من رواد مدرسة الأصالة في الفلسفة الإسلامية

علي سامي النشار.. والتجديد الفلسفي

محمد سيد بركة


علي سامي النشار مفكر إسلامي، ورائد من رواد الفلسفة الإسلامية المعاصرة، برع في علم الكلام، والفلسفة، والمنطق، حتى لقّبه البعض بكبير الأشاعرة في العصر الحديث. وهو من الرعيل الأول الذي درس على أيدي كبار أساتذة الفلسفة والمستشرقين، فقد تتلمذ في كلية الآداب على: الفرنسي أندريه لالاند رئيس كرسي الفلسفة بجامعة فؤاد الأول، والفيلسوف الفرنسي من أصلٍ روسي ألكسندر كورايه أستاذ الفلسفة الحديثة بجامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حالياً. كما أوفدته الجامعة في بعثة علمية إلى جامعة كمبردج عام 1948م، حيث حصل عام 1951م على درجة الدكتوراه في الفلسفة، تحت إشراف المستشرق البريطاني أربري، وكان موضوع رسالته: أبو الحسن الششتري.. المتصوف الأندلسي، وقد حقق ديوان شعره ونشره.


كما تتلمذ على يد الشيخ مصطفي عبد الرازق، والذي توطدت صلته به.. كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق في تصديره لكتاب صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام: علي سامي النشار تلميذي وصديقي وأقرب الناس إلي..

وقيل إن النشار وجمال عبد الناصر أخوان من الرضاعة، وكانا صديقين حميمين، فتكلم شقيقه حسن سامي النشار في حوار أجراه معه الكاتب الصحافي يوسف الشريف، وضمنه في كتابه ما جرى في بر مصر عن علاقة الصداقة والأخوة التي جمعت عبد الناصر بعائلة النشار، ووالدته السيدة وهيبة النشار التي أرضعت عبدالناصر مع أولادها، حينما كانت والدته تغيب خارج المنزل لقضاء حوائج البيت.

ينتمي علي سامي النشار لمدرسة الشيخ مصطفى عبد الرازق، المؤسسة لتيار الأصالة، والداعية لدراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الرئيسة، والمزاوجة بين الأصالة والمعاصرة... حيث كان يتبنى الدعوة إلى تأسيس المدرسة الإسلامية الحديثة في مقابل المدرسة الأوروبية، لدراسة الفلسفة الإسلامية لإبراز جوانب الأصالة فيها، الممثّلة في علم الكلام والتصوف، وعلم أصول الفقه.

ولد علي سامي النشار في 19 يناير عام 1917م بمدينة القاهرة، ثم انتقلت الأسرة إلى موطنها بدمياط. وحصل على الشهادة الابتدائية بمدرسة دمياط الابتدائية، كما حصل على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) من مدرسة القبة الثانوية في يونية 1935م.

وفي عام 1935م التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، والتي كانت تسمى حينذاك بالجامعة المصرية. اشترك في مظاهرات الطلبة ضد الإنجليز عام 1936م، وتعاون في نقل زميله الشهيد عبد الحكيم الجراحي إلى مستشفى قصر العيني، كما ذكر ذلك زعيم حزب العمل إبراهيم شكري في تصريح له بجريدة الأخبار عام 1976م، وقد كان وزيراً للزراعة آنذاك.

تخرج النشار في كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1939م، وكان أول دفعته. حصل على درجة الماجستير عام 1942م تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان موضوع رسالتـه: مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي، وقد نبه هذا الكتاب الباحثين -مستشرقين وعرباً- إلى وجود منظور إسلامي مستقل عن منطق أرسطو، وذلك في علم أصول الفقه. وبالرغم مما كتب في هذا الموضوع من بعده واستفادة الباحثين العرب من رسالته؛ فإن الكتاب -بعد أكثر من سبعين عاماً- لم يستنفد أغراضه.

عـين مدرساً مساعداً بكلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1943م. وقد توزعت جهوده في الدرس الفلسفي في القرن العشرين بين جهات ثلاث: التّأليف، والترجمة، والتحقيق. ومع هذا لم يكن من المفتونين بالمنجز الغربي وعقلانيّته ودراساته وأحكامه؛ ولهذا تعامل بعلمية وموضوعية مع الخطاب الاستشراقي، فقد قَبل، وأقر، ورفض، وهاجم مواقف بعض المستشرقين وأفكارهم. وقد أضاء البحث من حيث المضمون على هذا الدور العلمي الذي أسس له النشار، وبيان موقفه من المستشرقين الذي اتسم بالجرأة والموضوعية والنقد، فتراه يوافق على بعض أفكارهم، ويرفض أخرى، ويفند ثالثة، ذلك كلّه في مواجهة المستشرقين ونقدهم في العديد من المجالات.. في علم الكلام، والتصوف، والفلسفة الإسلاميّة، والمنطق.

عـين بعد عودته من البعثة مديراً لمعهد الدراسات الإسلامية في مدريد عام 1952م حيث عمل على إحياء التراث الأندلسي وأصدر مجلة للمعهد. كما عـيـن مستشاراً ثقافياً لمجلس قيادة الثورة عام 1953م. عاد إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية عام 1954م، حيث عكف على التدريس والتأليف.

يقول الدكتور محمد عاطف غيث: لم يكن النشار بعيداً عن ثورة يوليو 1952م، ولعل فكره وصداقته مع جمال عبد الناصر كانت رافداً مهماً من الروافد التي شكلت نظرة عبد الناصر، وموقعه من الحركة الوطنية، ومستقبل مصر.

صدرت أول مؤلفاته عام 1935 وهو طالب بالثانوية، تحت عنوان الألحان الصامتة وهو مجموعة قصصية، وقد نفدت خلال عام، وكان قد طبع منها 1000 نسخة.

وأصدر أهم كتبه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الذي حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1962م، وقد صدرت منه طبعات عديدة، وهو مكون من ثلاثة أجزاء، أصدره متفرقاً، الجزء الأول: في الفرق الأولى والمعتزلة، الجزء الثاني: نشأة التشيع وتطوره، الجزء الثالث: الزهد والتصوف في القرنين الأول والثاني الهجريين. وقد أعادت دار السلام بالقاهرة طبع الأجزاء الثلاثة معاً في 2008. وكان النشار ينوي إخراج جزء رابع في الزهد والتصوف في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وجزء خامس في التراث الفلسفي المشائي والرواقي والأفلاطوني، المحدث في الإسلام ولكن عاجله القدر.

وفي هذا الكتاب النشار يؤكد على أصالة الفلسفة الإسلامية واستقلاليتها، كما هو حال بقية الفلسفات الأخرى (الهندية والإيرانية)، كل ذلك مقارنة مع اليونانية التي يبدو أنها هي التي ينظر إليها على أنها الأصل وغيرها الفرع، وهذا ما لا يرجحه، وخاصة ما يتعلق بالجانب الإسلامي، وأن الموضوع كله ليس إلا تمازجاً مع بقية الحضارات مع الحفاظ على الجوهر.

وقد أشار بدور مصطفى عبد الرازق ومحمود الخضيري، ومحمد مصطفى حلمي ومحمد عبدالهادي أبو ريدة، في إبداع مدرسة فلسفية إسلامية جادة، تأخذ معطياتها من المظان الحقيقية، وما نتج عنها من نواة صلبة في دار العلوم على يد محمود قاسم، الذي أسس لمدرسة ذات طابع عقلي، والذي أخذ عليه تعظيمه للمعتزلة والرفع من شأنهم، فيما هو أي –النشار- يرى أن الأشعرية آخر ما وصل إليها العقل الإسلامي الناطق بالقرآن والسنة، ويختم مقدمات طبعات سفره بالتأكيد على استقلالية المدرسة الفلسفية الإسلامية عن اليونان، ودعا من قال ذلك بالكف عن ظلم عقيدتهم وتراثهم وكيانهم.

انتدب علي سامي النشار إلى كلية الآداب والعلوم بالعراق عام 1955، ودرس هناك مدة أربع سنوات، وكثير من أساتذة الفلسفة في العراق هم من تلاميذه، وعاد النشار من العراق، إلى جامعة الإسكندرية عام 1959، وظل فيها حتى عام 1971، وكان عقد الستينيات مثمراً إذ ما لبث، حتّى كون مدرسة فكريّة من طلابه في الإسكندرية، وكان يعقد حلقة علميّة يتدارس مع تلاميذه موضوعات اهتماماتهم في الدراسات العليا، وينضج أبحاثهم، وأبحاثه في مشروعه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام.

ومن تلاميذه في جامعة الإسكندرية الجزائري الدكتور عمار الطالبي الذي صحبه في الإسكندرية عامين، ووصفه النشار بأنّه عالم الجزائر الشاب، وأن تلمذته له كانت على جانب كبير من الفائدة للبحث العلمي في حلقته العلمية بالإسكندرية، ولقد أشار النشار في هوامش الجزء الأول من كتابه نشأة الفكر الفلسفي، إلى أهمية النصوص التي قدمها له الطالبي. وقد كتب الطالبي بحثه في الماجستير تحت إشراف النشار في موضوع آراء الخوارج الكلامية، وتحقيق كتاب الموجز لأبي عمار الكافي الإباضي، وأقام آراء الخوارج في نسق فلسفي رائع، وقد حقق النشار مع تلميذه كتاب عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل، والبخاري وابن قتيبة، وعثمان الدارمي.

عين النشار أستاذاً في جامعة محمد الخامس في الرباط عام 1973، وظل يعمل بها حتى وفاته في أول سبتمبر 1980م، وقد لقي تقديراً من الأوساط العلمية والرسمية بالمغرب، ونوهت الصحف والمجلات المغربية بمكانته عقب وفاته.
 

ومن كتبه: شهداء الإسلام في عهد النبوة، نشأة الدين.. كما حقق بعض الكتب منها: الشهب اللامعة في السياسة النافعة لأبي القاسم بن رضوان المالقي. بدائع السلك في طبائع المُلك لأبي عبد الله بن الأزرق. كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة لعبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي. صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام لجلال الدين السيوطي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها