليين صلابة هذا المرض الميتافيزيقي الذي يقترح نفسه بدون علاج. تأتي الكتابة لتقترح نفسها كأثر خالد رداً على الموت الذي يقترح نفسه كمحو ونفي.

على مستوى ثان بدت لنا عاطفة الأم في غاية الفرادة، بسبب رفضها مفارقة ابنها الذكر رغم موته.. فهو يحقق لها امتداداها بعد موتها الافتراضي، ويعوضها في الرجل الذي تحلم أن تكونه كل امرأة؛ لكنها لا تحقق هذه الأمنية إلا بواسطة الولادة. بمعنى من المعاني تشدد هذه الأم على أننا لا نموت دفعة واحدة، بقدر ما نموت بالتقسيط بسبب موت حبيب أو ابن أو صديق أو فكرة.. الموت وفق هذه القصة يزورنا كل يوم، وبالتالي نحن نموت بالتدريج إلا إذا اعتبرنا الموت هو ذاك الرقاد الأبدي الطويل الأمد؛ فكل فرد يموت ويحيى مع بداية كل يوم.. بتعلق الأم بابنها الميت/الحي تنتصر للحياة وتشجب الموت.

3. سطوة الزمن ودورة الحياة

في قصة "حواء في هرتها" نصادف امرأة مدمرة من زوال جمالها، بفعل مرور الزمن وحشرات جاءتها من الماضي البعيد محمولة في "جينات" دم الأسلاف؛ لتقضي على نضارتها. حالة نفسية جعلتها تتمنى نفسها دميمة، وهي حالة كانت ستجنبها الإحساس بفجيعة الفقدان وزوال البهاء.. حدث أوصلها لأعلى درجات الاكتئاب حيث أضحت تتمنى الموت، وما كان يقلل من روعها هو أن فكرة دورة الحياة الطبيعية تقتضي ذلك وتحكم الجميع.. خلاصة سرعان ما تخلت عنها لتنتهي إلى أن جمال الروح أبقى من جمال الجسد.. قناعة حملتها على تخيل نفسها كائناً روحياً متصورة أن شخصاً ما دفعها نحو الفراغ لتصير ذاتاً مجردة وغير محسوسة، وتقضي ما تبقى لها من العمر في عالم الأرواح.

في هذه القصة حضر الجمال في مستوى أول كمظهر خارجي، ثم كجوهر روحي. وحضور الجمال عموماً شكل مصدر ثقة صاحبه في الاختيار وممارسة الحياة. بل إن البطلة ترى أن إشاعة الجمال من حول العليل شفاء، دون أن يعني هذا أن الأصحاء ليسوا في حاجة للجمال. الجمال في هذه القصة مكلف جداً لصاحبته؛ لأن الناس كانوا لحظة اتصافها بالبهاء يعدونها لوحة، أو عارضة أزياء وليست إنسانة.. وفي ذات الآن كانت هي تعتبر الجميل قريباً من الآخر بجماله. بمعنى أن الجمال له تأثير قوي على التواصل بين الغرباء لأول مرة. لكنها بعد حين انتهت إلى أن جمال الروح أبقى من جمال الجسد؛ لأن الزمن عدو لدود لذبوله. صحيح سطوة الزمن قاهرة بسبب كون الإنسان هو الكائن الوحيد الموجود بالزمن.. فالحيوان مثلاً لا يحيا إلا الحاضر المباشر، والماضي عنده لا معنى له تماماً كالمستقبل. غير أن الإنسان بقدر ما يهفو لمعرفة المستقبل ينسى أنه يشتمل على حذفه؛ لأنه يخبئ الموت الذي يجعل كل تاريخ الفرد ماضياً بحتاً.

إن حافز تحول البطلة من عالم الواقع لعالم الأرواح هو تصحيح الحاضر، واتقاء شر المستقبل المجهول. وأننا جميعاً كبشر محكومين بالماضي الخاص الذي صنعنا دون أن يعني هذا أننا عبيد له. "إن قوة الماضي رهن بما نخلع عليه -نحن- من قيمة، وما نضفي عليه من معنى. هذا إلى أن السبيل الحقيقي للتحرر من الماضي لا يكون بتجاهلنا له، بل يكون بمعرفتنا له"3.

نخلص إلى أن فعل التحول إلى روح جعل البطلة تلغي ماضيها وحاضرها، وتستأنف حياة جديدة كل الجدة خلافاً للبشر الذين لا مجال لهم لإلغاء تاريخ الأفراد أو الجماعات. والبطلة بفعلها هذا تعيد لأذهاننا قولة أوسكار ويلد "إن ذلك الذي يتجه نحو ماضيه، لا يستحق أن يكون له مستقبل". وكأني بلاوعي البطلة، وهي تنتهي لهذه الخلاصة تقول لنا: لا داعي للبحث في الماضي عن لحظة مشرقة، ولا خير في نقص الحاضر حسب الإنسان أن يبني مجده من المستقبل باعتباره عالم إمكان. طرح يدعو للكف عن عبادة الماضي واستنساخه وهو واضح في مستهل القصة، حيث تمردت البطلة على "جينات" الأسلاف، التي كانت سبباً في فقدانها جمالها.. مآل جعلها تعي أن الماضي إن كان وقائع يستحيل استعادتها أو تعديلها؛ فإن المستقبل بمعرفة الماضي والتحقق مما هو فعال في الحاضر، يمكننا من بناء مآل مشرف يليق بالإنسان.

4. شعرية ما فوق الواقع

في قصة "المرآة" صادفنا وضعاً مدهشاً؛ بسبب كسر قاعدة تطابق الواقع بالنسخة المعكوسة على المرآة. يقول السارد [في ص: 48]: "بحث في وجهه عن الموضع المقابل، لكن أصبعه ظل نظيفاً ولم تكشف اللمسة عن وجود أي سائل. فوجئ! لم تكن ثمة جروح في جلده، ولكن هناك، في المرآة، كان الآخر ينزف نزيفاً خفيفاً". في هذه القصة تخلصت المرآة من سجن عكس الواقع كما هو، وباتت متمردة عليه طارحة السؤال عن جدوى سلطة الواقع المنتج للحقائق.. مانحة الخيال فرصة للتعبير عن مكبوته. مفصل دقيق يمنح الفرصة لما فوق الواقع الذي ينتصر لكل ما هو غريب ومتناقض. يطلق الأفكار المكبوتة لأنه يؤمن بالقدرة الهائلة للحلم والخيال، وخلق الإحساس بلا جدوى الواقع . أفق يتغيى تحرير الإنسانية من العقلانية الزائفة.

في قصة "عينا كلب أزرق" تخلص الإنسان من حالته الآدمية، فصار معدناً وتمثالاً برونزياً؛ وكأنه تحفة قادمة من زمن البدايات الأولى، لكنه مع ذلك ظل يمارس كينونته الآدمية.. في قصة "المرأة التي تصل في السادسة"، تحدث وقائع غريبة كتأملها للمارة غير المرئيين بوضوح في المدينة، وقتل رجل أحست بالقرف منه، ومن كل من ناموا معها؛ وكأني بلاوعيها يحيلنا على العنكبوت التي تقتل زوجها مباشرة بعد المضاجعة؛ لاعتقادها أنها بفعلها ذلك تستأثر باللذة دون غيرها من الإناث اللواتي يفترض فيهن مضاجعته لاحقاً. والساردة في ذلك تحيل على بقايا الحيوان في الإنسان. وفي ذات الأفق نتعرف على أفعال اعتيادية تخرج عن نطاقها المألوف حيث ينام البطل سنتين. في قصة "أحدهم كان يفسد ترتيب هذه الورود" نفاجأ بفعل فوق واقعي، يقول السارد [ص: 80]: "بما أنه يوم أحد وهطول المطر قد توقف، فقد فكرت في أن آخذ باقة ورد إلى قبري".

نخلص على هامش القرائن القصصية أعلاه أنها تندرج ضمن توصيف إنريسكي أندرسون إميرت القائل: "إن القصة السحرية تصف عالماً شديد الشبه بعالم الواقع اليومي، الذي نعيش فيه جميعاً، وفجأة نرى مشهداً يتم فيه خرق قواعد المنطق وقوانين الطبيعة كيف يمكن تفسير ما حدث؟ إننا نجد أنفسنا مترددين بين حلين: الأول: إنه نوع من الهذيان أو الرؤية غير الصحيحة، وبالتالي تظل قوانين الطبيعة سارية المفعول. الثاني: أن هذا الخرق غير المنطقي، وغير الطبيعي حدث بالفعل وفي هذه الحالة علينا أن نقر أن العالم فيه قوى غامضة"4.

بالنتيجة؛ الرهان على ما فوق الواقع ليس ترفاً فكرياً، ولا تقنية سردية عابرة؛ وإنما هي آلية ضمن آليات أخرى تتغيى تجديد النظر للذات والعالم والعلاقة بينهما، بغاية فهم الغموض الذي يكتنفها من خلال دمج الواقع بالخيال، والتاريخ بالأسطورة منتهية إلى أن العالم الذي نراه مألوفاً فيه قدر كبير من الغرابة.. إن سحرية ماركيز بالخصوص تتغذى على المفارقة والمفاجأة والوقائع الغامضة والجوانب الغيبية، مسائلة العقل والمنطق متوسلة في ذلك الحلم والحدس والخيال والأسطورة، كروافد ثقافية مهمة من شأنها إضفاء الغرابة على النص القصصي، مما يجعل القارئ يعيش في عوالم مثيرة للدهشة والاستغراب.

إن ما فوق الواقع -بمعنى من المعاني- مغامرة جمالية، تؤمن بحرية الذهن في تصوير ما تبتغي الروح والخيال تحقيقه، أو على الأقل التحريض على عيشه عن طريق المخيلة التلقائية والصدفة للتخلص من ضغط العقل والكتابة المراقبة، واضعة اللعب محل التخطيط الصارم. ولربما كان الواقع المأهول بالفقر والاستبداد والجهل بأمريكا اللاتينية، هو المحفز على هذا التمرد الجمالي، حيث وجد كتابها الخيال المتحرر أكثر ملاءمة للإبداع، ووقوداً حقيقياً لترك أثر كتابي مدهش. منتهين للواقعية السحرية باعتبارها دعوة للانطلاق والحرية في الإبداع، وتمرداً على كل ما يعيق تحقق الجديد، والهدف تحرير الطاقات الدفينة والكامنة في الأعماق.


إحالات

1. غابريال غارسيا ماركيز، عينا كلب أزرق. ضمن الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة صالح علماني. دار المدى للنشر الثقافي. 2008.
Claudette COMBERES. Le clair visage de la mort. Tridam riel .Editeur.1992.p44.2
3. د. زكريا إبراهيم. مشكلات فلسفية-7-مشكلة الحياة. دار مصر للطباعة 1971. ص: 314.
4. نقلاً عن كتاب "إنريسكي أندرسون إمبرت"، القصة القصيرة النظرية والتقنية، ترجمة علي منوفي، مراجعة صلاح فضل. المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، ط1، 2000، ص: 240.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها