نحو علم فلك عربي؟!

ابن رشد نموذجاً

د. الخامس مفيد

شكل علم الفلك الجديد المسمى بعلم هيئة العالم، العلم الأكثر انتشاراً وحيويةً في الحضارة العربية الإسلامية، وعلم الفلك هذا بقي يدون حصرياً بالعربية إلى حدود القرن التاسع. وبفعل صدام العلم اليوناني مع الحضارة الإسلامية، أصبح بإمكاننا تقدير سياق التطورات الفلكية بشكل أفضل، حيث بدأت ردود الأفعال في علم الفلك بين التصحيحات البسيطة لما اعتبر خطأ في النص الأصلي البطلمي.
 

وسنعمل في هذا البحث، على توضيح العلاقة القائمة بين علم الفلك والدين، حيث سنبين أن تطوير علم فلك الهيئة الجديد تم في سياق المطالب الدينية التي فرضها الدين الإسلامي في بدايته، وبهذا يكون علم الفلك يجاري الدين لكن بعيداً عن التنجيم. كما سنتطرق إلى علم الفلك قبل ابن رشد، والحديث هنا عن تصورين أساسيين، تصور أرسطو وتصور بطليموس. وسنقف مع ابن رشد الذي يرى أن الحركة بسيطة لا تركيب فيها، ومساهمته في ترتيب كوكبي الزهرة وعطارد.

 لقد تشكلت ردود أفعال متباينة بخصوص علم الفلك البطلمي، حيث أدى هذا الأمر إلى التفكير في بلورة علم فلك عربي/ إسلامي، نظراً للأخطاء الواردة في علم الفلك البطلمي، وسنختار رزمة من علماء الفلك العرب، ومن بين هؤلاء العرضي الذي قدم صياغة جديدة للهيئة البطلمية، ونصر الدين الطوسي في سياق نقاشه لحركة الكواكب في العرض، والشيرازي في تبنيه لهيئة العرضي، وابن الشاطر في فكه لرموز علم الفلك اليوناني.

 

1. علم الفلك والدين: علم فلك الهيئة الجديدة نموذجاً

يبدو أن هناك علاقةً وطيدة بين الدين وعلم الفلك، حيث إنه تم تطوير علم فلك الهيئة الجديد بالتزامن مع المطالب الدينية التي فرضها الدين الإسلامي في بدايته. وبهذا المعنى يكون علم الفلك يجاري الدين بعيداً عن التنجيم، فبسبب مراعاة الجماعات الدينية المعادية لعلم التنجيم أو القوى التي كانت متحالفة معها، اضطر علم الفلك إلى إعادة صياغة أسسه؛ ليصبح علماً يهدف إلى وصف ظاهري للظواهر الطبيعية وأساليب سلوكها، وأن يبتعد عن البحث في تأثير الكرات السماوية على الأرض، كما كان يتوخى علم التنجيم.

إن معظم كتب الهيئة الجديدة، كانت تتفادى كلياً الخوض في عقائد التنجيم المعروفة، ولهذا السبب بقيت هذه النصوص مقبولة في المحيط الديني، بل والأكثر من هذا، فعلم الهيئة في حد ذاته ولد ضمن انتقادات المحيط الديني التي استبعدت أي امرئ كان يسعى إلى استرشاد النجوم كما كان يفعل المنجمون. لذلك نرى أن معظم مؤلفي كتب الهيئة كانوا علماء دين.

لقد أدت الانتقادات السابقة إلى ميلاد علمين جديدين "علم الفرائض وعلم الميقات"، كما كان لها تأثير ملحوظ أيضاً في بقية العلوم، فالقيام بأبسط الطقوس الدينية كالصلاة مثلاً، كان يتطلب استقبال القبلة باتجاه مكة المكرمة، ويحتاج هذا الأمر إلى حل إحدى أكثر مشاكل المثلثات الكروية تعقيداً في وقتها، والمعروفة بمشكلة القبلة. ولما كان استقبال القبلة يعني حرفياً إدارة المصلي باتجاه القبلة، ولما كانت الأرض كروية، فهذا يعني أنه يتعين على المصلي إيجاد تقاطع أفقه الخاص مع الدائرة الكبرى التي تمر بسمت رأسه، وسمت رأس أهل مكة المكرمة.

ويتطلب هذا الحساب استخدام مفاهيم حساب المثلثات كمثل جيب الزاوية، وجيب التمام، وظل التمام وغيرها. وهذا يعني تطوير القوانين المناسبة لحساب المثلثات الذي ينطبق على سطح الكرة. وبسبب هذا التحالف بين علم الفلك والدين، نجد أن الساحة العربية والإسلامية كان لها إنتاج وفير في هذا المجال، ونتحدث هنا عن ابن رشد، ونصير الدين الطوسي وأعمال العرضي، وقطب الدين الشيرازي، وشمس الدين الخفري وحديثه عن دور الرياضيات في النظريات الفلكية، كل هؤلاء حاولوا بصيغة أو بأخرى الرد على علم الفلك البطلمي.
 

2. الوضع الإبستمولوجي لعلم الفلك مع ابن رشد

يرى ابن رشد في الشفاء أنه يلزمنا أن نطابق بين المذكور في المجسطي، وبين العقول من العلم الطبيعي، ونعرف كيفية وقوع هذه الحركات، وأن نورد من الفوائد ما أدرك بعد المجسطي، "واعلم أن الرصيد الحديث أخرج مقادير الخطو الواصلة، ونسب أولى أفلاك التداوير مخالفة بشيء يسير لما أوجبه بطليموس. لقد أصبح البحث العلمي في هذه الفترة يندرج ضمن دينامية مفهومية شاملة تتجاوز المعارف العلمية المورثة عن الحضارات السابقة، وفي هذا السياق يقول بن الهيثم "ولبطلميوس أغلاط كثيرة في مواضيع كثيرة من كتبه، فمنها: أن كلامه في المجسطي إذا حقق فيه النظر وجد فيه أشياء كثيرة متناقضة، وذلك أنه قرر أصولاً للهيئات التي يذكرها، ثم أتى بهيئات للحركات مناقضة للأصول التي قررها.
 

3. البناء الفلكي الرشدي

اهتم ابن رشد بعلم الفلك، وكان له فيه باع طويل في شبابه، حيث كتب مجموعة من المقالات من قبيل: "ما يحتاج إليه من كتاب أقليدس في المجسطي"، ومقالة بعنوان: "في الجرم السماوية"، ومقالة "في حركة الجرم السماوي"، ومقالة "في جرم الفلك".

يرى ابن رشد أن الحركة بسيطة لا تركيب فيها، ويبدو أن هذا مبدأ أساسي يوافق طبيعة الأجرام البسيطة، فابن رشد ركز على المبادئ والكيفيات، ولا تهمه دقة الأعداد، مثل عدد الأفلاك وأزمنة مسارات حركاتها، فهو يقول في تلخيصه لكلام أرسطو: "إن الذي اتفق عليه من حركات الأجرام السماوية هي 38 حركة، خمس لكل واحد من الكواكب الثلاثة العلوية، أعني زحل والمشتري والمريخ، وخمس للقمر، وثمان لعطارد، وسبع للزهرة، وواحد للشمس وواحد للفلك المحيط بالكل، وهو الفلك المكوكب.

لقد أدلى ابن رشد بدلوه في مسألة ترتيب الزهرة وعطارد، حيث لاحظ أن بين السابقين في ترتيبها، وهو اختلاف قديم، لكن نظر ابن رشد، وهو ينتقد ابن أفلح، لا يستند إلى الرصد والحساب، مثل ما هو الأمر لدى بطلميوس وابن أفلح، بل باعتبار ابتعاد ابن أفلح عن حكم أرسطو. ولم يجعل ابن رشد هذا الاختلاف موضوعاً لنظر تفصيلي؛ لأن اقتراح ابن أفلح يجعل الزهرة وعطارد فوق الشمس لم يكن اعتباطياً، فالرصد يبين فعلاً أنهما فوق الشمس.
 

ختاماً

بعد التركيز على التحولات النوعية في الفكر الفلكي، التي ميزت الردود الإسلامية على علم الفلك اليوناني، خاصة مع هيئة بطليموس التي قام علماء الفلك الإسلاميين بتعديلها عن طريق ابتكار رياضيات جديدة.

تعد أعمال العرضي والطوسي مرحلة مهمة في تاريخ علم الفلك الإسلامي، فكلاهما تحدث عن ابتكار رياضيات جديدة، وأضاف كل منهما نظرية جديدة لهذا الغرض. وقد اتبع خطاهما عدة علماء فلك استخدموا هذه الرياضيات الغنية الجديدة، وبدأوا يفكرون في مختلف الطرق التي تمكنهم من تمثيل الظواهر الطبيعية بواسطة الرياضيات. وتنتمي إلى تلك الفئة المحاولات التسع لتمثيل حركات كوكب عطارد التي استبطنها تلميذ الطوسي وزميله قطب الدين الشيرازي، وابن الشاطر الذي قام بإعادة صياغة علم الفلك من خلال العودة إلى الأسس الكونية، التي تشكل جميع الظواهر وتمثيلاتها.

لقد انتهى الأمر بابن الشاطر إلى التشكيك في استخدام مفهوم خارج المركز، واعتباره متعارضاً مع الأسس الكونية التي يفترض به أنه يمثلها. وحين تبين له أنه لا مفر من فلك التدوير كبديل لخارج المركز، وأصر على استعمال هذه الأداة رغم أن التفسير لأرسطو طاليسي في وقته كان يعتبر فلك التدوير غريباً عن الكون الأرسطوطاليسي. فابن الشاطر لم يتذرع بالنقص الإنساني كما فعل بطليموس، بل عاد إلى الكون الأرسطوطاليسي نفسه لانتقاد تناقضاته، والإشارة إلى أن أفلاك التدوير تنسجم تماماً مع الكون الأرسطوطاليسي إذا تم فهم هذا الكون بالشكل الصحيح.


المصادر والمراجع: 1. ابن رشد، تلخيص الآثار العلوية، تحقيق: جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان 1994. ┆ 2. ابن رشد، تلخيص ما بعد الطبيعة، تحقيق، عثمان أمين، شركة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1958.┆ 3. ابن سبنا، الشفاء، الرياضيات، تحقيق، رضا إمام مدور وإمام إبراهيم أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980. ┆ 4. روبرت، موريسون، تحقيق الفصل المتعلق بالأصول، مجلة تاريخ العلوم العربية، م13، 2005. ┆ 5. الشيرازي، قطب الدين، التحفة الشاهية، باريس، مخطوط عربي رقم 2516. ┆ 6. الطوسي، نصر الدين، أوصاف الأشراف، بيروت، لبنان، 2001. ┆ 7. الطوسي، نصر الدين، تجريد الاعتقاد، القاهرة، مصر، 1996. ┆ 8. العلوي، بن الهيثم، الشكوك على بطلميوس، تحقيق، عبد الحميد صبره ونبيل الشهاني، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1971. ┆ 9. العلوي، جمال الدين، المتن الرشدي: مدخل لقراءة جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1986.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها