جماليات المُحاكاة السّاخرة

فـي رواية «مجنون الحكم» لـبنسالم حميش

محمد عبيدة

 


مضمون الرواية

تستعيد الرواية الأحداث المرتبطة بحياة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وتعيد بناء هذه الأحداث في سياق تخييلي يروم الكشف عن دواخل شخصية الحاكم ونظرته إلى الأشياء، والرواية تغوص في أعماق شخصية الحاكم وتبحث عن مكنوناته. وقد تناولت الرواية الأحداث الممتدة من بداية حكمه إلى حين مقتله، وهي فترة تمتد لتغطي ربع قرن من الزمن.

تبدأ الرواية بمدخل يعرض بعض رسائل الحاكم التي تلخص نظرته إلى الملك والخلافة والحكم، بحيث تجتمع في شخصيته كل المتناقضات، ويتشبه فيها الحاكم بالإله، وتصير السلطة في يده حقاً إلهيّاً، واستبداده قدراً على المصريين، يجب عليهم الخضوع له وعدم التفكير في التمرد عليه، بل طاعته والاستسلام له، إذ القدر لا يغالب. كما تركز الرواية على المراسيم التي أصدرها الحاكم الفاطمي لتدبير شؤون حكمه، وتصور الرواية غرائبية هذه المراسيم واستبدادها وعجائبيتها. فمن مرسوم قتل الكلاب إلى تحريم المُلوخِية ومنع صيد السمك المقشر، فقلب المواقيت ومنع العمل أو التجول نهاراً، إلى مجالس الحكم والقضاء القائمة على الإدهاش بدل الإقناع بالبراءة، وغيرها من المراسيم الغرائبية... وتستعيد الرواية أيضاً جانباً من استبداد الحاكم وطرقه العقابية، وتركز على آلة العقاب اللواطي، واتخاذ الحاكم للعبد مسعود أداة لاغتصاب التجار الغشاشين في سلعهم، وتصور الرواية جانباً من حياة مسعود وانتقامه من سخرية المصريين من سواده وعبوديته واستمتاعه بموقعه الجديد في السلطة.

وتنتقل الرواية إلى الحديث عن مجالس الحاكم في القضاء وطلبه من المدانين إدهاشه حتى يعفو عنهم أو يكون مصيره القتل، وهو ما يظهر استبداده وغياب وجود أي منطق في الحكم والفصل بين النزاعات، أو قانون محدد للعقاب. كما تصور الرواية جانباً من مجالس الحاكم التي كان يجس فيها للإلهيات، ويخطط مع دعاته لادعاء الإلهية، وتدوينهم لكلامه وإشاراته وأقواله. وفي الباب الثاني تأخذنا الرواية إلى مضارب قبيلة بني قرة، حيث أبو ركوة يخطط لثورته على الحاكم الفاطمي، ويبذل جهده لإقناع بني قرة بالثورة، وعقده للصلح بينه وبين خصومها من الكتاميين، ثم توجههه إلى مدينة برقة وانتصاره على والي الحاكم ودخوله إليها، وتصور الرواية الأحداث التي أعقبت هذه المعركة وهزيمة أبي ركوة ومقتله على يد جنود الحاكم بعد هربه إلى بلاد النوبة واستعادة الحاكم له. وفي الباب الرابع تنتقل الرواية إلى مصر، حيث ثارت ثائرة المصريين على الحاكم ليلجأوا إلى ثورة البطاقات وتناقل النكات التي تطعن في نسب الحاكم سرّاً وتنتقص من عقله وحمقه، ثم انتقام الحاكم من هذه الثورة وتحريقه لمصر وأهلها. وتختتم الرواية بتآمر ست الملك مع قادة جيش الحاكم لتدبير مقتله ونجاحهم في خطتهم، ثم قضائها على شركائها وينسدل الستار على سيرة الحاكم.


 

محاكاة الكتابة التاريخية في رواية مجنون الحكم

نظراً لكون رواية مجنون الحكم رواية تاريخية، فقد عمل السارد على استلهام نموذج الكتابة التاريخية وقام بمحاكاة هذا النموذج، وتتجلى هذه المحاكاة في عدة مستويات: محاكاة النصوص والوثائق، محاكاة لغة الكتابة التاريخية الكلاسيكية، تقسيم الرواية وفق التبويب الكلاسيكي، محاكاة الكتابة التاريخية الكلاسيكية في عنونة الأبواب:

محاكاة المراسيم وسجلات الأوامر والنواهي

قدم السارد مجموعة من المراسيم والمنشورات التي تحاكي المراسيم الحقيقية التي كان يصدرها ديوان الحاكم بأمر الله، على أن طبيعتها التخييلية تفرض نوعاً من المغايرة والتمايز بينها وبين المراسيم الحقيقية، وعليه نقول: إن القانون الذي يضبط اشتغال الرواية على الوثيقة التاريخية الحقيقية والوثيقة التخييلية المحاكية لها هو قانون: المشابهة والمغايرة، ومن بين هذه المراسيم: مرسوم التفرد بالمخاطبات والمكاتبات، فنجد في المرسوم الحقيقي الذي ذكره المقريزي في كتابه: "اتعاض الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا": "معاشر من يسمع النداء من الناس أجمعين، إن الله وله الكبرياء والعظمة، أوجب اختصاص الأئمة بما لا يشركها فيه أحد من الأمة، فمن أقدم بعد قراءة هذا المنشور على مخاطبة أو مكاتبة لغير الحضرة المقدسة، سيدنا ومولانا، فقد أحل أمير المؤمنين دمه، فليبلغ الشاهد الغائب إن شاء الله"1.

ثم يضيف السارد تتمة تخييلية للمرسوم: "وفي النص من جهة اليسار: فلكم أيها الأقوام الداخلون في عهدي وخدمتي أن تختلفوا أجناساً وأصنافاً وشيعاً، ولكن لا يجوز لكم أن تختلفوا عندي ولا في انفرادي بإعطاء العفو والأمان، وبتسكين الأفئدة والقلوب. كلكم ضدي وفي غير اتجاهي ومرادي إلى أن تظهروا آيات العكس. وهذا سعيري المتقد بالكتان والخيش والحلفاء، هذا سعيري يشتهي لحم وشحم كل من أعوزه الدعاء والتضرع لي، أو تأخر فبات دون باب توبتي وأماني"2.

تتجلى المغايرة بين المرسومين: الحقيقي والمحاكي، في عدة مستويات، فعلى مستوى اللغة، نجد لغة المرسوم وجيزة ومباشرة، استندت إلى مبدأ عصمة الإمام الشيعي في تقرير حكم التفرد بالنظر في القضايا والمخاطبات، ثم تضمن تقرير العقوبة بعبارة وجيزة. وأما المرسوم المحاكي فهو بخلاف الأول لغته فيها إسهاب، ولغته ليست تقريرية مباشرة، بل لغة شعرية يسودها ضمير المتكلم، حيث مركزية الأنا، وفي تحليل ميخائيل باختين للشعر، نجده يربطه بالأنا الشاعرة وسيادة صوتها على القصيدة3، بخلاف الرواية، لكن لما كان هذا المقطع من الرواية ساد فيه صوت الحاكم المهيمن، فقد اقترب هذا النص من الشعر، مما جعل النفس الشعري حاضراً من خلال اللغة: "هذا سعيري المتقد بالكتان والخيش/ هذا سعيري يشتهي لحم وشحم كل من أعوزه الدعاء والتضرع لي".

محاكاة لغة الكتابة التاريخية

تحاكي الرواية لغة الكتابة التاريخية انسجاماً مع موضوعها: المتخيل التاريخي. وتتميز الكتابة الكلاسيكية التاريخية بعرضها للأحداث عرضاً يركز على السنة، ثم ذكر الأحداث التي جرت فيها، وقد سارت غالبية كتب التاريخ في التراث على هذا المنهج في الكتابة، مثل المنتظم لابن الجوزي والكامل لابن الأثير الجزري، والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي.

لكن؛ وانسجاماً مع مبدأ المشابهة والمغايرة الذي تنبني عليه الرواية في علاقتها بـ"المحاكيات"، فقد تميزت لغة الرواية في محاكاتها للغة الكتابة التاريخية بمميزات خاصة، لنقارن بين هذين المقطعين:

قال المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا": "وفي هذه السنة... وفيها رسم الحاكم لجماعة من الأحداث أن يتقافزوا من وضع عال في القصر، ورسم لكل منهم بِصِلة، فحضر جماعة منهم وتقافزوا، فمات منهم نحو ثلاثين إنساناً من أجل سقوطهم خارجاً عن الماء على صخر هناك، ووضع لمن قفز ماله"4.

وفي الرواية نجد هذا النص محاكياً لهذا النمط من الكتابة: "وفي السنة الثامنة من ربع قرن الحاكم، أصدر دعاته الغلاة بتواطئه مرسوماً..."5؛ "وفي السنة التاسعة من ربع قرن الحاكم صدر بختمه مرسوم بتحريم مأكولات أهل الظاهر..."6.

نلاحظ في هذا المقطع توظيف السارد لعبارة: "ربع قرن الحاكم"، وهي عبارة توحي بأننا أمام مؤرخ غير اعتيادي، له تقويمه الخاص الذي يستند إليه في ترتيب السنوات، فهو لا يؤرخ انطلاقاً من التقويم الهجري، بل يتخذ من المدة التي أمضاها الحاكم في الخلافة الفاطمية -والبالغة ربع قرن/25 سنة- إطاراً مرجعياً للتقويم. في حين تماثل بقية العبارتين نظيرتيهما في المقطع المأخوذ من المقريزي.

لنأخذ نموذجاً تمثيلياً آخر، يقول المقريزي: "وفيها رسم الحاكم لجماعة من الأحداث أن يتقافزوا من وضع عال في القصر، ورسم لكل منهم بِصِلة، فحضر جماعة وتقافزوا، فمات منهم نحو ثلاثين إنساناً من أجل سقوطهم خارجاً عن الماء على صخر هناك، ووضع لمن قفز ماله"7.

ويقول السارد محاكياً لهذا النمط التاريخي: "وفي السنة المذكورة أعلاه، سالت دماء كثيرة بيد الحاكم أو على سيوف عبيده، لا فرق فيها بين مذنب وبريء، ولا بين كبير ورضيع أو بين حر ومملوك أو مسلم أو ذمي. وفيها منع الناس من الحج عبر البر والبحر، مخافة هروب الرعية إلى ديار الله وفراغ مصر من أهلها"8.

الملاحظة الأولى التي نسجلها في مقارنتنا بين المقطعين المُحاكَى والمُحاكِي، هو أن النصين يشتركان في تحديد السنة: "وفي السنة/ وفيها..."، ويوظفان اصطلاحات من نفس المرحلة التاريخية:" دماء كثيرة/ الناس/ ذمي ومسلم/البر والبحر/ الرعية/ ديار الله...".

وثاني الملاحظات هي أن النص التاريخي الأول يسرد حدثاً واقياً معيناً مؤطراً بالزمان والمكان، أي واقعة محسوسة ومشاهدة، وأما المقطع الثاني فهو يتحدث بعمومية شديدة، عن كثرة القتل في عهد الحاكم، لا يذكر من قتل ومتى وعدد القتلى، وهو ما يجعل المقطع يبتعد عن الحدث التاريخي وعن الكتابة التاريخية الحقيقية، وإذن فالفرق الأول هو الفرق بين التحديد التاريخي واللاتحديد التخييلي.

وأما ثالث الملاحظات فهو سمة السخرية في النص المحاكي، وخاصة في الخبر المتعلق بمنع الناس من الحج، بحيث يعلل السارد سبب المنع بالخوف من فراغ مصر من سكانها وهربهم إلى البلدان الأخرى، وهي سخرية هدفها إظهار غرابة تفكير الحاكم في إقدامه على منع الحج، وثانياً إظهار شدة بطشه إلى درجة قد تدفع الناس إلى استغلال الحج للهرب من مصر.

تقسيم الرواية وفق الترتيب الكلاسيكي للفصول

قسمت الرواية وفق الترتيب الكلاسيكي للفصول، حيث قسمت إلى ثلاثة أبواب، وتضن كل باب مجموعة من الفصول، وعنونت هذه الأبواب بعناوين محاكية للنمط الكلاسيكي: "من طلعات الحاكم في الترغيب والترهيب"/ "المجالس الحاكمية"/ من "آيات النقض والغيث". وهذه الطريقة في التبويب هي الغالبة على التأليف الكلاسيكي، حيث ترتب الكتب على أبواب، سواء في الفقه أو النحو أو البلاغة أو غيرها من الفنون.

إن استثمار الرواية للشكل الكلاسيكي في التأليف يهدف إلى وضع المتلقي في سياق المرحلة التاريخية المستعادة، وجعله في عمق هذه المرحلة على مستوى البناء والشكل، وعلى مستوى اللغة، وعلى مستوى الحدث. وبهذا حاولت الرواية إعادة بناء وتشكيلة صورة الماضي.
 

المحاكاة الساخرة في رواية مجنون الحكم

الضحك والسرد

كثيراً ما ارتبط السرد بالضحك، في حين ارتبطت المؤسسات ذات السلطة بالجد والاحترام والوقار. ليظل السرد هامشياً يتسلل في الأشكال الإبداعية الشعبية، فيما كان للشعر قداسته وجديته واحتفال المؤسسة به. وتعد محاولة ميخائيل باختين من أقوى المحاولات النقدية التي عملت على تحديد السمة الكرنفالية في الأدب، حيث تتبع تطور السمة الكرنفالية في الأشكال النثرية والحوارية القديمة التي تعد أصول النثر الروائي. ويأتي اهتمام باختين بالكرنفالية والضحك من اهتمامه بالأشكال الثقافية وأدوارها الاجتماعية.

يقول باختين: "إن الكرنفال موقف من العالم شعبي عام وعظيم تكون عبر عشرات القرون. إن هذا الموقف من العالم، الذي يحرر من الخوف، والذي يقرب إلى أقصى حد العالم من الإنسان والإنسان من العالم، هذا الموقف يتعارض بما عرف به من سعادة تصاحب حالات التناوب والتعاقب ومن صلات مرحة. يتعارض فقط مع الجدية الرسمية الأحادية الجانب والقاتمة التي هي وليدة الخوف، والتعصبية والمعادية لكل تغيير وتجديد والساعية لأن تجعل من الحالة القائمة للحياة اليومية والنظام الاجتماعي حالة مطلقة وأبدية. إن الموقف الكرنفالي يساعد على التحرر بالضبط من هذه الجدية"9.

يحدد باختين في هذا النص سمات الكرنفالية واقترانها بالأدب والتي تتجلى في أنه موقف شعبي، بمعنى أن الكرنفالية سمة مرتبطة بالطبقات الشعبية، لا بالسلطة والمؤسسة السياسية الرسمية، وقد شكلت الكرنفالية فضاءً خِصباً للطبقات الشعبية لتوجيه نقدها وسخريتها من سطوة المؤسسات واستبدادها، وبالتالي فهي مكون أساسي من مكونات المتخيل الثقافي. كما أنها تشكلت عبر قرون من خلال الأشكال التعبيرية المتناقلة بين الأجيال.

كما أنه يتعارض مع الجدية الرسمية؛ إذ ترتبط المؤسسة السياسية الرسمية دائماً بالجدية، مما يضفي عليها نوعاً من الاحترام والوقار والقداسة، مما يزيد من هيبتها عند الطبقات الشعبية، لذلك تتسم الأشكال الفنية المدعومة من المؤسسات الرسمية بالجدية، فيما يتم إقصاء وتجاهل الأنواع الدنيا ذات السمة الهزلية والكرنفالية.

لعل خطورة الكرنفالية على جدية السلطة هي التي جعلت السرد في الثقافة العربية يظل هامشياً بعيداً عن الدراسة والتناول النقدي، فقد ظل النقد الأدبي متمركزاً حول الشعر، ثم حول النثر الفني كالرسائل والخُطب، وهي أغراض جدية بالطبع، وتبتعد -ولا شك- عن الضحك والكرنفال، وذلك لاقترانها بالسلطة، فالرسالة الديوانية من أهم الأدوات في إدارة شؤون الحكم، كما أن الشعر-وخاصة القصائد المدحية- كان من أقوى الوسائل الفنية المعززة لصورة الحاكم في المتخيل الثقافي الشعبي آنذاك، لترسيخه لصورة الحاكم الكامل الجامع للفضائل والمحاسن الخلقية. أما السرد ذو الطبيعة الكرنفالية فقد ظل هامشياً، وهكذا لم تدرس حكايات كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والنوادر والأخبار، وحتى المقامات درست من حيث لغتها الفصيحة، فيما بقيت مضامينها الساخرة/الهزلية والناقدة للمظاهر الاجتماعية بعيدة عن التناول والدرس.

الضحك والكرنفالية في رواية مجنون الحكم

تعرض الرواية عالمها الروائي في جو من الضحك والسخرية، وهي بهذا تضع هذا العالم الممثل روائياً قيد المساءلة وإعادة النظر في ثوابته ومسلماته. فتناول الرواية لأحكام ومراسيم الحاكم بأمر الله الفاطمي كان تناولا مضحكاً وساخراً. فنقرأ في الرواية مثلاً: "أكره البذخ في كل شيء: ليس في متاع الدنيا وحسب؛ وإنما أيضاً في اللغة ومفردات اللسان، ولذا فمن أراد أن يرى أني قتلت الشيخ جبارة اللغوي لأنه كان يعرف للكلب ثلاثمائة اسم في لغة العرب، فله ذلك زيادة في فضاء التأويل"10.

في هذا المقطع على لسان الحاكم تسخر الرواية من قتله للعالم اللغوي ابن جبارة لكونه يحفظ في اللغة للكلب ثلاثمائة اسم. حيث يرجع هذا الملفوظ سبب القتل إلى الإفراط والإسراف في حفظ أسماء الكلب دونما حاجة، لكن المفارقة هنا هي أنه كان من الأولى على الحاكم تجنب القتل لأدنى سبب لأنه يخالف مبدأ الإفراط في كل شيء حينما يفرط في القتل. وهو ما لم ينتبه له الحاكم، أو لم يبال به، فهو يرى في التناقض فضيلة له. وبهذا تسائل الرواية فكرة رهن السلطة بيد الأفراد، وتصبح الأرواح رهينة حالة ذهنية مختلة لحاكم غير عابئ بأي شيء، "وفي السنة المذكورة أعلاه، سالت دماء كثيرة بيد الحاكم أو على سيوف عبيده، لا فرق بين مذنب وبريء، ولا بين كبير ووضيع أو حر ومملوك أو مسلم وذمي"11.

ونجد أيضاً في الرواية: "وفيها منع الناس من الحج عبر البر والبحر، مخافة هروب الرعية إلى ديار الله وفراغ مصر من سكانها". يمنع الحاكم الناس من الحج، لا لشيء إلا لخوفه من هروب الناس من مصر وفراغ مصر من سكانها، ولا شك أن هذا التعليل يثير الاستغراب والضحك، وهو أقرب إلى الفكاهة السوداء.

"وفيها امتثل الصيادون أمام الحاكم وأدوا القسم على هجر صيد السمك الذي لا قشر فيه. وعلموا أن من حنث منهم وخالف شق بطنه وأتلف ما فيه. وفيها كبست الحمامات، وألقي القبض على المستحمين من دون مئزر، وطيف بهم عراة في الأزقة والأسواق"12.

تمتاز عقوبات الحاكم وأحكامه بمقدار غير قليل من الغرابة والضحك، لا يملك المتلقي إلا أن يضحك من مشهد اصطفاف الصيادين أمام الحاكم الفاطمي باحترام ووقار بالغ، وهم يؤدون القسم، على ماذا؟ على عدم صيد السمك المقشر، وإلا شقت بطونهم وأتلف ما فيها.

ومن المراسيم الأشد غرابة عند الحاكم: "... تجنباً لما يأتي به الظلام من هواجس وأحلام مزعجة، ورفعاً لكل غطاء عن كل متربص بالسلطة، متآمر عليها وعلي: أعلن، أنا الحاكم بأمر الله، قلب المواقيت والمواعيد، وأشرع لكم العمل ليلاً والنوم نهاراً، وأمنع عليكم التجول في المدينة بعد طلوع الشمس، أو التجمع خارج البيوت وتلويث خلاء الطرقات، فإياي ونقض أوقاتي، فإني لا أوتى بمُخالِف إلا سفكت دمه. وحتى إشعار آخر، لا مرد لمرسومي ولا تخفيف فيه"13.

يمنع الحاكم الفاطمي على شعبه التجول أو العمل نهاراً، ويفرض عليهم العمل ليلاً، والسبب: تجنب وساوس الليل، والقضاء على المتربصين بالسلطة ومكائد الليل. دون أن يعبأ بالطبيعة البشرية، ولا بالعادة الإنسانية المشتركة بين جميع الشعوب في جميع الحضارات والعصور.
 

خلاصات

من خلال ما سبق رصده من تجليات الضحك والسخرية في الرواية، يتضح أن السخرية تنبع من عنصرين:

طبيعة الحدث المحكي في نفسه

تنبني الرواية على أحداث واقعية وتاريخية حقيقية، وتحيل في كثير من مقاطعها إلى المصادر التاريخية، وقد أجمع المؤرخون على أن سيرة الحاكم من أعجب السير وأغربها، وهذا هو المصدر الأول من مصادر الضحك، بحيث يستبعد المتلقي وقوع مثل هذه الأحداث، هذا إذا علمنا بأن المتلقي في نفس عصر الحاكم (المؤرخون الذين أجمعوا على غرابة الحاكم وعجائبية أفعاله) يستغرب هذه السير ويتعجب منها؛ فإنّ تعَجُّبنا منها في واقعنا المعاصر أشد وأكبر، نظراً للتحول الكبير في القيم، وطبيعة نظرتنا للسلطة والحكم والعلاقة بمؤسسات السلطة.

الاشتغال الساخر للسرد

ينضاف إلى العنصر الأول عنصر ثان، هو المحاكاة الساخرة لهذه الأحداث أثناء السرد، وخاصة في الملفوظات السردية التي تأتي على لسان الحاكم، أو ملفوظات/ صوت السارد، فبالنسبة للملفوظات على لسان الحاكم: نجد كثيراً من التعليلات لأحكامه الغريبة بشكل يبتعد عن المنطق وطبائع الأشياء، بحيث تستهدف هذه الملفوظات إظهار الغرابة والعجائبية في أفعال الحاكم. وبالنسبة للملفوظات التي تمثل صوت السارد فكانت تظهر بشكل واضح وصريخ، وخاصة في آخر صفحات الرواية، في الأحداث المرتبطة بتآمر أخت الحاكم ست الملك على الحاكم، ثم تدبيرها لقتل معاونيها في مؤامرتها: جاء على لسان السارد "لم تنبس ست الملك بكلمة؛ وإنما أومأت بإشارات الموافقة والقبول، ثم هرولت نحو غرفتها، تتبعها كلمات وفاء نسيم وطاعته. وعلى فراشها انطرحت، وبكت بكاء حاراً، وتألمت لِما هي مضطرة إلى فعله في باب التصفيات الجسدية، رغماً عنها، والله رغماً عنها"14. من المستغرب جدّاً أن يتدخل السارد ويُقسِم تدعيماً لموقف شخصية من الشخصيات، وهذا القسم لا شك ينضح سخرية، إذ إنه يستهدف مساءلة فكرة البطل المنقذ الذي يعرض نفسه في صورة المخلص للشعب من طاغية ما، ليلعب نفس الدور، ونصبح أمام ثبات الدور وتغير الممثلين فقط.


الهوامش والإحالات: 1. بنسالم حميش: مجنون الحكم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1998 ص: 31. / 2. مجنون الحكم، ص: 32. / 3. ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 1987، ص: 58. / 4. مجنون الحكم. ص: 36. / 5. مجنون الحكم. ص: 34. / 6. مجنون الحكم. ص: 35. / 7. مجنون الحكم. ص: 36. / 8. مجنون الحكم. ص: 32. / 9. ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء-بغداد، ط1، 1986. ص: 235. / 10. مجنون الحكم، ص: 22. / 11. مجنون الحكم. ص: 32. / 12. مجنون الحكم. ص: 33. / 13. مجنون الحكم. ص: 34. / 14. مجنون الحكم. ص: 255.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها