رائحةُ الموت..

جمال بربري

الصراخ يصدح من بيت جاري، صراخ ملتاع مزَّق أستار الصمت الذي أنعم به مع سجائري الرخيصة.. تخرج الزوجة، تشق طوقها، تلطم صدرها، تُهيل التُّرابُ على رأسها. هرولت ناحيتها في ذعر، كان الوُجومُ يكسو كل الوجوه.

فوق سرير قديم متهالك صُنِعَ من جريد النخيل، داخل غرفة بائسة، معتمة، منخفضة السقف، عارية الجدران، متساقطة الملاط، رَقدتْ جثة في سكون، لبرهةٍ خلتها جثتي، وأنّ القادمين للتعزية؛ أتوا لأجلي أنا.

كنت مستلقيًا في وداعة، أرقب الجمع في صمت.

ذاك مسنٌ يقول: الله يرحمه، رغم أنه...

أخي الصغير ذو الاثنيْ عشر ربيعاً... رأيته متعبًا منهكًا من صبِّ الشاي والقهوة للمعزين، دمعتان ساخنتان سقطتا رغمًا عنه من عينيه في فنجان القهوة السوداء لحظة تقديمها لرجل مسن، لاحظ الرجل ذلك السقوط المدوِّي الحزين فامتنع عن قبول الفنجان.

اقترب أحدهم، ثمّ نزع ملبسي عني، كشف ستري وأزال الغلالة التي تفصلني عن دنيا البَشَرِ، أغمضت عيني، ففاجأني بقُبلة على جبيني لم أشعر بها، انكفأ بعدها عائدًا، كان أبي جالسًا بالقرب مني يبكي.. كتلة من المشاعر الحقيقية الصامتة، مزيجٌ مرهفٌ من الألم الصادق والحزن العميق الوقور، هكذا رأيت أبي.

ذاك الصمت تقطّع، تكسَّر، تحطَّم، وأصبح قطعًا حادة من الزجاج مدببة الحواف، ثم تحوَّل إلى جلبة، تخيلت أنّني في سوق الخميس، أو أنّني نملة بائسة وحيدة تدب وسط صحراء قاحلة لا نهاية لها ولا بداية، لا أميِّز بين أحاديثهم المختلطة النبرات، لم يتوقفوا لحظة عن طرح قضاياهم التافهة، ووجوههم التي كانت ملتاعة مفجوعة بهول المصيبة، لا تغشاها الآن أية مسْحَة حزن أو ألم، يكملون حديثهم عن الموت والحياة بشكلٍ رتيبٍ، مكرر، خالٍ من المشاعر مثل: قزقزة اللب والفول السوداني أمام التليفزيون، دون اعتبار لقداسة الموت وحَضْرَتِهِ.

في الداخل علا نحيب النساء، فعاد للوجوه صمتها الشفاف، وعلى الجدار المتساقط الملاط ثَمَّ سطر من النمل يسير في خط مستقيم بهمة ونشاط، دون اكتراث بما يحدث داخل هذه الغرفة العجوز البائسة.

حزن النساء زاعقٌ، فاقعُ اللون، يُعبِّر عن ذاته تعبيرًا مدويًا؛ صراخ وعويل ولطم خدود، وشق ثياب، خلاف حزن الرجال، الوقور، الصامت، الهادئ الساكن، لكن في الحقيقة عميق ممتد الجذور، لا يظهر منه سوى الجزء اليسير كجبل الجليد.

كنتُ الليلة بعينين ثاقبتين تريان دواخل من حولي، لقد تحوَّل كل المعزين أمام عيني فأصبحوا كُتبًا مفتوحةً، أو أجسامًا بلوريةً شفافةً، أراهم بوضوح كاشف، أنظر من خلالهم؛ إنهم لم يجيئوا إلا لممارسة عادة، وملء بطن، لا يعنيهم الميت ولا الموت.

حتى النسوة خالط بكاءهن ضحكٌ، تبخَّرت الدموع، بَهُتَت، شحُبت، وشيئًا فشيئًا لم يعد أحد يبكي سوى أمي وأختي، كانتا مثل دمعتين كبيرتين بحجم الكون.. تلاشى حزن من حولي إلا حزن أبي.. كان جرحه غائرًا وشعوره بالفَقْدِ عظيمًا.. لدى أبي الآن تركة وافرة من الحزن والألم السرمدي.

فجأة صحوتُ من تخيلي، ما زلت جالسًا في مكاني، استنشق رائحة جسد الميت.

فكرتُ في الانصراف، قُمتُ قبل أن تختمر الفكرة، قدمتُ التعازي لأهل الميت، وأنا أنظر إلى الجسد الملقى على السرير، في عجلةٍ هرعتُ إلى الخارج، ترامى إلى سمعي عويل النساء، أسرعتُ في المشي كمن تطارده الشياطين، أخذتُ نَفَسًا عميقًا، لعلي أثبت لنفسي أني ما زلت على قيد الحياة.

أكملتُ طريقي إلى المنـزل، كانت القرية تغطّ في نوم عميق غير عابئة بالموت، كأنـها اعتادت أن تستنشق رائحته.. البيوت الفقيرة متراصة بجوار بعضها، يتعكز الواحد منها على آخر أكثر منه أيولا للسقوط، يتسرب من بين فتحات الأبواب الخشبية المتهالكة والنوافذ الطينية الضيقة ضوء شاحب برائحة الموت.

على مقعد متهالك جلست أواجهُ الباب، لففت آخر سيجارة تبغ تبقَّت معي، ورحت أنفث دخانها ببطء في الفضاء.. تَشَكَّل الدخان في حلقات، صارت تتسع شيئًا فشيئًا، راسمة وحوشًا أسطوريةً عملاقةً تتمدد وتبتلع الأشياء من حولي، شعرت باختناق وضيق مباغتين في صدري، وأحسست أن المقعد الذي أجلس عليه تنبعث منه رائــــحة أعـادتني لجلستي في العزاء، قمت مذعورًا.

دخلت البيت أطفأتُ المصباح، فعَمَّ المكان ظلام دامس، تهاويت على الفِراش، ككتلة صلصال معجونة بالبؤس والخِواء، لتعود إلى مخيلتي صورة الـجـسد المسجى على السرير في استسلام تام.. وجدتني أشبهه بكفن تام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها