شخصية "جُحا"!

بين الحكمة والسخرية

الطيب أديب

تعود أقدم قصص جحا العربي للقرن الأول الهجري السابع الميلادي، وتعود لدُجين بن ثابت الفزاري، الذي ولد في العقد السادس من القرن الهجري، وعاش نحو مائة عام، وقضى معظم حياته في مدينة الكوفة. وروى عنه أسلم مولى عمر بن الخطاب، وهشام بن عروة، وعبد الله بن المبارك، وآخرون. وقال الحافظ ابن عساكر: "إن جحا عاش أكثر من مائة سنة، وأنه تابعي، وكانت أمه خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة، وصفاء السريرة"1.

وذكره الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" فقال عنه: (قال عبّاد بن صهيب: حدّثنا أبو الغصن جُحا -وما رأيت أعقل منه- قال كاتبه: لعلّه كان يمزح أيام الشبيبة، فلمّا شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدِّثون)2.

وقال عنه ابن الجوزي في كتابه "أخبار الحمقى والمغفلين": (رُوي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أنّ الغالب عليه التغفيل، وقد قيل: إنّ بعض من كان يُعاديه وضع له حكايات، والله أعلم، عن مكي بن إبراهيم -آخر من روى من الثقات عن يزيد بن أبي عبيد، عاش نيفاً وتسعين سنة ومات سنة 215هـ- أنّه كان يقول: رأيت جحا رجلاً كيِّساً ظريفاً، وهذا الذي يُقال عنه مكذوب عليه، وكان له جيران مخنثون يُمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه)3.

ورغم أن شخصية جحا اشتهرت عند العرب كواحد من الحمقى والمغفلين الذين تروى عنهم الحكايات على سبيل الضحك والتسلية، إلا أن بعضهم روى عنها حكايات ترمز لذكائه وسخريته من الولاة والمجتمعات في مختلف العصور.



كل أمة وجحاها

لقد جذبت شخصية جحا العربي مختلف الشعوب الأخرى؛ فصمّمت لها "جحا" يناسبها بما يتـلاءم مع طبيعة كل أمة وظروفها الاجتماعية. فظهر جحا التركي (خوجة نصر الدين)، والإيراني (ملا نصر الدين)، واليوغسلافي (آرو)، والمالطي (جوهان)، والإيطالي (برتلدو)، والروسي (بلدكييف)، والألماني (تل أوبلن شبيجل)، واليوناني (ديوجين)، والهندي (الشيخ تشللي)، والبلغاري (غابروفو). وجحا الإفريقي والآسيوي. ورغم اختلاف الأسماء، إلا أن شخصية "جحا" الذكي والساخر البارع؛ وحماره لم تتغيّر.

جحا التركي

هو نصر الدّين خوجة (ولد في قرية صغيرة تدعى خورتو عام 605هـ، وتلقّى علومه فيها، ووليَ القضاء في بعض النواحي المتاخمة لها، كما ولي الخطابة في (سيوري مصار)، عُيّن مدرِّساً وإماماً في بعض المدن. كان عفيفاً زاهداً يحْرث الأرض ويحتطب بيده، كما كانت داره محطة للوافدين من الغرباء والفلاحين)4.
واشتهر جحا التركي بالوعظ، وكانت مواعظه تأتي على هيئة نوادر وطرائف ونكات. وكان جريئاً في دعوته يدعو الحُكّام والأمراء والقضاة إلى الفضيلة والعدل، ومن أشهر مواقفه وقوفه في وجه "تيمور لنك" وإنقاذ الكثير من النّاس من جبروته في مجموعة من المواقف، أمّا وفاته فكانت سنة 683هـ. وتوفي جحا التركي "نصر الدين خوجة" على أرجح الأقوال بمدينة "آق شهر" في العام 673هـ عن ستة وسبعين عاماً، وقبره معروف في تركيا حتى الآن مكتوب عليه "نصر الدين خوجة الشهير بجحا.

قبره العجيب

وكأن السيد نصر الدين خوجة قد أراد أن يجعل من قبره عجيبة من عجائب الدنيا كما كان هو في حياته؛ فإن قبره أو ضريحه يتوسط باحة مفتوحة من جميع جوانبها لا تحيط بها أية جدران؛ بينما وقف على حد من حدود الباحة باب مغلق بقفل لا يمنع أحداً من دخول أو خروج. وأصبح قبره مزاراً سياحياً للعرسان الجدد وطالبي التماس البركات والسعادة وغير ذلك. وصممت بعض الشعوب تماثيل تجسد شخصية جحا، انتشرت في المدن التركية وبخارى وبعض دول أوروبا؛ وغالبيتها تصور جحا وهو يمتطي صهوة حماره بالمقلوب. وما زالت شخصية جحا ملهمة لكثير من الشعوب تنهل من حكاياتها وتنسج على منوالها الحكايات التي تحمل إسقاطات مختلفة، ومن الحكايات المنسوبة لجحا العربي:

جحا وابنه والحمار:

اعتزم جحا السفر لمدينة مجاورة برفقة ابنه الغصن، فركبا على ظهر الحمار، وفي الطريق مرا على قريةٍ صغيرة فأخذ الناس ينظرون إليهما بنظراتٍ غريبة ويقولون: "انظروا إلى الرجل القاسي وابنه، يركبان معاً على ظهر الحمار، ولا يرأفان به، وعندما أوشكا على الوصول إلى القرية الثانية نزل الابن من فوق الحمار وسار على قدميه؛ لكي لا يقول عنهما أهل هذه القرية كما قيل لهما في القرية التي قبلها، فلما دخلا القرية رآهم الناس فقالوا: "انظروا إلى هذا الأب الظالم يدع ابنه يسير على قدميه وهو يرتاح فوق حماره"، وعندما أوشكا الوصول إلى القرية التي بعدها نزل جحا من الحمار وقال لابنه اركب أنت فوق الحمار، وعندما دخلا إلى القرية ورآهما الناس قالوا: "انظروا إلى هذا الابن العاق يترك أباه يمشي على الأرض وهو يرتاح فوق الحمار"، فغضب جحا وقرّر أن ينزل هو ابنه من فوق الحمار حتى لا يسخر الناس منهما. وعندما دخلا إلى المدينة ورآهما أهل المدينة قالوا: "انظروا إلى هؤلاء الحمقى يسيران على أقدامهما ويتعبان أنفسهما ويتركان الحمار خلفهما يسير لوحدة"، فلمّا وصلا باع جحا الحمار.
 


مسمار جحا:

قرر جحا بيع بيته فجاءه مشتر، ودخل بيت جحا واتفق معه على البيع والشراء وكتابة شروط العقد.. وقال له جحا: هل أعجبك البيت؟ قال الرجل: نعم.. والآن نكتب العقد. قال جحا: ولكن لا تنس أن تكتب المسمار من حق جحا البائع.
قال الرجل: أتقصد هذا المسمار على الحائط؟
قال جحا: نعم هو ذلك المسمار! سلم الرجل جحا ثمن البيت، وخرج جحا من البيت وهو ينظر في حسرة . وفي اليوم التالي طرق جحا الباب وقت الغذاء، ففتح الرجل الباب له قائلاً: تفضل يا جحا.. هذا هو مسمارك.. انظر إنه كما هو!
تقدم جحا يتفحص المسمار قائلاً: مسماري.. ما أجمله ما أغلاه!
قال الرجل : تفضل يا جحا لتأكل معنا.. جلس جحا مسروراً وهو يقول: شكراً لك يا صديقي كم أنا جائع.. وما أشهى طعامكم! وفي الليل جاء جحا فطرق الباب وفتح له الرجل، فأقبل يعاين المسمار قال الرجل: تفضل يا جحا وانزل لتأكل معنا! قال جحا: معك حق فأنا جائع! مر أسبوعان على هذا الحال وجحا يقرع الباب في نفس المواعيد ويدخل بلا استئذان ليتأكد من المسمار! وهنا قال الرجل: حتى في أوقات الراحة والنوم صرت تزعجنا يا جحا؟ لقد كرهت هذا البيت، خذ بيتك، ولا أعيش فيه بعد اليوم!

ويُحكى عنه:

- ضاع حمار جحا فأخذ يفتش عنه ويحمد الله شاكراً، فسألوه: لماذا تشكر الله، فقال: أشكره لأني لم أكن راكباً على الحمار ولو كنت راكباً عليه لضعت معه.
- شعر جحا بوجود لص في داره ليلاً، فقام إلى الخزانة واختبأ بها، وبحث اللص عن شيء يسرقه فلم يجده فرأى الخزانة فقال: لعلّ فيها شيئاً ففتحها وإذا بجحا فيها، فاختلج اللص ولكنه تشجع وقال: ماذا تفعل هنا أيها الشيخ؟ فقال جحا: لا تؤاخذني فإني عارف بأنك لا تجد ما تسرقه ولذلك اختبأت خجلاً منك.
- بينما جحا وابنه الغصن يجلسان مرت جنازة، وفي الجـنـازة امـرأة تصرخ وتـبـكي وتـقـول مخاطبة زوجها الميت: الآن يذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه ولا غطاء ولا وطاء ولا خبز ولا ماء، فقال ابنه الغصن: يا أبي إلى بيتنا واللـه يذهبون به.


المراجع: 1. عيون التواريخ، ابن شاكر الكتبي، ص: 373. / 2. سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ج8 ص: 173. / 3. أخبار الحَمْقى والمغفلين، الحافظ ابن الجوزي، ص: 19 . / 4. نوادر جُحا الكبرى، حكمت شريف الطرابلسي، ص: 17.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها