الأسطورة.. ووظائفها!

د. ربيعة بورقبة

 

لقد افتتحت الباحثة الموضوع بالتأكيد على أنه من الصعب إيجاد تفسير للأسطورة، والإدلاء بتعريف شامل وموجز لها، ذلك أن الأسطورة كانت دائماً موضع تحول دائم ومستمر، فهي كالكائن الحي تشمل ما في الحياة من تبدل وتطور وسيرورة. إنها بنية ثقافية من مجموع البنى المكونة لثقافات العالم عبر تطوره الحضاري، وعبر سيرورته التاريخية.



∵∴∷ الأسطورة وخبرة المقدس ∵∴∷

لقد بحث كثير من المفكرين في بنية المجتمعات الذهنية والثقافية، وتعرض عدد منهم إلى كشف النسيج الأسطوري الذي تتشابك فيه الأسطورة مع الفلسفة والسحر والدين؛ وإلى كيفية تداخل هذه الأمور جميعاً لتشكل مجتمعة –أو متعارضة- نمطاً معيناً من التفكير والسلوك المعارض للعقلية العلمية. كما أن عدداً من المفكرين تعرض بدراسته إلى جذور بعض المعتقدات والأفكار التي يعيش عليها المجتمع، وأصول هذه الأفكار والمعتقدات ومسبباتها.

غير أن مثل هذه الدراسات كانت نادرة في بعض المجتمعات، ويعتبرها –البعض- محرمة ومن عمل الشيطان؛ لاسيما وأن أمثال هذه المجتمعات ما زالت تعيش على مقدسات وأفكار لا يسمح معها بإعمال حكم العقل، أو بمناقشة موضوع من الموضوعات المقدسة في عرضها على هدى هذا العقل ومنطقه.

وقد كشف ميرسيا إلياد عن كثير من الأوهام التي تعاني منها بعض المجتمعات، والتي يجب نزعها من الرؤوس التي تعشش فيها؛ مع غيرها من الأساطير الكثيرة التي يجب تعريتها من زمن طويل. وفي إطار ذلك، بين معالم الحدود لكثير من الأمور التي تعرض تحت عنوان "مقدس"، بينما هي تنبع من ميثولوجيا ابتكرها الإنسان عبر تاريخه، وجعلها قيداً على فكره وحريته.

ويذكر إلياد أن الأسطورة على صعيد التجربة الفردية لم تتوار بتمامها؛ إنها تعلن عن حضورها من خلال الأحلام والحنين إلى الماضي البعيد، وإلى الفردوس المفقود؛ ومن خلال الأعياد الشعبية والاحتفالات الفولكلورية، إنها تكمن في الفعالية اللاشعورية عند الفرد.

وهنا يشير إلياد، إلى أن من العسير أن نتعرف على الوظيفة التي كانت تضطلع بها الأسطورة في مجتمعات الأزمنة القديمة، من خلال ما يسميه الناس اليوم: بالتعليم، والتربية، وثقافة الإرشاد. ذلك لأن الأساطير تمثل المعايير التي يتوجب الحفاظ عليها، وجملة التقاليد المنحدرة من تراث الأجداد.

∵∴∷ الأسطورة والتحليل النفسي ∵∴∷

ترى الباحثة أمل مبروك أن الأسطورة لم تعد مجرد قصة تروى وتشير إلى مغزى غالباً ما يكون أخلاقياً؛ وإنما بدأت تتخطى حدود هذه النظرة البسيطة المباشرة لتتحول إلى مؤشر حضاري يتعامل مع الوجود الإنساني في انتشاره مكاناً واستمراره زماناً. والأسطورة إذا توقفت عند حدود القصة المباشرة التي ترويها، تحولت إلى أداة تسلية عابرة تفقد الباعث الأساسي على الاهتمام بها، والإبقاء عليها عن طريق التسجيل أو الرواية من جيل لآخر. ومن هنا ارتبطت الأسطورة بالتطور العام للعقل والحضارة الإنسانية عموماً.

وتوقفت الباحثة عند علاقة الحلم بالأسطورة، مستحضرة نظرية فرويد الذي يرى أن هناك تشابهاً في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما؛ فهما نتاج العمليات النفسية واللاشعورية. ففي الأسطورة –كما في الحلم- نجد الأحداث تقع خارج حدود الزمان والمكان، والبطل (كذلك صاحب الحلم) يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هي انعكاسات لرغبات وأمان مكبوتة، تنطلق من عقالها؛ بعيداً عن رقابة العقل الواعي الذي يمارس دور الحارس على بوابة الشعور. وعلى حد قوله: "هناك تشابه بين أخيلة العصابين وأخيلة الجماعات والشعور، كما نجدها في الأساطير والقصص والحكايات الخرافية".

∵∴∷ وظائف الأسطورة ∵∴∷

لقد أكد جوزيف كامبل أن الأسطورة تخدم أربع وظائف أساسية؛ هي:
▪ حل الصراع بين الوعي والشروط السابقة على وجوده، خاصة المتعلق منها بالنواحي الغريزية والفطرية والمخاوف، والاندفاعات وعمليات الشعور بالذنب التي يعانيها الإنسان بكثرة في الحياة.
▪ تشكل صورة للعالم –صورة كونية- وصياغتها من خلال تنظيم الأشياء المرتبط بالزمن والحياة بأسرها.
▪ التصديق على نظام اجتماعي معين والمحافظة عليه، فهي تؤكد السلطة العليا لرموز المجتمع الأخلاقية بوصفها تكوينات تقع وراء النقد أو التصحيح الذاتي.
وهنا يرى كامبل أن الوظيفة الأولى التي تؤيدها "الميثولوجيا"؛ إنما هي وظيفة ميتافيزيقية أو صوفية فتوصف بأنها كونية؛ والثالثة اجتماعية.
▪ والوظيفة الرابعة، هي الوظيفة التي ترتبط بكل فرد من أفراد المجتمع (وهي تدعم الوظائف الثلاث السابقة)، ونعني بها "الوظيفة السيكولوجية"، وهي تخص كيفية تشكيل الأفراد من حيث المثل والأهداف الخاصة، التي يحملونها منذ الطفولة حتى الموت، وخلال مجرى الحياة نفسها.
▪ ومن وظائف الأسطورة أيضاً، المحافظة على الوضع القائم، أو الإيهام بحقيقته أو واقعيته؛ وكذلك حل الصراعات والمشكلات وإيجاد نسق خاص لتفسير الكون والحياة. وقد رآها البعض، تعكس صورة الثقافة بوصفها شكلاً من أشكال الحياة في المجتمع.

وعلى هذا؛ ذهبت الباحثة إلى التأكيد على أن الأسطورة كانت –وما زالت- إحدى مكونات الوعي البشري. ورغم التقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان طيلة العقود الماضية، فما يزال يلجأ إلى "الأسطورة" التي كثيراً ما يجد فيها سلوى لعجزه عن فهم الكثير من قضاياه؛ كما أنه يلجأ إليها ليستمد منها توازنه. والأسطورة تشبع بعض الحاجات البشرية العامة، وتعد -على هذا الأساس- عنصراً ضرورياً لا غنى عنه بالنسبة للثقافات الإنسانية في كل مراحل تطورها.

إن كل أسطورة -كما يقول "ماركس" و"أنجلز"- لها وظيفة حيوية، حيث تجاوز قوى الطبيعة وتحولها –عبر الخيال- إلى نسق من الرموز يضفي من المعنى ما يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل ومن هنا، فالأسطورة ليست وهماً أو كذباً –أو بتعبير أدق ليست شيئاً لا لزوم له- إنها تجربة وجودية؛ بل هي التجربة الوجودية الأولى التي عرفها الإنسان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها