صورة المرأة.. فـي دراما أسامة أنور عكاشة

هشام بن الشاوي

تشترك الدراما التلفزيونية مع الرواية والمسرحية والسينما في كونها جميعاً فنوناً تقوم على عنصرين رئيسيين، هما القصة واللغة، وكم كان مدهشاً أن تخلو دراساتنا النقدية من البحث الجاد حول السمات الخاصة، التي تميز كتابة الدراما التلفزيونية بوصفها نوعاً أدبياً خاصاً، ومتفرداً عن غيره من الأنواع الأخرى كالرواية والمسرح1.

حققت الدراما التلفزيونية نجاحاً منذ بدايتها في مطلع الستينيات، ولكنه النجاح المرتكن على شغف جماهيري بهذا الجهاز الجديد، الذي اقتحم البيوت المصرية.. إنه الشغف الذي جعل المصريين يلتفون حول هذا الجهاز لقضاء وقت ممتع يخرجهم من متاعب الحياة ومشاغلها.. لا يمكن بالطبع أن تكون هذه قاعدة عامة، ولكنها تمثل السواد الأعظم والأغلب الأعم. ومن ثم فإن أسامة أنور عكاشة كان بمثابة نقطة التحول في مسار الدراما التلفزيونية. لقد تحول بها من حال إلى حال.. من حال التسلية والمتعة وتقضية وقت الفراغ، من خلال بعض الأعمال الدرامية القائمة على الإثارة مثل المسلسلات البوليسية... أو من خلال أعمال اجتماعية... أو حتى أعمال مست القلب والوجدان، بما فيها من مواقف إنسانية تثير مشاعر المتلقي مثل: "أبنائي الأعزاء شكراً". أقول إن عكاشة حول المسار من ذلك إلى خطاب جديد يرصد أزمات المجتمع الحقيقية، ويقدم شخصياته التي يراها المتلقي في كل مكان حوله، ملبساً إياها ثوباً جديداً. لم يكتف عكاشة بهذا، فقد خاطب العقل مع الوجدان والقلب.. طرح النقد والأسئلة والقضايا، وإلى جانب ذلك كله لم ينسَ التسلية والمتعة.

لقد استمرت الفترة الأولى للدراما التلفزيونية طوال الستينيات والسبعينيات، وهي الفترة ذاتها التي قدم فيها عكاشة نفسه أول أعماله الدرامية. ويرى د. أحمد عمار أن البداية الحقيقية لتغيير المسار كانت في النصف الأول من الثمانينيات من خلال مسلسل "الشهد والدموع"، ذلك المسلسل الذي حقق نجاحاً غير مسبوق في هذا الوقت، وهو ما جعل الكثيرين يعدونه نقطة التحول الحقيقية في تاريخ الدراما التلفزيونية العربية2.

لزمن عكاشة ملامحه التي ينبغي تأملها قبل أن نرصد ما أنجزه في حياتنا المعاصرة، فعندما بدأ عمله ككاتب دراما تلفزيونية بالمعنى الاحترافي، كان التلفزيون قد أصبح له دور أساسي في البيت المصري، وليس كسلعة تكميلية كما بدأ في الستينيات. ساعدت ظروف عديدة على ذلك، أهمها هجرة المصريين إلى الخليج، وكان التلفزيون في مقدمة السلع التي أتت بها قوافل العائدين منه، ودخول السينما المصرية في نهاية السبعينيات منعطفاً حاداً انتهى إلى إنتاج أفلام يصنف معظمها في دائرة "الأفلام التجارية"، بينما كان الإنتاج التلفزيوني يعيش طفرة معاكسة ساعدت على ازدهار الدراما التلفزيونية، التي توافرت لها أموال من شركات كبيرة، أدركت أن التلفزيون هو بالفعل "مصنع جديد لإنتاج الأحلام". بدأ مع تلك الشركات التحول من عالم السهرات التلفزيونية والسباعية إلى المسلسل الدرامي الطويل، فحتى ذلك الحين لم تكن ذاكرة الناس قد ارتبطت بالمسلسل التلفزيوني، باستثناء عمل مثل (القاهرة والناس) لمحمد فاضل، الذي احتكر الدراما الرمضانية محققاً نجاحات كبيرة في (أبنائي الاعزاء شكراً)، الذي عرف بـ(بابا عبده)، ومن بعده (صيام صيام).

في ذلك الزمن الذي أسماه غالي شكري بزمن "الثورة المضادة"، والانقلاب الكبير على المكاسب الاجتماعية للناصرية، كانت مصر قد بدأت تعرف معاناة الانفتاح الاقتصادي، الذي أسماه الراحل أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح"، وتتحسر النخبة على انقلاب سلم القيم الاجتماعية. كان أسامة أنور عكاشة يهيئ نفسه للرحيل من أرض الأدب إلى الدراما التلفزيونية، وقادته المصادفة وحدها إلى اللحظة التي غيرت من مصيره، فقد حدث أن كاتباً كبيراً هو سليمان فياض صاحب الرواية الفاتنة "أصوات"، قرأ إحدى قصص عكاشة بمجموعته الأولى، وتحمس لكتابتها في سهرة تلفزيونية أخرجتها علوية زكي، ثم اختار السيناريست كرم النجار قصة أخرى له (الإنسان والجبل) وأخرجها فخر الدين صلاح. شجع فياض عكاشة على كتابة السيناريو؛ لأنه وجد في كتاباته العناصر التي تؤهله لكتابة "الصورة" أو السناريو3.
 


أسامة أنور عكاشة يحمل جائزة نجيب محفوظ في الكتابة الدرامية 2007 - AFP
 

ويعزى تفوق دراما كاتبنا الكبير أسامة أنور عكاشة، والذي لقب بنجيب محفوظ الدراما التلفزيونية إلى أن ما يسمى بــ"أدب الدراما التلفزيونية" كان مشروع عكاشة منذ البداية؛ أدب بملامح وخصائص تجعله متفرداً عن كل الأنواع الأدبية، التي تقوم على القص كالقصة، الرواية، المسرحية، والسيناريو السينمائي.. وأولى خصائص هذا الأدب "الجملة التي تقترب من اللغة الشعرية"، بتعبير د. أحمد عمار، فالكاتب "الذي وصف بأنه كاتب واقعي كان يسعى دوماً إلى اللغة الشعرية! وهل ثمة تعارض بين الأمرين؟ لقد اتهم عكاشة كثيراً بأن جمله ربما ترتفع عن مستوى شخصياته التي يكتبها.. يمكننا أن نقول الآن نعم، كان يفعل ذلك عامداً. إن عكاشة لم يكن ناقلاً لما يحدث في الواقع، فالنقل لا فن فيه ولا إبداع، كان يلتقط الشخصية من الواقع ليدخلها داخل النسيج الأدبي، ذلك النسيج الذي لن يكون الواقع في ذاته أبداً. لن يكون إلا تلك الشخصية التي خلقها المبدع داخل نصه الأدبي الدرامي منطقاً إياها بلغة أدبية خاصة متفردة عن لغة الواقع، مهما اقتربت منه أو جسدت قضاياه.. إنه الأدب وخصوصيته وتفرده4.

نموذج محفوظ كان يؤرق عكاشة أكثر من كل تلك النماذج الراسخة، فأسامة كان مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد، وإبراهيم اصلان، وغالبية كتاب الستينيات المسحورين بصاحب (زقاق المدق)، وبقدرته على التحاور مع نصوصهم والاستفادة منها، وتطوير كتاباته لتسبقهم جميعاً في قدرتها على مراجعة ما جرى من تحولات. في تلك السنوات كان محفوظ انتهى من كتابة روائعه الفلسفية التي بدأت بـ(أولاد حارتنا)، وتواصلت مع (ثرثرة فوق النيل)، و(الشحاذ)، و(الطريق)، و(السراب)، وكان الأسبق فيها لمناقشة تناقضات التجربة الإنسانية وتساؤلاتها الكبرى، كما كان بخلاف الستينيين غير مغرم بما أنجزته التجربة الناصرية، وقادراً على إدراك تناقضاتها، كما عبر عن ذلك في (ميرامار)، وفي نفس الوقت ما يزال مشدوداً بالحنين إلى "زمنه الوفدي"، ومنسجماً أكثر مع ما أنجزته "ليبراليته المنقوصة"، التي انحاز لها في (السمان والخريف)، كاشفاً عن نقطة للمفارقة بينه وبين مريديه من الكتاب الجدد، لكنه في المقابل كان لا يمل من كسب أنصار جدد في السينما، التي كان جمهورها قد منح لمحفوظ سلطة "الكاتب الجماهيري".
هذه السلطة السحرية كانت أكثر ما أغرى عكاشة في مهنته الجديدة، ووجد بفضل نموذج "محفوظ" الكثير من العزاء، ربما قال لنفسه ذات يوم: "ها أنا أمضي في نفس الطريق الذي بدأه الأستاذ"، لكنه لم يكن يعلم أن موهبته ستقوده إلى ابتكار زمنه الخاص. في محاولاته الأولى بدا متعثراً وغير قادر على صياغة "الشفرة"، التي صاغت بعد ذلك علاقته بالجمهور العام، فمن يتذكر مسلسلاته الأولى مثل: "المشربية"، و"أبواب المدينة"، سيتذكر على الفور كيف كانت مشغولة بنفس مسرحي أكثر منه تلفزيوني، تعلي من الحوار على حساب الصورة، التي كانت فقيرة بحكم إمكانيات ذلك الزمان، وتتردد فيها أصداء لمقولات كبيرة عن "عزلة المثقف وأزمته الوجودية". سمات الحوار المسرحي تخلص منه مع عمله الأول الكبير "الشهد والدموع" في بداية الثمانينيات، ومن يعرف أدب نجيب محفوظ جيداً سيدرك على الفور العلاقة بين هذا العنوان، وبين رواية "ميرامار"، فعامر وجدي أحد أبطال الرواية يقول: "الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

من هذه الجملة أخذ عكاشة اسم مسلسله التليفزيوني، الذي دشن شهرته العريضة، وأعلن مولده ككاتب استثنائي صاحب صنعة... مساحات الأداء التي وفرها عكاشة لنجوم أعماله، تميزت بحوارات دافئة، لم تأت خالية من تساؤلات عميقة عن معنى الوجود وعن حدة الصراع الطبقي، ومرارة الافتقار إلى الحد الأدنى من معنى العدالة الاجتماعية5.

كانت هناك رسالة واحدة يعيد أسامة تأكيدها من عمل لآخر، أو لنقل رسائل قليلة تتعلق بالعدالة الاجتماعية (أكثر ما أحبه في عبدالناصر)، والحس القومي العروبي، والبطل الشعبي الذي بوسعه أن يقود التغيير.

وليس من النادر أن نجد كاتباً روائياً أو شاعراً، أو قاصاً يؤمن بهذه القيم ويدور حولها في كتاباته، بل إن هذا هو العادي؛ لأن أغلب الكتابة تأتي من اليسار، لكن عبقرية أسامة أنه جعل هذه الأفكار مادة للدراما التليفزيونية. وهي من جهة خبز المواطن غير المثقف، البعيد كلية عن هذه الأفكار، ومن جهة أخرى -وهذا هو الأهم- أن الدراما عمل جماعي، تأتي ميزانية إنتاجه من الدولة؛ قبل انتشار شركات الإنتاج الخاصة.

كانت الدولة التي تمول إنتاج "الراية البيضا" أسيرة توحش رأس المال، عندما مولت مسلسلاً يمجد قيمة الجمال في فيلا الأستاذ الجامعي مفيد أبو الغار، في مواجهة جهل تاجرة السمك فضة المعداوي، التي تريد شراء الفيلا بالإكراه لتبني عليها برجاً سكنياً.

وكان دين الدولة، ولم يزل ساداتياً، عندما رفع أسامة أنور عكاشة عبد الناصر في السماء بملحمة "ليالي الحلمية"، وتعرض لحملات صحافية ضارية؛ لكونه يبث الأكاذيب بأموال الشعب المصري!

هكذا، ودائماً ينتبه النباحون إلى أموال الشعب المصري عندما يتعلق الأمر بحرية الإبداع والتفكير، ولكن هذه الحملات لم توقف توالي الأجزاء الخمسة من المسلسل، الذي تناول ثلاثة أجيال من عائلتي الباشا المديني سليم البدري، والعمدة الريفي سليمان غانم، ومعهما تحولات مصر من الملكية حتى تداعي التسعينيات.

لم يكن توالي أعمال أسامة أنور عكاشة دليلاً على ليبرالية الحكومة وقطاع الإنتاج بتليفزيونها، بل شهادة لعبقرية في الكتابة لم يملك من يعارضون رؤيتها إلا أن يغضوا الطرف عنها، ويدعوها تمر.

في "الليالي" استلهم أسامة طريقة كتاب روايات الأجيال، من توماس مان إلى نجيب محفوظ، لكن خماسيته التليفزيونية تختلف عن ثلاثية صاحب نوبل، ليس في الجدل السياسي الذي يبدو في الحوار فقط، بل في الجدل الاجتماعي بين القرية والمدينة، حيث عرف أسامة المكانين بعمق لم يتوفر لنجيب محفوظ الذي عاش ومات في القاهرة، وأحب الإسكندرية كمدينة بديلة، ومثله وأكثر فعل أسامة للمصادفة البحتة6.

ليس من قبيل المبالغة أن نذهب إلى أن دراما "عكاشة" هي العلامة الفارقة في تاريخ الدراما التلفزيونية المصرية، (وإذا شئنا أن نخلع بعض التحفظ، فهي كذلك في شأن الدراما التلفزيونية العربية أيضاً). كيف؟ نرد السائل إلى مراجعة غزارة إنتاج الرجل -كماً وكيفاً- للتحقق من الإجابة، كما نرده تحديداً إلى تحري ما فعله الرجل بكل ما هو تقليدي في تاريخنا التلفزيوني المديد (أزعم أن معظم ذلك التاريخ كان تقليدياً)، حتى إن الرقابة -معقل التقليدية في الدراما العربية- وجدت نفسها مضطرة إلى أن تفسح من صدرها مكاناً لائقاً بتلك الموهبة الفريدة، فتنازلت عن كثير مما كانت تعده من المحرمات (تلك المحرمات التي ساهم في ترسيخها لدى الرقابة تواتر المواهب الضعيفة، ولنا أن نقول الكسولة، على نحو مبهر)7.

يمثل عكاشة صورة مثالية لتضافر الموهبة بالصنعة، والشعبية بالتجريب. فعلى مدار مشواره الطويل تجد الكثير من المتناقضات، من مسلسل اقتربت حلقاته من 150 حلقة كليالي الحلمية، إلى مسلسلات لا تتجاوز حيز الخمس عشرة حلقة كالراية البيضا، والنوّة، ومن أعمال معتمدة بشكل كامل على تيمة شعبية وبناء كلاسيكي كـ"ضمير أبلة حكمت"، إلى أعمال تنحو إلى التجريب المفرط في السرد والإيقاع، كأنا وانت وبابا في المشمش وعصفور النار. كما كتب عكاشة للسينما، وكتب رواياتٍ وقصصاً قصيرة، ومقالات خاض بها معارك فكرية مشتعلة.

التناقض والثراء الشديد في أشكال الإبداع يوضح الروح الفنية المتقدة التي امتلكها عكاشة، تلك الروح الراغبة في تحقيق كل أحلام الفنان من الشهرة والجماهيرية، إلى الابتكار وكسر الحدود، بالإضافة إلى تراكم التاريخ الفني.

والحقيقة أن مشروع أسامة أنور عكاشة التلفزيوني الضخم لم ينل حتى الآن حقه من الدراسة والتحليل، واقتصرت معظم الآراء التي كتبت عنه على الحديث عن دوره الفني والفكري العام، أو عن تحليل أحد أعماله بمفرده، دون محاولة وضع قراءة عامة لمشروعه الفني، تضع كل عمل في سياقه وتحاول تبين القواعد العامة التي وضعها عكاشة كإطار لإبداعه.

فعالم عكاشة التلفزيوني ليس بسيطاً كما يدعي البعض، ولا يعتمد على تيمة فكرية وبنائية واحدة، بل يمكن تقسيم مشروعه الفني حسب رأيي إلى ثلاثة اتجاهات فكرية وبنائية، تتشابه في بعض العناصر، وتتنافر تماماً في بعضها الآخر.

الاتجاه الأول هو الدراما "الدون كيشوتية" المعتمدة على وجود شخصية رئيسة واضحة تكون مركز العمل، وهو دائماً فارس نبيل يحمل منظومة من القيم التي يؤمن بها ويدافع عنها، ويحاول التمسك بها في مواجهة العالم الذي يتغير من حوله، وهي دراما البطل فيها واضح عادة ما يحمل المسلسل اسمه، وأبرز أمثلة لهذا الاتجاه بالطبع هو "أبو العلا البشري"، الذي زينت صورة الفارس دون كيشوت تتراته، ومعه "ضمير أبلة حكمت"، و"امرأة من زمن الحب"، و"الراية البيضا"، والأخير تحول الفارس فيه إلى مجموعة من الفرسان تواجه طوفان الجهل والقبح الذي هاجم مصر، ويواصل هجومه حتى يومنا هذا.

الاتجاه الثاني هو الاتجاه الأشهر الذي يظن البعض أنه الوحيد، وهو الاتجاه الذي يندرج تحته عمله الأيقوني "ليالي الحلمية"، والذي يعتقد البعض أن البطل فيه هو المكان، وهو التفسير الخاطئ الذي أشرت إليه من قبل. فالبطل في "ليالي الحلمية"، و"الشهد والدموع"، وأمثالها هو الزمان وليس المكان، وهي أعمال تحليلية تهدف لدراسة التغيير الذي يحدثه الزمن، عبر تجربة تكاد توصف بالعلمية، يقوم المؤلف فيها بتثبيت عنصري المكان والبشر، ويقوم بتحريك الزمان ورصد أثره عليهما، ليقدم بذلك رؤية بانورامية عن التحولات والآثار، التي قد لا يستطيع رصدها إذا ما قام بمتابعة شخصية بعينها، أو انحصر في فترة زمنية محدودة.

الاتجاه الثالث هو الاتجاه الذي شغل أسامة أنور عكاشة خلال العقدين الأخيرين من حياته، كهدف أسمى يتوج به تجربة شديدة الثراء، وهو اتجاه التفتيش عن الهوية المصرية، ومحاولة فهم حقيقة المصريين، والإجابة عن السؤال المحير: هل المصريون مسلمون؟ أم أقباط أم فراعنة أم أتراك أم ينتمون لهوية أخرى؟ وهو السؤال الذي يمكن أن نعتبره الفكرة العامة لمشروع عكاشة الفني ككل.

هذا الاتجاه الثالث أسفر عن عمل بديع هو "أرابيسك"، الذي يمكن اعتباره أحد أفضل المسلسلات التلفزيونية المصرية، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، وأسفر أيضاً عن مشروعين شديدي الطموح لم يمهل العمر أسامة أن يكملهما هما: "زيزينيا"، و"المصرواية"، وهما استمرار لطرح كل الاحتمالات الممكنة للإجابة على هذا السؤال، وإن كان المبدع قد تمكن مسبقاً في تقديم إجابة واضحة عليه سواء في "أرابيسك"، أو في باقي أعماله بشكل عام. فكل ما سطره عكاشة يقوم بوضوح أن مصر ليست أي واحدة من هؤلاء، مصر ليست إسلامية ولا قبطية ولا فرعونية، وأي محاولة لاعتبار هذه العناصر هويات منفردة يمكن تجريدها وفصلها لن تؤدي إلا لفشل ذريع، تماماً كفشل الدكتور برهان الذي طلب من حسن أرابيسك أن يقوم بصناعة قاعات منعزلة كل منها بأحد هذه الهويات، فكان نصيبه أن تنهار فيلته عند أول هزة تتعرض لها8.

إذا كان بالإمكان القول إن هناك بطلاً واحداً في دراما (أسامة أنور عكاشة)، فيمكن القول باطمئنان إنها (المرأة)؛ ليست امرأة واحدة بعينها؛ وإنما مجمل أدوار المرأة في أعماله كلها.
فأديبنا ينظر إلى المرأة ودورها في المجتمع نظرة حضارية إنسانية تقدمية، كونها نصف المجتمع، ولا يمكن لهذا المجتمع أن يتحرك أو يتقدم بكامله ما لم يكن نصفه الجميل سائراً في ركبه. وعند تأمل الأدوار التي كتبها للمرأة، يلاحظ الاحترام البالغ لها ولكينونتها، سواء كبر دورها في العمل أو صغر، قوية كانت أو ضعيفة، غنية أو فقيرة. فالمرأة عنده قيمة إنسانية عالية. لم يتجاوزها كاتبنا عند معالجة أي موضوع في أعماله، فهي عنده القلب النابض الذي يفيض حباً وحناناً ورحمةً، وحتى في بعض أدوار المرأة التي قد تثير بعض الجدل حولها كدور "نازك السلحدار" (صفية العمري) في "ليالي الحلمية، نراه يتعامل معها بما لا يتعارض مع نظرته الإنسانية للمرأة.

واعتزاز كاتبنا الكبير بالمرأة يبدو واضحاً في أن عدداً من أعماله تحمل اسم المرأة كـ"ضمير أبلة حكمت"، "امرأة في عابدين"، و"امرأة من زمن الحب"، و"المصراوية"، حيث المرأة هي محور المسلسل .

وإذا كانت هناك أعمال تلفزيونية أو سينمائية، يحشر فيها دور المرأة لأسباب جمالية، يمكن الاستغناء عنه دون أي تأثير على الأحداث، إلا أنها في أعمال "أسامة أنور عكاشة" هي المحور الرئيس والمهم فيها، وحتى في الأعمال التي يلعب فيها الرجل الدور الرئيس، فالمرأة تشاركه في صنع الأحداث ولا يمكن بأية حال من الأحوال إلغاء دورها في ذلك العمل.
كما نلاحظ اختلاف تعامل الكاتب مع دور زوجة الأب على خلاف الصيغة المتعارف عليها في الدراما المصرية، لكنه على العكس من ذلك جعلها في منتهى الرحمة والرقة، كما يشي بذلك دور "إنعام سالوسة" مع زهرة (آثار الحكيم) في "ليالي الحلمية"، وكذلك في "زيزينيا"، فهي صدر رحب مفتوح لكل أبناء زوجها على حد سواء9.

واستمراراً لمكانها اللافت في أعماله فإن "عكاشة" ينزل حورية –المرأة- منزل البطل الأول في "عصفور النار"، وإذا كان "الحسيني" هو رمز البطولة الأولى في العمل؛ فإن "حورية" هي تجسيدها الأول. ظل "الحسيني" الهاجس الذي تهمس به "حورية" وتجهر طوال الحلقات، وظلت هي الأداة الفاعلة في تفجير الثورة والسند الواثق حتى لذلك الهاجس الحافز.

لماذا كان "الحسيني" ضئيل الجسم، قليل الصحة، نادر الحظ من الظهور الفاعل؟ مؤكداً لكي يتيح لـ"حورية" -المرأة- أن تشغل الحيز الجدير بها لدى المؤلف... حيز البطولة الرائدة، ولماذا ينشغل المؤلف كثيراً بأن يدع المرأة تشغل ذلك الحيز المرموق (على حساب الرجل أحياناً)؟ هذا من شأنه الخاص، لكن الإجابة الوافية على هذا السؤال أبعد عمقاً فيما يبدو من احتمال ذهبت إليه سابقاً مفاده أن المسألة قد تجد جواباً شافياً لها في هاجس الإثارة الدرامية المرتجاة من قلب سنة الحياة الأولى، الممثلة في دوري الرجل والمرأة من أمر القيادة.

في "ضمير أبله حكمت": "حكمت هاشم، وفي "الشهد والدموع": "زينب"، وفي "الراية البيضا": "فضة المعداوي"... وفي "ليالي الحلمية": "نازك السلحدار" وأكثر، وهي أيضاً امرأة في "أرابيسك"، وفي "المشمش"، و"النوة" وغيرها... تماماً كما هي امرأة في "عصفور النار". على أنها أحياناً تنفرد ببطولة أحد طرفي الصراع، كما في "الشهد والدموع" و"الراية البيضا"، وأحياناً بالبطولة المطلقة للعمل كله كما في "النوة"، وكثيراً ما تكون بطلاً موحياً كما في "أرابيسك"، و"ليالي الحلمية"، و"أبو العلا البشري" وغيرها، لكنها في كل مرة بطل لا يحب أن يعلو على كل الرجال، أو قل هي دوماً تحب أن تستبقي رجلاً واحداً على الأقل تستلهم قواه وقدرته فتعول عليها في الشدائد. على أنها في "عصفور النار" تستحضر هذا الرجل طيلة كفاحها... بل هو -أكثر من ذلك- مفجر هذا الكفاح وملهم استمراره.

يصح أيضاً أن نقول إن ثمة في "عصفور النار" انقلاباً أكثر خصوصية في طبيعة موقعي الرجل والمرأة من فعل القيادة، إذ لم تضطلع المرأة بدور القائد فقط؛ وإنما لعبت دوراً أقرب إلى القوة العضلية، في حين لم يكتف الرجل بالانسحاب إلى الموقع الثاني، بل -تأكيداً لهذا الانقلاب- اضطلع بدور الملهم الحافز... ذلك الدور الذي وسم المرأة كلما ارتضى لها الرجل أن تنهض بدور فاعل على مر العصور.

نجدها أيضاً في مواقعها التقليدية النائية -أقداراً متراوحة- عن مواقع البطولة المطلقة أو شبه المطلقة، لكنها حتى هنالك، في تلك المواقع النائية، قد أسبغ عليها ثوب الإرادة... فهي لا ترضى أن تكون حبيبة مستكينة، أو حبيبة حالمة ولكنها مؤثرة في الحب، وهي أيضاً زوجة مؤثرة وابنة مؤثرة وأخت مؤثرة... بل وراقصة مؤثرة.

إلى ذلك، فهي موجودة حيثما اقتضى الحال أن تكون في موقع من الحياة (أو العمل الدرامي.. سيان)، وليس من حرج إذاً في أن تكون حينها غير مؤثرة، أو حتى منجرفة إلى سلطة الرجل التقليدية. هي إذاً المرأة المزواجة ("جليلة محمود" في "الشهد والدموع")، وهي المرأة المنكسرة ("لوسي" في "النوة")، وهي الزوجة المنقادة ("إنعام سالوسة في "ليالي الحلمية")، وهي الوالهة المصدودة ("هالة صدقي" في "أرابيسك")، وهي الحب الأول الهاجر؛ إما قسراً (زوجة "مفيد أبو الغار" في "الراية البيضا")، أو خيانةً ("زيزي مصطفى" في" في المشمش").
وهي أيضاً العمة الرؤوم "رجاء حسين" في "الشهد والدموع"، و"محسنة توفيق" في "ليالي الحلمية"، و"سيسبان" في "عصفور النار"10.


الهوامش: 1. د. أحمد عمار، "عصفور النار، دراسة تحليلية لأدب الدراما التلفزيونية"، دلتا للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص: 20-21. / 2. أحمد عمار، م، س، ص: 51-52. / 3. سيد محمود، "زمن أسامة أنور عكاشة.. خبز أيامنا"، موقع الكتابة الثقافي: https://bit.ly/36NIx72
4. أحمد عمار، م، س، ص: 55-56. / 5. سيد محمود، م، س. / 6. عزت القمحاوي، "موت المؤلف"، جريدة "القدس العربي"، لندن، 29-05-2010. / 7. عمرو منير دهب، "بين الكاتب العادي وأسامة أنور عكاشة"، نسخة إلكترونية، ص: 11. / 8. أحمد شوقي، "أسامة أنور عكاشة.. المنتصر في قبره"، جريدة "القاهرة"، 9-07-2012. / 9. أحمد الحسن، "البطل فــي دراما أسامـــة أنور عكاشـــة"، جريدة المدى، العراق، 16-05-2013. / 10. عمرو منير، م، س، ص: 18-19.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

فرات غانم

مقال جميل جداً ومشبع بكل التفاصيل الدرامية والفنية والعلمية والإنسانية ..لكم جميعاً الشكر

2/24/2021 7:48:00 PM

1