إعادة القراءة.. تحقيق في الشغف الأدبي

د. عبد الرحمان إكيدر



لماذا نعيد قراءة الكتب؟ وما الذي نتعلمه بالضبط من القراءة الثانية، ولا تكشفه لنا القراءة الأولى؟ ولماذا يحب الأطفال الاستماع للقصة ذاتها كل مساء؟ إنها جملة من تساؤلات شغلت بال الكاتبة والمؤرخة الفرنسية "لور ميغاط" Laure Murat والتي حاولت الإجابة عنها في كتابها "إعادة القراءة : تحقيق في الشغف الأدبي" (Relire : Enquête sur une passion littéraire) الصادر عن دار النشر "فلامغيون" (Flammarion) الباريسية.


تسعى الكاتبة في هذا العمل إلى معرفة الدوافع الكامنة وراء فعل "إعادة القراءة" (Relire)، وذلك من خلال إجراء تحقيق شامل، ومسح دقيق شمل مجموعة من الشهادات لكبار المؤلفين باعتبارهم قراء متميزين. وتشير إلى أن "غوستاف فلوبير" (Gustave Flaubert) كتب سنة 1847م عن تحفة "سيرفانتيس" (Cervantès) "لقد أعدت الآن قراءة الدونكشوت  Don Quichotte  أنا مندهش (...) يا له من كتاب ! يا له من كتاب"! لقد عبّر "فلوبير" عن هوسه بقراءة هذا الكتاب مرات متكررة، فلم يكف طيلة حياته بزج نفسه في هذه الرواية بشكل شامل "إنه كتاب لإعادة القراءة بامتياز، إنه مكتبة محمولة في حد ذاتها". وقد عززت الكاتبة تحقيقها بأرقام وإحصاءات تكشف من خلالها عن أهم الكتب مقروئية، تلك التي تُقرأ أكثر من مرة، خصوصاً الأعمال الخالدة التي بصمت تاريخ الإبداع الأدبي العالمي كأعمال "بروست" Proust، و"فلوبير" Flaubert، و"بودلير" Baudelaire، و"شكسبير" Shakespeare، و"بلزاك" Balzac، و"بارت" Barthes ... إلخ.

واعتمدت الكاتبة في هذا التحقيق على عشرات المقابلات مع كبار الكتاب المعاصرين، من أمثال: "كرستين أنغوت" Christine Angot، "باتريك شاموازو"Patrick Chamoiseau، "جون إشينوز" Jean Echenoz، "أني إغنو" Annie Ernaux، وقد لامس التحقيق جوانب مختلفة من تجربتهم الحميمية مع فعل إعادة القراءة، تقول "ليندا لي" linda lé مثلاً إن "بعض الكتب لا تكشف عن معناها إلا من خلال قراءة ثانية أو ثالثة". وقد بيّنت "لور ميغاط" أن أغلب هؤلاء الكُّتَاب الذين شملهم الإحصاء يعيدون قراءة الكتب إما لضرورة مهنية، أو من أجل تحقيق المتعة واللذة.

يتضمن الكتاب أيضاً سرداً لتجربة الكاتبة مع إعادة القراءة، وذلك عندما كانت تتابع دراستها الأدبية، وقد تولَّدت لديها هذه الفكرة من خلال استحضارها لتجربة شخصية تتمثل في معاينتها باندهاش وهي في مقتبل العمر عرضاً مسرحياً سنة 1987 بدار الأوبرا l’Opéra Comique، وستكون المفاجئة بعد مرور ربع قرن، حيث ستشاهد الكاتبة العرض نفسه بـ"فيرساي" Versailles، وتكتشف أن بعض المشاهد المسرحية قد تغيرت وأخرى حذفت، لقد خلف لديها هذا التغيير إحباطاً وخيبة أمل، غير أن هذا الإحباط سرعان ما تحول إلى دافع لإنجاز تحقيق حول إعادة القراءة وبيان دورها الحاسم.

تلح الكاتبة وأستاذة الأدب "لور ميغاط" على طلابها بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس إعادة قراءة القصائد والروايات والمقالات، وتعتبر هذا الأمر ضرورياً لامتلاك المعنى، إضافة إلى التحقق من المعلومات، وتعقب الأخطاء والهفوات، والاستمتاع مرة أخرى بالنص، وإعادة النظر فيه. وتشير إلى أننا نحافظ على الكتب على الرغم من قراءتها، وذلك بهدف إعادة قراءتها من جديد يوماً ما. وتؤكد أن "إعادة القراءة" هي التي تحقق للكتاب وجوده وكينونته، وتبعثه من مرقده وتحييه مرة أخرى. فهذا الفعل معيار ضروري لتحديد الأدب من عدمه.

لقد سبق لـ"رولان بارت" R. Barthes أن تحدث عن القراءة واللذة التي يُحصِّلُها القارئ أثناء قيامه بهذا الفعل. فالقارئ يعيد القراءة مرة ثانية لأن النص لا يكشف من الوهلة الأولى عن أسراره وخباياه، كما أنه لا يقول كل شيء دفعة واحدة، ولهذا اعتبر "إمبرتو إيكو" Umberto Eco أن إحدى سمات النص أنه "آلة كسولة تقتضي من القارئ تعاوناً حثيثاً لملء فضاءات المسكوت عنه"، فالقراءة الثانية تستنطق النص وتظهر المخفي فيه.

تنطلق الكاتبة من كلام لـ"أوسكار ويلد" Oscar Wilde والذي يقول فيه : "إذا لم نتمكن من العثور عن المتعة في قراءة الكتب وإعادة قراءتها؛ فإنه لا جدوى من قراءة هذه الكتب". لتقر بأن هذه المعاودة لفعل القراءة هي بمثابة تكريم للأدب والأدباء على حد سواء. وتصرح بأن الكتاب الجيد يفرض على قارئه إعادة القراءة، وهذا ما يجعل من القراءة نشاطاً حيوياً ومتجدداً، يتجدد بتجدد القراءة، باعتبار أن القراءة السابقة تختلف عن اللاحقة، وهذا ما لاحظته الكاتبة مثلاً في كتاب "البحث" (La Recherche) لـ"مارسيل بروست"، فالبعض يعيد قراءة هذا الكتاب وكأنه طقس من الطقوس المقدسة، أو حج إلى أراضٍ مباركة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها